الهجرة والحياة في بلاد العم سام، هو الحلم الأول لغالبية الشباب المصري، ومروان الذي أكمل عامه الخامس والعشرين، أحد هؤلاء الشبان الذين يحلمون بحياة أفضل. رغم أنه لم يكن فقيراً بل من أسرة ميسورة الحال، فإنه تعلق بالحلم الأميركي ورغب في السفر مع أن والده ترك قبل وفاته ثروة ضخمة وفرت لمروان احتياجاته كافة. وكانت والدته هادية أيضاً من أسرة ميسورة، ولم يكن لديها غير وحيدها الذي يعيش معها في شقتهما بحي المهندسين الراقي في محافظة الجيزة.

لم يكن غرضه من السفر إلى أميركا المال، بينما كانت أزمته الرئيسة هي الحب. بعدما أنهى مروان دراسته في كلية التجارة، بدأ العمل كمحاسب تحت التمرين في أحد البنوك الأميركية في مصر، وهناك سقط الشاب الثري من النظرة الأولى في غرام زميلته في البنك «كريستين»، فتاة أميركية حسناء بادلته الحب. بعد فترة وجيزة عرض عليها الزواج، صمتت ولم ترد، فأدرك أن السكوت عند الأميركيات لا يعني الرضا بل الرفض. سألها إن كانت ما زالت تحبه فأكدت له أنها بالفعل تحبه وتتمنى الزواج منه اليوم قبل غد.

Ad

علت علامات الدهشة قسمات وجه مروان وسألها:

- أين المشكلة إذاً؟

أجابت كريستين بصراحة: الإقامة هنا في مصر. أنا لا أستطيع أن أعيش هنا طول العمر.

فهم مروان قصد محبوبته الشقراء، وأدرك أنها محقة، فالفرق بين الحياة في مصر والحياة في الولايات المتحدة الأميركية شاسع من النواحي كافة، وهنا قال لها من دون تردد:

- وأنا لا أستطيع أن أعيش الحياة من دونك. نتزوج ونعيش في بلادك.

طارت الأميركية الشقراء من الفرح، واتفق الحبيبان على الزواج والسفر للعيش في أرض الأحلام. لم يكن ثمة عائق لإتمام الزواج سوى مفاتحة والدته مدام هادية في الأمر. كيف سيقنعها أن تهاجر معه إلى أميركا؟ كان واثقاً من نجاحه في إقناع والدته بالسفر معه، خصوصاً انها لا أقارب لها أو أصدقاء ترتبط بهم في مصر. وما زاد من ثقته في موافقة والدته هو حبها الشديد له وارتباطها به ارتباطاً خيالياً.

عرض مروان على والدته الفكرة، ولكن تمثلت المفاجأة، في رفض مدام هادية الهجرة، قالت لوحيدها بصوت حزين: «مش هأقدر يا مروان أعيش في بلد غريبة في أواخر أيامي. سافر أنت يا حبيبي، وشوف مستقبلك واستمتع بحبك وبحياتك، وما تقلقش عليَّ. أنا هأكون بخير طول ما أنت بخير».

لم يرد مروان. كان يعلم جيداً أن كلمات أمه خارجة من وراء قلبها، ولكنه كان في حيرة شديدة، واختيار صعب، بل وصعب جداً، بين محبوبته ومستقبله والحياة في آفاق أرحب، وبين أمه التي أنفقت سنوات عمرها في تربيته، ورفضت مغريات الزواج بعد وفاة والده لتوفر جهدها لوحيدها.

رهان خاسر

أمام باب المسافرين، طبعت مدام هادية قبلة فاترة على خد كريستين، زوجة ابنها، وفي صمت أبلغ من الكلام، انهمرت دموعها وهي تودع ابنها الوحيد الذي قرر الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وقفت الأم العجوز، تحتضن وحيدها بقوة في رسالة منها ألا يتركها بمفردها في الدنيا، بعدما أفنت عمرها في تربيته بعد وفاة والده، ولكن الابن لم يفهم الرسالة، حمل حقائبه وانطلق مسرعاً إلى الطائرة التي ستقله إلى أرض الأحلام. شعرت كأن الأميركية الشقراء خطفت ابنها الوحيد.

