علي نور الدين يهرب بجاريته «أنيس الجليس»

نشر في 11-06-2016
آخر تحديث 11-06-2016 | 00:05
في الحلقة السادسة، من «ألف ليلة وليلة» نستكمل مع شهرزاد قصة الأمير علي نور الدين، ابن الوزير الراحل الفضل بن خاقان، مع الجارية «أنيس الجليس»، وكيف ارتكب الأمير من الأخطاء، ما جعله يفقد أمواله كلها، ويضطر إلى بيع حبيبة قلبه وزوجته «أنيس الجليس»، في سوق النخاسة.
وكان الوزير الراحل الفضل بن خاقان والد نور الدين، اشترى الجارية «أنيس الجليس» بعشرة آلاف دينار واحتفظ بها لابنه قبل أن يزوجها له ويوصيه عليها قبل أن يموت، لكنه لأسباب كثيرة لم يحفظ وصية والده، ففوجئ بألد أعداء الوالد وهو الوزير «المعين بن ساوي» يحاول شراء الجارية.
لما كانت الليلة المئتان، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، أن الجارية أنيس الجليس قالت لزوجها علي نور الدين: يا سيدي عندي من الرأي أن تقوم في هذه الساعة وتنزل بي إلى السوق فتبيعني، وأنت تعلم أن والدك اشتراني بعشرة آلاف دينار، فلعل الله يفتح عليك ببعض هذا الثمن، وإذا قدر الله أن نجتمع، فإننا سنجتمع. فقال لها: يا أنيس الجليس ما يهون عليّ فراقك ساعة. فقالت له: ولا أنا، لكن للضرورة أحكاماً. عند ذلك سالت دموعه على خديه، وأنشد هذين البيتين

قفوا زودوني نظرة قبل بينكم

أعلل قلبا كاد بالبين يتـــــــلف

فإن كان تزويدي بذلك كلفة

دعوني في وجدي ولا تتكلفوا

ثم مضى وسلمها إلى الدلال وقال له: أعرف مقدار ما تنادي عليه، فقال له الدلال: يا سيدي علي نور الدين الأصول محفوظة. ثم سأله: أما هي أنيس الجليس التي كان والدك قد اشتراها مني بعشرة آلاف دينار؟ أجاب: نعم. عند ذلك طلع الدلال إلى التجار، فوجدهم لم يجتمعوا كلهم، وانتظر وقتاً قصيراً حتى اجتمع سائر التجار، وامتلأ السوق بسائر أجناس الجواري من تركية ورومية وشركسية وجرجية وحبشية.

لما نظر الدلال إلى ازدحام السوق، نهض قائماً وقال: يا تجار، يا أرباب الأموال، ما كل مدور جوزة، ولا كل مستطيلة موزة، ولا كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة، ولا كل صهباء خمرة، ولا كل سمراء تمرة. يا تجار، هذه هي «الدرة اليتيمة» التي لا تفي الأموال لها قيمة، بكم تفتحون باب الثمن؟ فقال واحد: بأربعة آلاف دينار، وقال آخر: بأربعة آلاف دينار وخمسمئة، ثم إذا بالوزير «المعين بن ساوي» قد جاء إلى السوق، فلما نظر إلى علي نور الدين واقفاً، قال لنفسه: ما باله واقفا فإنه ما بقي عنده شيء يشتري به جواري. ثم سمع المنادي وهو واقف ينادي التجار حوله. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

مشورة الدلال

لما كانت الليلة الأولى بعد المئتين، قالت: شهرزاد بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن الوزير الظالم المعين بن ساوي، دعا المنادي فأقبل إليه، وقبل الأرض بين يديه، فقال له: أريد هذه الجارية التي تنادي عليها، فلم يمكنه المخالفة، وجاء بالجارية وقدمها بين يديه، فلما نظر إليها وتأمل محاسنها من قامتها الرشيقة وألفاظها الرقيقة، أعجبته وسأله: إلى كم وصل ثمنها؟ فأجاب: أربعة آلاف وخمسمئة دينار. فلما سمع ذلك التجار ما قدر واحد منهم أن يزيد درهماً، بل تأخروا جميعاً لما علموا من ظلم ذلك الوزير. ثم نظر الوزير المعين بن ساوي إلى الدلال وقال له: ما سبب وقوفك؟ اذهب والجارية عليّ بأربعة آلاف دينار، ولك خمسمئة دينار، فراح الدلال إلى علي نور الدين وقال له: يا سيدي راحت الجارية عليك بلا ثمن، فقال له: ما سبب ذلك؟ قال له: نحن فتحنا باب سعرها بأربعة آلاف دينار وخمسمئة، فجاء هذا الظالم المعين بن ساوي ودخل السوق، فلما نظر إلى الجارية أعجبته، وقال لي: هي عليّ بأربعة آلاف دينار ولك خمسمئة، وما أظنه إلا عرف أن الجارية لك، فإن كان يعطيك ثمنها في هذه الساعة يكون ذلك من فضل الله. لكن أنا أعرف من ظلمه أنه يكتب لك ورقة بالثمن على بعض عملائه، ثم يرسل إليهم ويقول: لا تعطوه شيئاً. فكلما ذهبت إليهم لتطالبهم يقولون: في غد نعطيك، ولا يزالون يعدونك ويخلفون يوماً بعد يوم، إلى أن يضجروا من مطالبتك إياهم ويقولوا: أعطنا ورقة الحوالة، فإذا أخذوا الورقة منك قطعوها وراح عليك ثمن الجارية.

