نداء أبومراد في حفل إنشاد ديني سماع ترنيمي مشرقي وصوفي

نشر في 12-06-2016
آخر تحديث 12-06-2016 | 00:00
No Image Caption
لأن النفق المظلم الذي يسير فيه هذا الشرق، فرض عليه اللعب على وتر الدين والطائفية، ولأن الصورة التي ترسمها المؤامرات والفتن حول الأديان مشوهة، وتعكس التطرف والتعصب والإرهاب، يعمل د. نداء أبو مراد (عميد كلية الموسيقى في الجامعة الأنطونية في ضاحية بيروت الشرقية)، من خلال الموسيقى، على نقض هذا الواقع، وتبيان أن الدين براء مما يحصل على الأرض، وذلك عبر إحياء حفلات موسيقية يدمج فيها الإنشاد المسيحي مع الإنشاد العربي الصوفي، في خط متصاعد يسير جنباً إلى جنب ليصل في النهاية إلى محطة السلام والرؤية الحقيقية والجميلة للأديان المنطلقة من أرض الشرق، أرض التعايش والتفاهم وتقبل الآخر.
{ربي تعال} عنوان الأمسية الموسيقية التي أحياها د. نداء أبو مراد أخيراً، وقد نجحت الاحتفالية في نقل الحضور إلى عوالم من التأمل والصلاة، وحلقت بهم بعيداً عن الواقع المثقل بالهموم والصور البشعة إلى آخر يسمو نحو الله، ويضفي سكينة وسلاماً، ويقيم حواراً بين العقل والقلب حول جماليات الوجود والحياة لا البشاعات...

إرث روحي

خلال الأمسية أضاء نداء أبو مراد على حيوية الإرث الروحي وتجذّره في هذه المنطقة من العالم، وذلك ضمن برنامج ترنيمي مشترك، يحاكي ليتورجيات الكنائس المشرقيّة، في مسار جامع من البشارة إلى العنصرة، وعبر ترنيم مقتضب لروايات الميلاد والعشاء السرّيّ والصلب والقيامة، وصولاً إلى النداء الآراميّ الختاميّ للكتاب المقدّس (سفر الرؤيا).

سلكت الاحتفالية مسلك حركيّة إنشاديّة تجدّديّة، اعتمدت على أداء مرتجَل ترنيميّ وعزفيّ لآيات من العهد الجديد، تتشابك مع إنشاد ألحان تراثيّة طقسيّة. وذهب هذا التشابك إلى حدّ توليد «مساوقة» متعدّدة الأصوات في أداء الترانيم المتنوّعة الألسن الطقسيّة، يمكن اعتبارها نوعاً جديداً مشرقياً من البوليفونيا (غير العموديّة)، في انحداره من بعض الطقوسيّات الكنسيّة الأنطاكيّة، واستلهامه مجريات الارتجال المتزامن في التوشيح والذكر.

أدّى هذه الاحتفاليّة التي أعدّها نداء أبو مراد ولحّنها وأدارها (بالإضافة إلى عزفه على الكمان)، أعضاء مجموعة الجامعة الأنطونيّة للترنيم الكنسيّ المشرقيّ، الوافدون من مشارب متعدّدة، يجمعهم السعي إلى تجدّد متأصّل عبر مسلك التقليد التأويليّ الموسيقيّ، وذلك في سياق عملهم في كلّيّة الموسيقى وعلم الموسيقى في الجامعة الأنطونيّة، وهم: محمّد عيّاش (ترنيم وعود)، مخايل الحوراني (ترنيم بيزنطي)، نجوى حبشي (ترنيم سرياني)، وكانت مشاركة لافتة أيضا للأب يوسف فخري الأنطوني.

اللافت والجميل في الأمسية الموسيقية ارتجال التقاسيم مع ترنيم مرتجل وإنشاد من التراث السرياني والأرثذوكسي والقبطي، فضلاً عن قصيدة ميلادية لمحيي الدين بن عربي.

