كنت أتمشى في مخيم غير رسمي يقع في ريف أورفا التركية، وهي المنطقة الأقرب للحدود السورية، ذلك المخيم الذي احتضن 100 أسرة لاجئة. لم تكن الخيام كتلك التي رأيتها بالمخيمات التي زرتها سابقاً في لبنان وأربيل والأردن؛ كانت أقرب إلى محاولات فردية لصنع خيمة، وأحيانا ترى بقايا خشب تم تجميعها لتصبح بيتاً، أو بيتاً مهجوراً من دون شبابيك أو باب تقطنه عوائل لا تملك شيئاً أساساً... حتى دورات المياه لا تملكها»!

منطقة أورفا استقبلت حصة كبيرة من اللاجئين السوريين تقدر بـ480 ألف لاجئ، قدموا من محافظتي الرقة ودير الزور في عام 2013، ويعيش معظمهم في مخيمات للاجئين أنشأتها السلطات التركية، فالمدينة التي احتضنت عبر تاريخها العريق العرب والأتراك والأكراد وجدت نفسها حديثاً قنطرة عبور للجهاديين، ومسرحاً لعمليات التجنيد لحساب التنظيمات المتطرفة، ومأوى للاجئين.

Ad

مدينة الأنبياء

يطلق الأتراك على شانلي أورفا الواقعة جنوب تركيا، مدينة الأنبياء، ويرى بعضهم أنها تعد رابع مدينة مقدسة في العالم بعد مكة والمدينة والقدس، إذ يعتقدون أن إبراهيم، عليه السلام، ولد بها وواجه النمرود فيها، وأن أيوب، عليه السلام، عاش سنوات ابتلائه فيها، وأن يعقوب، عليه السلام، عاش وتزوج بها.

وتجتذب المدينة، التي تعرف في التاريخ العربي باسم الرها؛ لهذا السبب، عددا كبيرا من الزوار الذين يتجولون بين المعالم التي تنسب للأنبياء، عليهم السلام.

ومن أشهر الأماكن في المدينة بحيرة الأسماك، التي يعتقد الأتراك أن النمرود أشعل فيها النيران، وأمر بإلقاء نبي الله إبراهيم، عليه السلام، بها، قبل أن يأتي الأمر الإلهي لتتحول النيران إلى مياه، ويتحول الحطب إلى أسماك.

ويؤمن كثير ممن يزورون البحيرة ويطعمون أسماكها، بصحة تلك القصة.

اللاجئون السوريون في أورفا

كانت رحلتي هذه المرة مع فريق تراحم التطوعي والتابع للهيئة الإسلامية العالمية، وتم إنشاؤه في عام 2012 بهدف مساعدة اللاجئين السوريين في الأردن وتركيا، وقام الفريق بعمل 35 رحلة إغاثية، وتم فتح باب التطوع للجمهور في 2014، وفي العامين الماضيين شارك 50 متطوعاً، ويستهدف الفريق الأيتام ودعمهم النفسي، إضافة إلى توزيع السلال الغذائية وتسكين اللاجئين في بيوت بدلاً من الخيم.

كانت هذه الرحلة التي تمت في مايو 2016 مع 12 فتاة أغلبهن لم يتعدين عقدهن الثاني، وتعتبر تلك رحلتهن التطوعية الأولى بأغلبية كويتية (منهن فتاتان خليجيتان: واحدة من قطر، وأخرى من جدة).

وقد سعين ليكنّ ضمن هذه الرحلة متخليات عن منطقة الراحة والرفاهية طواعية، متجهات إلى الحدود السورية-التركية، رغبة منهن في خوض غمار التطوع وعلى حسابهن الخاص.

تجلت الإنسانية بأبهى حلة وهن يقدمن المساعدات، ويهبن وقتهن للترفيه عن الأطفال اللاجئين؛ في محاولة لإسعادهم وتذكيرهم بطفولتهم المنسية مرة أخرى.

عالية وضياء أخوان يشتاقان إلى الشام!

في حفلة أقامها فريق تراحم لـ500 يتيم ولاجئ سوري من الأطفال، كنت أجلس بزاوية أراقب الوضع، وتفاعل الأطفال مع فعاليات الحفل؛ ما بين مسابقات وتوزيع سلال غذائية ومسابقات لرسم العلم السوري. كان التحدي أن يرسم الأطفال أطول علم سوري... الطامة الكبرى أن أغلب الأطفال لم يكونوا على دراية بماهية علم بلدهم الذي تركوه مرغمين منذ نعومة أظافرهم ليعشوا في تركيا!

في غمرة سكوني ومراقبتي اقتحمتْ صمتي الطفلة عالية التي تريد أن تتجاذب معي أطراف الحديث. بادرتها بالسؤال «كم عمرك؟» وأجابت «9 سنوات، ومنذ خمس سنوات أقطن تركيا». وانضم إلينا أخوها ضياء الذي يكبرها بعام، قال لي إنه يعمل في الشارع، إذ لديه ميزان يقوم بقياس أوزان الناس ويأخذ المقسوم.

وعن الدراسة أجابني: «لا نملك الوقت لذلك، ويجب عليّ تأمين قوت يومي، أما عالية فتتلقى بعض الدروس المتواضعة من قبل لاجئات سوريات».

وحين سألتها عن الحياة في تركيا قالت عالية إنها ممتنة كثيرا لحسن الاستضافة في أورفا، ولكن هذه الصغيرة استدركت وهي تبتسم بحسرة «بنضل ضيوف... تركيا مش بلدنا». حين تعلمك الغربة الدروس القاسية لا تملك سوى التفكر بمستقبل هؤلاء الصغار!