لما سمع علي نور الدين من الدلال هذا الكلام، نظر إليه وسأله: كيف العمل؟ فأجاب: أنا أشير عليك بمشورة فيها لك الحظ الأوفر، تجيء عندي وأنا واقف في وسط السوق وتأخذ الجارية من يدي قائلا لها: ها قد بررت بيميني التي حلفتها فنزلت بك السوق ونادى الدلال عليك كما حلفت، ثم تنصرف بها فربما تدخل عليه الحيلة وعلى الناس ويعتقدون أنك ما أنزلتها السوق إلا ليمين حلفتها. فقال علي: هذا هو الرأي الصواب.

ثم فارقه الدلال وجاء إلى وسط السوق وأمسك يد الجارية وأشار إلى الوزير المعين بن ساوي وقال: يا مولاي هذا مالكها قد أقبل. ثم جاء علي نور الدين إلى الدلال ونزع الجارية من يده وقال لها: الآن وقد بررت بيميني، هيا معي إلى البيت وإياك أن تخالفيني بعد ذلك.

لما نظر المعين بن ساوي إلى نور الدين وسمع كلامه للجارية، أراد أن يبطش به، وكان نور الدين شجاعاً فجذب الوزير من فوق سرجه فرماه على الأرض، فوقع في معجنة طين. ثم أخذ نور الدين يلكمه فجاءت لكمة على أسنانه فاختضبت لحيته بدمه، وكان مع الوزير عشرة مماليك فلما رأوا ما فعل نور الدين بسيدهم وضعوا يديهم على مقابض سيوفهم، وأرادوا أن يهجموا عليه ويقطعوه. فقال التجار لهم: إنهما وزير وابن وزير، ومتى اصطلحا تكونون مبغوضين عند كل منهما، فمن الرأي ألا تدخلوا بينهما.

فخ ابن ساوي

لما فرغ علي نور الدين من ضرب الوزير «المعين بن ساوي»، أخذ جاريته ومضى إلى داره. أما الوزير فقام من ساعته وكان قماش ثيابه أبيض فصار ملوناً بثلاثة ألوان: لون الطين، ولون الدم، ولون الرماد، فلما رأى نفسه على هذه الحالة أخذ برشاً وجعله في رقبته، وأخذ في يده حزمتين من الحلفا، وسار إلى أن وقف تحت القصر الذي فيه السلطان وصاح: يا ملك الزمان مظلوم. فأحضروه بين يديه، ولما عرف أنه وزيره المعين بن ساوي، قال له: من فعل بك هذه الفعال؟ فبكى وانتحب وأنشد هذين البيتين:

أيظلمني الزمان وأنت فيــــه

وتأكلني الكلاب وأنت ليــــــث

ويروي من حياضك كل صاد

وأعطش في حماك وأنت غيث

لما فرغ الوزير من إنشاده قال: يا سيدي أهكذا كل من كان يحبك ويخدمك تجري له هذه المشاق؟ فسأله السلطان: من فعل بك هذه الفعال؟ فأجاب الوزير: اعلم أني خرجت اليوم إلى سوق الجواري لعلي أشتري جارية طباخة، فرأيت في السوق جارية ما رأيت طول عمري مثلها، وعلمت من الدلال أنها لعلي بن خاقان، وكان مولانا السلطان قد أعطى إياه عشرة آلاف دينار ليشتري له بها جارية مليحة، فاشترى تلك الجارية ولكنها أعجبته فأعطاها لولده.

لما مات أبوه سلك طريق الإسراف حتى باع جميع ما عنده من أملاك وبساتين، فأفلس ولم يبق عنده شيء، فنزل بالجارية إلى السوق ليبيعها، وتزايد فيها التجار حتى بلغ ثمنها أربعة آلاف دينار، فقلت لنفسي: أشتري هذه لمولانا السلطان فإن أصل ثمنها كان من عنده فقلت له: يا ولدي خذ ثمنها أربعة آلاف دينار، فلما سمع كلامي نظر إليّ وقال: يا شيخ النحس أن أبيعها لليهود والنصارى ولا أبيعها لك. فقلت: أنا ما أشتريها لنفسي وأنما أشتريها لمولانا السلطان الذي هو ولي نعمتنا.

