المفارقة النقدية الأخرى، من بين كثيرات في كتاب الأستاذ خالد علي مصطفى، نراها في هذا الموقف، الذي بدا لي خارج أي منطق، يقول المؤلف: "إن الشعراء العراقيين، حين يجدون أرضاً تأويهم غير أرضهم، يتركون مواهبهم، ووهجهم، وطاقاتهم الخلاقة وراءهم، ولا يحملون معهم إلى المنفى (أو المهجر، سمّه ما شئت!) إلا عدّة نجارتهم، أي مهارتهم في الصنعة - بعد أن تخلصوا من نار الكير، الذي يلفح الوجوه، ومن الدخان الذي يعمي العيون، وهي حالة معاكسة تماماً لما أحدثه الشعر المهجري في النصف الأول من القرن العشرين في الأميركتين". ص13

جملة خالد النقدية غير حائرة هذه المرة، ولا تريد أن تفلت من مأزق اعتراف. لذلك بدت بالغة القسوة، لي، ولكل مثقفي المنفى، الذين تركوا العراق هاربين من شتى صنوف التعالي والتنكيل والفاقة، صعوداً إلى الملاحقة والاعتقال والتعذيب والموت، التي صدرت عن إرادة سلطة الحزب الحاكم، ومثقفيه.

Ad

فكيف يمكن أن يُقرنوا بمهجريي النصف الأول من القرن العشرين، الذين خرجوا بمحض إرادتهم، لاكتشاف العالم الجديد، شأنهم شأن الأوروبيين، والناس أجمعين؟

إن خالد يريد بجملة مُغيّبة عن الوعي بقصد، أن يجعل من هؤلاء كيانات متبطّلة، خرجت للهو والعبث، لذلك فقدت حرارةَ موهبتها، واكتفت بعدة النجار. جملة بالغة القسوة، ومحزنة، على الرغم من أنها أخفت المفردات، التي كان سامي مهدي يكتبها بجرأة أكثر أيام سطوة صدام حسين، حين يتهم هؤلاء بالخيانة والعمالة، ويدعو لهم بالموت في جليد المنافي، في حين يتدفأ هو بحرارة الشمس الوطنية. ولقد مات كثيرٌ من هؤلاء في جليد المنافي حقاً، ولم يكلف أحدٌ النفس، من مثقفي العالم العربي كله، بالإشارة إلى الجاني.

وخالد في جملته يتحدث عن مواهب هؤلاء ووهجهم وطاقاتهم الخلاقة، حتى لتبدو جملتُه لي كريمةً، ولكن مفاجئة.

فهل كان سامي مهدي، وحميد سعيد، وهو ضمناً، يعتبرونهم في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات مواهبَ، وذوي وهج، وطاقة خلاقة؟ أم كرسوا تلك العقود الطويلة من السنوات لغمر هؤلاء في النسيان، والتعتيم عليهم، لا في العراق وطنهم وحده، بل في عموم الوطن العربي، بعد أن اشتروا مثقفيه رخيصي الثمن بالثمن الرخيص؟

ثم اني لم أفهم كيف توازنت فكرة المنفى الذي يقترن بموت الموهبة، في ذهن خالد النقدي. ولا أريد أن أُذكره بأنه شاعر فلسطيني بالدرجة الأولى، وأن الشعر الفلسطيني في جملته شعر منفى، وشعراء منفى مقتلعون من جذورهم. وتميزه جاء من هذا الأتون، الذي شاء خالد أن يجعله أتوناً خامداً، لا حرارة فيه، لدى المنفى العراقي وحده.

لا أريد أن أذكره بذلك، لأن محاججتي لا تحتاج إليه. فشعر المنفى لدى كل شعر وشعراء العالم، وكل نقد ونقاد العالم، يتمتع بغنى استثنائي لا تُخطئه العين. فالشاعرُ فيه تُقبل عليه الذاكرة بفيض لم يألفه الشعر. والشاعر فيه يستعيد قامته الحقّة، التي تقزمت تحت قامات من استطالت قاماتهم بالترهيب والترغيب. والشاعر فيه يلتقي بأجناس بشرية تمنحه أفقاً إنسانياً لا عهد له به في نفسه. والشاعرُ فيه يحسن لغةً جديدة، أو لغاتٍ جديدة، تحيط وعيه المحدود برعاية الشمول غير المحدود. والشاعر فيه يصبح شاعراً عالمياً عن غير إرادة، لا بفضل العالم الذي يدعمه بالمخيلة فقط، بل بفضل وطنه البعيد الذي يدعمه بالذاكرة والمخيلة معاً.

إن هذا الذي جاء على لساني ليس فيض خطابة، بل وليد أسى من رؤية غريزة الكائن، وخاصة إذا كان كائناً مثقفاً، وهي تحرص على مصلحة عابرة، أو على ما تبقى من مذاق لمصلحة لم تعد فاعلة. ويُذعر من الحكم الجريء على الفكرة، أو الموقف، أو الظرف التاريخي، بالبطلان. كل ما يحتاجه هذا الكائن، هو العودة الجريئة لقداسة الإنسان، لا قداسة الفكرة.

إن رغبة الأستاذ خالد علي مصطفى في الحديث الموضوعي الحميمي تحتاج إلى شجاعة كهذه. شجاعة لا أمام الآخر، وهي متوافرة، لكن لا نفع فيها، بل شجاعة أمام النفس، وهي أرفع أنواع الشجاعات.