قصص لاجئين من ذوي الإعاقات في بلد الاغتراب

أصيبت رزان، وهي لاجئة سورية تبلغ من العمر 18 عاماً، بحادث سير منذ ثمان سنوات في سورية تسبب في ضمور عضلاتها وتقوس عمودها الفقري، ما أدى لأن تكون معاقة، واليوم ساهم فريق تراحم التطوعي بتوفير كرسي متحرك كهربائي ليسهل عليها حركتها التي باتت محدودة بسبب إعاقتها ولجوئها.

المأساة لم تخص رزان فقط، بل امتدت إلى الكثيرين الذين سببت لهم الحرب إعاقات أدت لبتر أطرافهم وتقويض فرصهم بالعمل، فباتت أزمة اللجوء مضاعفة لأنهم لا يملكون مصدرا للرزق، وأنهكتهم الإعاقات والأمراض.

وفي هذا الصدد، قال تركي الأحمد، وهو لاجئ سوري في عقده الثالث، إنه أصيب إثر قصف في منطقة دير الزور أودى بحياة ابنته ذات الأعوام الستة، وبترت رجله اليسرى ليصبح من دون رجل، إضافة إلى فجيعته بوفاة ابنته. قدم على لجوء طبي لتركيا وقبل في أورفا، ولكن مازال الوضع صعباً.

وأوضح الأحمد أنه اضطر إلى أن يترك ابنته ذات الـ11 عاماً في حلب مع باقي أسرته، لأنهم لم يسمحوا له سوى بإحضار زوجته كمرافق وابنه الصغير ويحلم بأن تلتئم عائلته يوماً.

وأشار إلى أن هذه الزيارات التفقدية من فريق تراحم التطوعي هي مصدر سعادة بالنسبة لهم، لأنها تذكرهم بإنسانيتهم التي فقدت مع الحرب، وبات الجميع يتعامل معهم كلاجئين فقط من دون حتى السؤال عن أحوالهم.

أحياناً تقديم وقتك وسؤالك عن هذا الآخر الذي لم تعرفه يوما وتتعرف إليه على حين سفر يؤثر كثيرا بالإيجاب على هؤلاء اللاجئين الذين انغمسوا كثيرا في سبيل توفير لقمة العيش أو البحث عن علاج طبي لمأساتهم. وعن أي مأساة نتحدث؟ عن أكبر كارثة تحل بالعالم بعد الحرب العالمية الثانية وهي أزمة اللاجئين السوريين.

وذلك حسب إحصائية ودراسة قدمتها مفوضية اللاجئين السامية التابعة للأمم المتحدة، والتي تسببت بضغط كبير على الدول المستضيفة، فعلى سبيل المثال لبنان وحدها تستضيف 1.8 مليون لاجئ سوري، وفي الأردن الرقم مشابه، وفي العراق يبلغ عددهم 100 ألف لاجئ، أما مصر فهي تستضف 150 ألف لاجئ.

وفيما يخص النازحين في سورية فيبلغ عددهم -بحسب المفوضية- 7 ملايين نازح، وهم مع كل أسف يحصلون على أسوأ مما يحصل عليه اللاجئ خارج سورية من مساعدات.

وأكدت المفوضية أن هناك أكثر من 12 مليون سوري بحاجة إلى المساعدة فقط للبقاء على قيد الحياة!

ماذا قدم «تراحم التطوعي» خلال ٣ أيام؟

لم تقتصر الرحلة على زيارة اللاجئين وتفقد أوضاعهم، إضافة إلى الحفل الترفيهي الذي أقيم للأيتام، فقد تم نقل 8 أسر سورية من مخيمات الى شقق سكنية تحتوي الشقة الواحدة على 4 غرف نوم و3 حمامات ومطبخ، وقمنا بزيارة السيدة أم عمر، وهي لاجئة تم نقلها إلى شقة في يناير الماضي وطبخت لنا الأكلة الشامية المعروفة «شيش برك»، حتى تشعر مرة أخرى بإنسانيتها، التي تجعلها قادرة على استقبال الضيوف والطبخ لهم كما لو كانت في وطنها.

وقام الفريق بتقديم جلسة دعم نفسي للاجئات سوريات أرامل ومطلقات، ليحكين ما في جعبتهن عن أهوال الحرب وألم الغربة، تلك الجلسة التي انتهت بكثير من الدموع والأحضان، وأخيرا تسللت إلى وجناتهن الابتسامة بعد أن غابت لأعوام.

تجربة التطوع لأول مرة!

قالت المتطوعة في فريق تراحم التطوعي مريم الطواري إن شعورها لا يوصف وهي ترى سعادة الأسر بانتقالهم من خرابة إلى بيوت مجهزة بأربع غرف وثلاثة حمامات ومطبخ، واستشعرت سعادة الأطفال الذين سينامون بسرير لأول مرة منذ أعوام من أجواء اللجوء القاسية.

ومن جهتها، قالت بدور الحساوي إنها أرادت القيام بشدة برحلة تطوعية والخروج من منطقة الراحة والرفاهية لتختبر حياتها على مدى ثلاثة أيام قضتها مع اللاجئين وجعلتها تستشعر نعمها اليومية التي كانت تعتبرها أموراً مسلماً بها، وهي أمور كمالية بالنسبة للاجئين.

أما المتطوعة إيمان فيصل من قطر فقالت إنها خاطبت فريق تراحم لتنضم إليهم، وهي طالبة دراسات عليا في بريطانيا، لأنها تريد أن تقدم وقتها لقضية العصر وهي اللاجئين، مشيرة إلى أن هذه التجربة غيرتها كثيرا وجعلتها تشعر بأهمية تقديم الوقت والجهد، وليس المال فقط، على سبيل التطوع.