في الطريق من المطار إلى شقتها بحي المهندسين، ملأت الدموع قلب الأم العجوز. كانت تراهن نفسها على أن وحيدها سيعدل عن قراره بالرحيل بعيداً عنها في اللحظات الأخيرة، ولكن ها هو لا يلتفت إلى حسرتها ويصر على السفر، لتخسر الأم رهانها وتبقى وحيدة في آخر أيامها. بكت مدام هادية طويلا، وأحست بأنها لن تستطيع دخول شقتها في ظل غياب وحيدها وابن عمرها، فطلبت من سائق سيارتها الخاصة أن يتوجه بها إلى النادي الشهير بقلب القاهرة، لتمضي فيه ساعات النهار الطويلة المملة.

كعادتها، انزوت مدام هادية في ركن بعيد عن الضوضاء داخل نادي أولاد الذوات. لم يكن لها أصدقاء حتى تجلس إليهم وتحكي لهم أحزانها فغالبية صديقاتها رحلن عن الدنيا، ومن بقين منهن على قيد الحياة أقعدتهن أمراض الشيخوخة. جلست تحتسي كوبا من الشاي في هدوء، ودموعها تبلل وجنتيها في صمت، غارقة في أحزانها لم تلتفت إلى السيدات الجالسات في المنضدة المجاورة لها، واللواتي لمحن دموعها المنهمرة، فأسرعن إليها من دون سابق معرفة للاطمئنان عليها، والاستعلام إذا كانت تحتاج إلى شيء.

شلة النادي

اقتربت أربع سيدات من مدام هادية وجلسن معها. كانت أكبر واحدة فيهن في الثمانين من عمرها، بينما تراوحت أعمار الثلاث الأخريات بين الثامنة والستين والخامسة والسبعين. ومن دون أن تدري فتحت قلبها لهن، وقصت عليهن أحزانها، فترقرقت الدموع في العيون، وتذكرت كل واحدة منهن مأساتها وهجر الأبناء وابتعادهم.

ولأن الهم بين السيدات ومدام هادية كان مشتركاً توطدت علاقتهن بها وصرن صديقات لها وتواعدن معها على اللقاء يومياً داخل أروقة النادي لممارسة رياضة المشي في الصباح، وتناول وجبة الغذاء في الظهيرة. ولكن بقيت الفترة المسائية بلا هدف لهن جميعاً، فراحت كل واحدة منهن تبحث عن وسيلة لشغل وقت الفراغ الليلي، عندما ينام الناس وتبدأ الذكريات في التداعي.

جاءت إحداهن بالفكرة، قالت: «إحنا ممكن نتقابل كل مرة في بيت واحدة مننا ونقعد نتكلم بعيداً عن النادي ودوشته». راقت الفكرة لكل السيدات المسنات، ولكن ظلت المشكلة كيف سيقضين أوقات الليل الطويلة، ولم تجد إحداهن الإجابة إلا مع أول زيارة لمنزل مدام هادية في حي المهندسين، حيث كانت أولى سهرات شلة المسنات.

جلسن جميعاً تتبادلن أطراف الحديث، روت كل واحدة منهن حكايتها للمرة العشرين، قالت إحداهن بصوت حزين:

«كان زوجي طبيباً شهيراً، تزوجنا بعد قصة حب كبيرة ورزقنا الله بابنة واحدة تشبه القمر، توليت بمفردي تربيتها لانشغال زوجي الدائم بعمله، ونجحت في مهمتي، وأكملت ابنتي تعليمها وتزوجت من زميل لها ابن عائلة عريقة. تصورت أن الحياة ستسير بي من سعادة إلى هناء، لكن توالت ضربات القدر عليّ، مات الزوج وفرقت الحياة بيني وبين ابنتي الوحيدة، فقد انشغلت بحياتها مع زوجها وأولادها، وبدأت زيارتها لي تقل تدريجاً حتى انقطعت تماماً، ولم يبق بيننا إلا اتصال يومي عبر الهاتف، هو كل ما يربطني بها».

وقالت الثانية:

«حكايتي لا تختلف كثيراً، لكنني أنجبت ولداً وبنتاً، الولد يعيش الآن في استراليا والابنة تزوجت شاباً إيطاليا وتعيش معه في روما. أما زوجي فكان مهندساً، تُوفي في عز شبابه قبل أن يكمل الأربعين من عمره، وها أنا أعيش بمفردي منذ 20 عاماً».