عشق إلهي

د. نداء أبو مراد الذي يغوص منذ سنوات في عمق الموسيقى الدينية، يعتبر من الضروري الالتزام بمعايير التقليد التأويلي ومسالكه الظاهرة والباطنة وإجراءاته الزهدية والعرفانية الصوفية، في سعي متواضع ومتوارٍ إزاء الرسالة، خصوصاً أنها تحفز المستمع إلى الغوص في أعماق الروح، وتحمله على أجنحة النغم في رحلة بعيداً عما يتضمن الواقع من تشويه.

وإذا كانت الأديان السماوية تضع الذات الإلهية في مكانة منزهة، فإن الموسيقى هدفها التغني بجمال هذه الذات، وجعلها قابلة للمعرفة الناتجة عن العشق الإلهي، ومشاهدة جماله المتجلي في صور إنسانية.

أما السماع، كما يحدده د. نداء أبو مراد، فهو يسبق الرؤية، مستشهداً بقول لابن عربي في فتوحاته المكيّة:” وأما حبنا إياه فبدؤه السماع لا الرؤية، وهو قوله لنا ونحن في جوهر العماء: كن”.

انطلاقاً من ضرورة إيلاء الموسيقى الدينية اهتماماً، ينطلق د. نداء أبو مراد من أنساق ثلاثة:

- النسق الكلامي التوحيدي الصرف (الإبارهيمي)، حيث يهيمن النموذج الكلامي والتلاوة المرنمة أي القراءة المنغمة مثل ترتيل القرآن الكريم في السياق الإسلامي، وترتيل قراءة الكتاب المقدس في الشعائر الدينية.

- النسق اللازمي التجاوبي السُّراني المزماري (الذيونيسي)، حيث يهيمن النموذج الحركي اللحني واللازمة المنعتقة من الكلام.

- النسق الإنسادي الذبائحي التسبيحي القيثاري (الأبولوني)، حيث يتكافأ النموذجان الكلامي والحركي في الإنشاد الشعري الدوري المقايسة.

يعتمد النص الموسيقي التقليدي المشرقي المقامي في بعده الإيقاعي، بحسب نداء أبو مراد، على مزيج من تلك الأنساق في نسب متفاوتة، وهو حال الفقرات الترنيمية الدينية والصوفية الإسلامية والمسيحية...

في تعريف آخر جاء في سياق طرح إشكاليات متعلقة بالتراث الفني، ينطلق مباشرةً من طرح تساؤل يندرج ضمن مفهوم التقليد والتجديد، لأنّ هذين اللفظين يبنيان علاقة مع مفهوم التراث، وبذلك يعطي فرضيات متمثلة في هل التقليد يمثل موطناً للتجديد الموسيقي؟

قد يكون التقليد في حد ذاته تكراراً أو نقلاً حرفياً، أما التراث فهو ما نرثه عن الماضي كأمانة تجدر المحافظة عليها. فهو بحكم الصيرورة، نتاج آني لمعادلة ثقافية ما، تحقّق في زمن يسبق زمن الحاضر، الذي فيه يعتبر المتحقق آنفاً تراثاُ، بكلام آخر زمن ولادة التراث هو الماضي، وزمن “تراثيته” هو مستقبل الماضي، بما فيه الحاضر، حسب قوله.

برأيه أن علم السيمياء وفلسفة التحليل اللغوي باتا يعتبران الموسيقى أحد أنواع الدلالة اللغوية، وقد دخلت في الترانيم الدينية سواء في الترتيل القرآني أو في الترانيم والتراتيل الدينية المسيحية.

يعتمد أداء أبو مراد على الارتجال، ارتكازاً على الترنيم والإنشاد والتجويد، وتمثل الصوفيّة أهمّ مرتكزات تجربته الفنية إلى جانب الموسيقى الفصحى العربية التقليدية، فضلا عن إيلاء آلة الكمان أهمية قصوى في الموسيقى العربية فأصبحت لسان حاله، والمعبّر الأول عن مكنوناته الروحية والفنية وإبداعه الذي ساهم في استمرار هذا النوع من الموسيقى الراقية والأصيلة، رغم حال الفوضى والتشويه التي تسود الساحة الفنية اليوم.

back to top