لما سمع مني هذا الكلام جذبني ورماني عن الجواد وأنا شيخ كبير، ولم يزل يضربني حتى تركني كما تراني، وأنا ما أوقعني في هذا كله إلا أني أردت أن أشتري هذه الجارية لك. ثم رمى الوزير نفسه على الأرض وظل يبكي ويرتعد، فلما نظر السلطان حالته وسمع مقالته، تملكه الغضب وظهر على وجهه، ثم التفت إلى أرباب الدولة وقال لهم: انزلوا في هذه الساعة إلى دار ابن خاقان وانهبوها واهدموها، وأئتوني به وبالجارية مقيدين. فقالوا: السمع والطاعة. ثم ساروا لتنفيذ الأمر، وكان عند السلطان حاجب يقال له “علم الدين سنجر”، أصله من مماليك الفضل بن خاقان والد علي نور الدين، فلما سمع أمر السلطان أشفق على ابن سيده القديم، فركب جواده وسار إلى أن أتى بيت علي نور الدين وطرق الباب، فخرج له نور الدين وعرفه وأراد أن يسلم عليه، فقال له: يا سيدي ما هذا وقت سلام ولا كلام، واسمع ما قال الشاعر:

ونفسك فُز بها إن خفت ضيماً

وخل الدار تنعي من بناها

فإنك واجد أرضــــــا بأرض

ونفسك لم تجد نفـــــــساً ســواها

 

دار السلام

 

لما سأله نور الدين عن الخبر، قال له: انهض وفز بنفسك أنت والجارية، فإن المعين بن ساوي نصب لكما شركاً ومتى وقعتما في يده قتلكما، وقد أرسل إليكما السلطان أربعين ضارباً بالسيف، والرأي عندي أن تهربا قبل أن يحل الضرر بكما.

ثم مدّ سنجر يده إلى نور الدين بأربعين ديناراً وقال له: لو كان معي أكثر من ذلك لأعطيتك إياه، لكن ما هذا وقت معاتبة. عند ذلك دخل نور الدين على الجارية وأعلمها بالأمر ثم خرجا إلى ظاهر المدينة، وأسبل الله عليهما ستره حتى وصلا إلى ساحل البحر ووجدا سفينة تهم بالسفر والريس واقف في وسطها يقول: من بقي له حاجة من وداع أو نسي حاجة فليأت بها فإننا متوجهون. فقالوا كلهم: لم يبق لنا حاجة يا ريس. عند ذلك قال الريس لجماعته: هيا حلوا الطرف وأقلعوا الأوتاد. فسأله علي نور الدين: إلى أين يا ريس؟ فأجابه: إلى دار السلام بغداد.

لما كانت الليلة الثانية بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن علي نور الدين نزل ومعه الجارية إلى السفينة، فنشرت القلوع واندفعت كما قال في مثلها الشاعر:

انظر إلى مركب يسبيك منظره

يسابق الريح في سير بســــــراء

كأنه طائر قد مد أجنحـــــــــــة

أتى من الجو منقضــاً على الماء

أما ما جرى للأربعين الذين أرسلهم السلطان، فإنهم جاؤوا إلى بيت علي نور الدين، فكسروا الأبواب ودخلوا، فلم يقفوا على أثر له أو للجارية، فهدموا الدار ورجعوا وأعلموا السلطان بذلك، فقال: اطلبوها في كل مكان. فقالوا: السمع والطاعة. ثم نزل الوزير المعين بن ساوي إلى بيته بعد أن خلع عليه السلطان خلعة وقال له: لا يأخذ بثأرك إلا أنا. فدعا له بطول البقاء واطمأن قلبه. ثم أمر السلطان أن ينادى في المدينة: يا معشر الناس كافة، قد أمر السلطان أن من يعثر على علي نور الدين بن خاقان وجاء به إلى السلطان خلع عليه خلعة وأعطاه ألف دينار، ومن أخفاه أو عرف مكانه ولم يخبر به فإنه يستحق ما يجري عليه من النكال.