أما الثالثة فقالت:

«حرمني الله من لقب الأم، فعشت وحيدة طول عمري. حتى زوجي لم يكن إلى جواري في يوم من الأيام، فبمجرد أن تأكد أنني لا أنجب طلقني وتزوج بأخرى، وقررت عدم تكرار تجربة الزواج، وفضلت أن أستمتع بالحياة بمفردي».

أما الصديقة الرابعة فقالت:

«كل قصص الوحدة تتشابه، ولكن قصتي غريبة، فأولادي الثلاثة الذكور حياتهم في القاهرة، غير بعيد عن بيتي، ورغم ذلك لا يزورني منهم أحد أبداً. لا أجد سبباً لهذا الجحود فلم أكن يوماً أماً قاسية. أفنيت عمري كله في خدمة أولادي بعد انفصالي عن والدهم. ضحيت بشبابي لأجلهم ورفضت الزواج، رغم أني كنت صغيرة وجميلة، والنتيجة أني وحيدة وأولادي إلى جواري بخطوات، ولا يكلفون أنفسهم مشقة السؤال عليّ حتى ولو بمكالمة تليفونية».

وجاء الدور على مدام هادية لتقص على صديقاتها حكايتها الحزينة من جديد، قالت والدموع تترقرق من مقلتيها وبصوت مخنوق: «ابني وحيدي ليس جاحداً. ربما ظروفه دفعته للهجرة والابتعاد عني. أنا واثقة من حبه لي، وأعرف أنه يتألم الآن مثلي وأكثر لفراقي، ولكنها الدنيا كما نعرفها على رأي الست أم كلثوم، الفراق نصيب واللقاء نصيب. أكثر ما يحزنني أنني قد لا أراه مجدداً، ومن يدري ربما أموت فلا أجد حبيبي وحيدي في جنازتي».

وهنا قاطعت الصديقات مدام هادية في نفس واحد: «كفاية يا هادية قطعتي قلبنا». كان طبيعياً أن يتسلل الحزن والملل إلى الجميع فكل الحكايات حزينة ومكررة ولكن مدام هادية جاءت بـ»كوتشينة» لتقلب اللقاء الحزين الممل رأسا على عقب.

أوراق الحظ

بدأت السيدات بفتح «الكوتشينة» في محاولة لقراءة الطالع في أوراق الحظ، وساعة بعد أخرى، تحولن جميعاً إلى لعب «الكونكان»، وطلبت إحداهن اللعب ببضعة جنيهات قليلة لزيادة الإثارة في اللعب، ووافق الجميع وتحول اللقاء الممل إلى لقاء مثير مع كل دور «كونكان».

يقولون في الأمثال السائرة بين الناس: «الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة»، والنوايا الحسنة لسيدات المجتمع المسنات قادتهن إلى زيادة المتعة أكثر فأكثر، فالجنيهات القليلة التي كن يلعبن بها تزايدت بمرور الوقت، ولعب الورق على سبيل التسلية تحول إلى منافسات حامية بين الصديقات، ويوماً بعد يوم اتسعت دائرة اللاعبين المترددين على شقة مدام هادية، وشملت إلى جوار صديقاتها المسنات رجالاً مسنين، بينما أطلق الجميع عليها لقب ملكة الكوتشينة، إذ أسعفها الحظ كثيراً حتى باتت لاعبة مخضرمة.

وحتى لا تتكبد صاحبة الشقة تكاليف اللقاءات قرر الجميع المشاركة في وجبة العشاء والمشروبات التي يتناولونها أثناء اللعب. ومن دون أن تشعر مدام هادية وصديقاتها المسنات تحولت الشقة إلى وكر للعب القمار، بعدما تضاعفت الجنيهات التي يلعب بها الضيوف حتى وصلت إلى آلاف الجنيهات في الليلة.

