هل نريد زعماء أقوياء؟

نشر في 10-06-2016
آخر تحديث 10-06-2016 | 00:00
في بدايات تأسيس الولايات المتحدة أدرك جيمس ماديسون وغيره من مؤسسي الدولة الجديدة آنذاك أن المؤسسات لابد أن تكون مصممة لتعزيز القيود لا الزعماء والأتباع، وقد خلصوا من دراستهم للجمهورية الرومانية القديمة أن المطلوب لمنع صعود زعيم متغطرس مزهو بنفسه مثل يوليوس قيصر يتلخص في إنشاء إطار مؤسسي يقوم على الفصل بين السلطات.
 بروجيكت سنديكيت يبدو أن اتجاها نحو قدر أعظم من السلطوية بدأ ينتشر في مختلف أنحاء العالم، فقد استخدم فلاديمير بوتين القومية بنجاح لإحكام قبضته على روسيا، ويبدو أنه يتمتع بشعبية أكبر الآن، ويُعَد شي جين بينغ أقوى زعماء الصين منذ ماو تسي تونغ، وهو يتولى شخصيا قيادة عدد متزايد من لجان اتخاذ القرارات الحاسمة. وأخيرا قرر رجب طيب إردوغان في تركيا تغيير رئيس وزرائه، فاستعاض عنه برئيس وزراء آخر أكثر امتثالا وتوافقا مع سعيه إلى تركيز السلطة التنفيذية، ويخشى بعض المعلقين أن يُثبِت دونالد ترامب، في حال فوزه بالرئاسة الأميركية في نوفمبر أنه "موسوليني الأميركي".

الواقع أن إساءة استغلال السلطة ممارسة قديمة قِدَم التاريخ البشري، فيذَكِّرُنا الكتاب المقدس كيف قام ديفيد، بعد أن أوقع الهزيمة بجالوت وأصبح مَلِكا، بإغواء بثشبع وإرسال زوجها عمدا إلى الموت المحقق في المعركة. إن الزعامة تنطوي على استخدام السلطة، وكما حَذَّر لورد أكتون في تعليقه الشهير فإن السلطة تفسد حقا، ولكن القائد الذي يفتقر إلى السلطة، القدرة على حَمل الآخرين على القيام بما يريد، يعجز عن ممارسة القيادة.

ذات يوم مَيَّز عالِم النفس ديفيد مكليلاند من جامعة هارفارد بين ثلاث مجموعات من الناس وفقا لدوافعهم، فأولئك الذين يولون القدر الأعظم من الاهتمام لإنجاز المهام بشكل أفضل تحركهم "الحاجة إلى الإنجاز"، وأولئك الأكثر اهتماما بالعلاقات الودية مع الآخرين تحركهم "الحاجة إلى الارتباط"، أما أولئك الأكثر اهتماما بالتأثير على الآخرين فيُظهِرون "الحاجة إلى السلطة".

وقد تبين أن المنتمين إلى المجموعة الثالثة هم الزعماء الأكثر فعالية، وهو ما يعيدنا إلى أكتون، بيد أن امتلاك السلطة ليس أمرا طيبا أو سيئا في حد ذاته، بل الأمر أشبه بالسعرات الحرارية في النظام الغذائي، فالإقلال منها يؤدي إلى الضَعف والهزال، والإكثار منها يؤدي إلى السمنة والبدانة، والنضج العاطفي والتدريب من الوسائل المهمة للحد من شهوة السلطة النرجسية، كما تشكل المؤسسات المناسبة ضرورة أساسية لإيجاد التوازن الصحيح، ومن الممكن أن تعزز كل من الأخلاق والسلطة بعضهما.

ولكن الأخلاق قد تستخدم أيضا كأداة لزيادة السلطة، إذ تناول مكيافيللي أهمية الأخلاق للقادة والزعماء، ولكن في المقام الأول ما يتصل منها بالانطباع الذي يخلفه الاستعراض المرئي للفضيلة على الأتباع، إذ يشكل مظهر الفضيلة مصدرا مهما للقوة الناعمة التي يتمتع بها الزعيم أو القدرة على الحصول على ما يريد بتوظيف جاذبيته لا القهر أو تقديم المقابل. والواقع أن فضائل الأمير في نظر مكيافيللي لابد أن تكون ظاهرة، ولكن ليست حقيقية أبدا: "بل سوف أتجرأ حتى على التأكيد على أن امتلاكه وممارسته لهذه الفضائل على نحو ثابت يجعلها ضارة مؤذية، في حين يكون مظهر امتلاكها مفيدا".