فجد جميع الناس في التفتيش عن علي نور الدين، لكنهم لم يعرفوا له أثراً، إذ كان قد وصل ومعه جاريته أنيس الجليس إلى بغداد وقال لهما الريس: هذه مدينة أمينة قد ولى عنها الشتاء ببرده، وأقبل عليها فصل الربيع بوروده، وأزهرت أشجارها، وجرت أنهارها، فأعطياه خمسة دنانير، وسارا قليلا بين البساتين حتى وصلا إلى مكان وجداه مكنوساً مرشوشاً بمصاطب مستطيلة، وقواديس معلقة ملآنة بالماء وفوقه مكعب من القصب بطول الزقاق، في صدره باب بستان مغلق. فقال نور الدين للجارية: والله إن هذا محل مليح. فقالت: يا سيدي اقعد بنا ساعة هنا. ثم جلسا وغسلا وجهيهما وأيديهما واستلذا بمرور النسيم فناما، وجل من لا ينام.

بستان النزهة

كان البستان يسمى بستان النزهة، وفيه قصر يقال له قصر الفرجة للخليفة هارون الرشيد، يقصده إذا ضاق صدره، وله ثمانون شباكاً، وفيه ثمانون قنديلاً، وفي وسطه شمعدان كبير من الذهب، فإذا دخله الخليفة أمر الجواري أن يفتحن الشبابيك، وأمر إسحق النديم والجواري بالغناء، فينشرح صدره ويزول همه.

وكان للبستان خولي شيخ كبير يقال له الشيخ إبراهيم، وقد أمر الخليفة بالقبض على كل من يجدهم في البستان من النساء وأهل الريبة. فلما كان ذلك اليوم خرج الشيخ إبراهيم الخولي لقضاء حاجة عرضت له، فوجد نور الدين وجاريته نائمين على باب البستان، وفوقهما إزار واحد، فقال: أعطاني الخليفة إذنا بقتل كل من لقيته هنا، ولكني سأضرب هذين ضرباً خفيفاً حتى لا يقربا باب البستان مجدداً.

ثم قطع جريدة خضراء ورفع بها يده حتى بان بياض إبطه وأراد ضربهما، لكنه قال لنفسه: كيف أضربهما ولم أعرف حالهما، وقد يكونان غريبين أو من أبناء السبيل ورمتهما المقادير هنا؟ ثم كشف وجهيهما ونظر إليهما وقال: هذان مليحان لا ينبغي أن أضربهما. ثم فتح نور الدين عينيه، فلما رأى الخولي الشيخ غلبه الحياء واستوى قاعداً، وأخذ يد الشيخ إبراهيم فقبلها، فقال له: يا ولدي من أين أنتما؟ فقال له: يا سيدي نحن غريبان، وفرت الدموع من عينيه.

قال له الشيخ إبراهيم: يا ولدي اعلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أوصى بإكرام الضيف، فهيا أدخلا البستان لينشرح صدركما. فقال له نور الدين: لمن هذا البستان؟ فأجابه: هذا البستان ورثته من أهلي، وقصد بهذا أن يطمئنهما. فلما سمع نور الدين كلامه شكره.

لما كانت الليلة الثالثة بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن نور الدين لما سمع كلام الشيخ، وقام هو وجاريته، ودخلا معه البستان، فإذا بابه مقنطر عليه كروم، وأعنابه مختلفة الألوان: الأحمر كأنه ياقوت، والأسود كأنه أبانوس، والأبيض كأنه اللؤلؤ.

وقد أينعت فيه الثمار، وغردت الأطيار على غصون الأشجار، فالهزار يترنم بأعذب الألحان، والقمري ملأ بصوته المكان، والشحرور كأنه في تغريدة إنسان، والفاخت كأنه شارب نشوان وفي البستان من كل فاكهة زوجان. والمشمش ما بين كافوري ولوزي ومشمش خراسان، والبرقوق كأنه شفاه الحسان، والقراصية تفتن بمنظرها كل إنسان، والتين جمع أحسن الألوان، والورد والزهر كاللؤلؤ والمرجان، والبنفسج كالكبريت دنا من النيران، وهناك الآس والخزامى وشقائق النعمان، وقد ضحك ثغر الإقحوان، ونظر النرجس إلى الورود بعيون السودان، والنهر في خرير، والطير في هدير، والريح في صفير. ثم دخل بهما الشيخ إبراهيم القاعة المغلقة فابتهجا بحسن ما فيها من اللطائف الغريبة.

وإلى حلقة الغد

السلطان يأمر بالقبض على الزوج الفقير وهو على متن مركب متجه إلى دار السلام «بغداد»

ابن خاقان يضرب الوزير ويوقعه من فوق الحصان فيستجير بالسلطان

المعين بن ساوي نصب لهما شركاً حتى يقتلهما والسلطان أرسل ٤٠ ضارباً بالسيف

علي نور الدين وجاريته يصلان إلى حديقة غناء في بغداد وينامان من التعب بين الأشجار
back to top