رغم أن شقة مدام هادية لم يصدر منها أي صخب حتى يشتكي منها الجيران، فإن أحد المصادر السرية لمباحث الآداب جاء بمعلومة مؤكدة تقول إن الشقة تحولت إلى وكر للعب القمار، وأضاف أن صاحبة الشقة تستقبل رجالا ونساء المسنين كل ليلة للعب الورق مقابل مبالغ مالية، وهنا بدأت الأمور تأخذ منحى آخر.

سقوط هادية

لم يكذّب رجال مباحث الآداب خبراً. داهمت قوة شقة مدام هادية ذات ليلة، وألقي القبض على صاحبة الشقة، وعشرة من اللاعبين وضُبط أكثر من 14 ألف جنيه حصيلة اللعب في تلك الليلة. لم تصدق مدام هادية ولا صديقاتها ما يجري من حولهن. وقفت تتساءل عما فعلته مؤكدة أنها والأصدقاء والصديقات يلعبون على سبيل التسلية، وأن ذلك لا يعد جريمة تعاقب عليها، وفي براءة المسنين اعترف الجميع أمام وكيل نيابة العجوزة، بكل ما يجري داخل شقة مدام هادية، وأنهم مجرد مجموعة من الأصدقاء يقتلون الوقت والملل في اللعب.

وأكد اللاعبون أنهم يمضون معظم وقتهم داخل شقة مدام هادية في لعب «الكونكان»، وتناول المشروبات الساخنة مثل اليانسون والكركدية، لأن معظمهم فوق السبعين من العمر، وليس بينهم من يتناول ممنوعات، ويشاركون صاحبة الشقة في تكاليف لقاءاتهم بدفع مبلغ لها لشراء الوجبات الجاهزة.

ما قاله اللاعبون وصاحبة الشقة ببراءة في المحضر الرسمي، لم يكن سوى دليل دامغ على تورطهم في لعب القمار، واتهام صريح لمدام هادية بإدارة شقتها للعب القمار، فقرر وكيل النائب العام إحالة القضية إلى محكمة جنح العجوزة.

في الطابق الرابع من مجمع المحاكم بإمبابة، كان المشهد غريباً داخل قاعة محكمة جنح العجوزة، فمنذ التاسعة صباحاً وحتى الحادية عشرة ظهراً، ظلت المتهمة مدام هادية وجميع من تم ضبطهم داخل شقتها يصعدون السلم متكئين على العكاكيز، وبمجرد وصول المتهمة والشهود بعد جهد جهيد طلبوا من رئيس الجلسة الانتظار نصف ساعة حتى يلتقطوا أنفاسهم بعد صعودهم أربعة طوابق، وبدأت الجلسة، وببراءة بالغة أكد الشهود أنهم لعبوا القمار داخل شقة مدام هادية، ولم يقترفوا ذنباً حتى يعاقبوا عليه قانوناً.

وانهمرت دموع مدام هادية بغزارة وهي توضح لرئيس المحكمة أن سفر وحيدها وابتعاده عنها بعد زواجه السبب في وحدتها القاتلة، وأنها وجدت سلوى لدى مجموعة الأصدقاء الذين يزورونها كل ليلة، ولم يعلموا أن ما قاموا به مخالف للقانون.

وبعد جلسة استمرت ساعتين تقريباً، لم يتبق سوى قرار رئيس المحكمة الذي جاء على لسان القاضي بمعاقبة مدام هادية بالحبس سنة مع الشغل ومصادرة الأدوات والأموال المضبوطة وتغريمها مبلغ ألف جنيه. وكاد قلبها يتوقف، وهي تستمع إلى قرار المحكمة لولا أن استطرد القاضي قائلا: «وإيقاف عقوبة الحبس حال كون المتهمة طاعنة في السن، وباد عليها المرض، وقاربت على الثمانين عاماً».

عادت روح هادية إلى جسدها وارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها، وخرجت مع أصدقائها من قاعة المحكمة، بعدما سددت مبلغ الغرامة الذي شارك فيه الأصدقاء الذين تسببوا لها في هذه الورطة، وغادرت وسط صديقاتها بعدما قررن العودة إلى جلسات النادي الراقي تحت أنظار الجميع، والابتعاد عن الجلسات المغلقة. أما هادية التي يسكنها الحزن فراقا على رحيل ابنها، فاتخذت قراراً في نفسها بأن ملكة الكوتشينة اعتزلت اللعب.