كما أكَّد مكيافيللي أهمية قوة القهر الصارمة وتقديم المقابل عندما يواجه الزعيم مقايضة مع قوة الجذب الناعمة، "لأن كونه محبوبا يتوقف على رعاياه، في حين يعتمد كونه موضع خشية عليه شخصيا"، ويعتقد مكيافيللي أنه عندما يضطر المرء إلى الاختيار، فمن الأفضل أن يكون موضع خشية على أن يكون محبوبا، ولكنه فهم أيضا أن الخوف والحب ليسا ضدين، وأن عكس الحب، الكراهية، يشكل خطورة على الزعماء بشكل خاص.

كان العالَم الفوضوي في الدولة المدنية في عصر النهضة الإيطالي أكثر عنفا وخطورة من الديمقراطيات اليوم، ولكن عناصر نصيحة مكيافيللي تظل على أهميتها لزعماء العصر الحديث، وبالإضافة إلى شجاعة الأسد أطرى مكيافيللي أيضا على الخداع الاستراتيجي الذي يتمتع به الثعلب، والحق أن المثالية في غياب الواقعية نادرا ما تعيد تشكيل العالم، ولكن عندما نحكم على زعماء الديمقراطية في عالَمنا المعاصر، ينبغي لنا أن نضع نصائح كل من مكيافيللي وأكتون نصب أعيننا. ويتعين علينا أن نبحث عن، وندعم، الزعماء الذين يمتلكون العنصر الأخلاقي المتمثل بضبط النفس والحاجة إلى الإنجاز والارتباط فضلا عن الحاجة إلى السلطة.

ولكنْ هناك جانب آخر من معضلة أكتون فضلا عن الجانب المتمثل بأخلاق الزعماء: وهو جانب مطالب الأتباع، فالزعامة تتألف من مزيج من سمات القيادة، والأتباع، والمطالب، والسياق الذي تتفاعل في إطاره كل هذه العناصر. فالشعب الروسي الذي يشعر بالقلق والانزعاج إزاء مكانة روسيا؛ والشعب الصيني القَلِق حيال الفساد المستشري؛ والشعب التركي المنقسم حول العِرق والدين: كل هذا يخلق بيئة تعمل على تمكين الزعماء الذين يشعرون بالحاجة النفسية إلى السلطة. وعلى نحو مماثل، يلجأ ترامب، في إشباع حاجته النرجسية إلى السلطة، إلى تضخيم حالة السخط والاستياء بين شريحة من السكان من خلال الاستغلال الذكي للبرامج الإخبارية التلفزيونية ووسائل الإعلام الاجتماعي.

وهنا تؤدي المؤسسات دورا حاسما، ففي بدايات تأسيس الولايات المتحدة، أدرك جيمس ماديسون وغيره من مؤسسي الدولة الجديدة آنذاك أن المؤسسات لابد أن تكون مصممة لتعزيز القيود وليس الزعماء والأتباع من الملائكة. وقد خلصوا من دراستهم للجمهورية الرومانية القديمة أن المطلوب لمنع صعود زعيم متغطرس مزهو بنفسه مثل يوليوس قيصر يتلخص في إنشاء إطار مؤسسي يقوم على الفصل بين السلطات، حيث يوازن كل فصيل الآخر. وكانت استجابة ماديسون لإمكانية ظهور "موسيليني أميركي" متمثلة بنظام الضوابط والتوازنات المؤسسية التي تضمن أن الولايات المتحدة لن تشبه أبدا إيطاليا في عام 1922، أو روسيا أو الصين أو تركيا اليوم.

كان المؤسسون الأميركيون يتصارعون مع المعضلة المتمثلة بتحديد مدى القوة التي نريد أن يكون عليها زعماؤنا، وكانت استجابتهم مصممة لصيانة الحرية لا تعظيم كفاءة الحكومة، وقد اشتكى العديد من المعلقين من الفساد المؤسسي، في حين أشار آخرون إلى التغيرات، مثل ظهور برامج تلفزيون الواقع ووسائل الإعلام الاجتماعي، التي جعلت الخطاب العام خشنا فظا، وفي وقت لاحق من عامنا هذا قد نكتشف مدى صمود الإطار الذي وضعه المؤسسون الأميركيون للسلطة والزعامة حقا.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «قوى الزعامة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top