ما قل ودل: لماذا تغيير هوية المحكمة الدستورية بعد تجربة ناجحة؟

نشر في 12-06-2016
آخر تحديث 12-06-2016 | 00:10
 المستشار شفيق إمام القانون ظاهرة اجتماعية

القانون في تنظيمه للحياة في الجماعة يجب أن ينبع في وجوده من ذات نفسها، حتى يعبر عن ضميرها، ليلبي حاجاتها المتجددة، وليسد النقص أو القصور في القوانين القائمة، سواء من ناحية المؤسسات التي تلبي هذه الحاجات، أو من ناحية إعادة تنظيمها، لتكون أكثر وفاءً بمتطلباتها، أو تنظيم ما لم يكن قد سبق تنظميه بتلك القوانين عندما كانت الحاجة إلى هذا التنظيم أقل، ولم تكن تمثل ظاهرة عامة تفرض على الدولة التدخل بهذا التنظيم.

فالقوانين ظاهرة اجتماعية تستهدف تنظيم الحياة في الجماعة، متأثرة في وجودها واستمرار بقائها وما تجري عليها من تعديلات، بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الجماعة، فهو صنو هذه الظروف يوجد بوجودها ويزول بزوالها ويعدل بتغير هذه الظروف، بما يوفر للمجتمع على الدوام بقاءه وارتقاءه.

الرقابة القضائية ضرورة حتمية

وفي سياق ما يتم تداوله الآن داخل أروقة مجلس الأمة وخارجه من رغبة في تعديل قانون المحكمة الدستورية، لتضم عناصر من خارج الجسم القضائي إلى تشكيلها فإن الرقابة القضائية على دستورية القوانين تعتبر ضرورة حتمية، في ظل مبدأ الفصل بين السلطات، الذي تراقب في ظله كل سلطة السلطة الأخرى. وفقا للمقولة الفرنسية الشهيرة le pouvoir arete le pouvoir حيث يقوم نظام الحكم الديمقراطي في الكويت طبقاً للمادة 50 من الدستور على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، ويعتبر هذا المبدأ جوهر النظام الديمقراطي.

لذلك نصت المادة (173) من الدستور على أن: "يعين القانون الجهة القضائية التي تختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح، ويبين صلاحياتها والإجراءات التي تتبعها".

ليعبر المشرع الدستوري عن إرادته الحقيقية في إسناد الرقابة على دستورية القوانين إلى القضاء وحده عازفا عن الرقابة السياسية، المقررة في بعض الدول ومنها فرنسا.

كما صدر القانون رقم 14 لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية لتبسط رقابتها على دستورية القوانين، ناصاً على التشكيل القضائي الكامل للمحكمة، بالرغم من أن ما كان ينقص الكويت في هذه الفترة، هو العدد الكافي من الكويتيين من رجال القضاء العالي.

لذلك فإنه قد يبدو غريبا الآن بعد توافر العدد الكافي من رجال القضاء العالي الكويتي أن يثار موضوع إشراك مجلس الأمة والحكومة في تشكيل المحكمة الدستورية، على سند من تعليق ورد في المذكرة التفسيرية للدستور على المادة (173) بأنه: "وفقا لهذه المادة يترك للقانون الخاص بتلك المحكمة الدستورية مجال إشراك مجلس الأمة بل والحكومة في تشكيلها إلى جانب رجال القضاء العالي في الدولة".

الإلزام بالمذكرة التفسيرية... إطاره

ولا نختلف مع الرأي القائل بالقوة الملزمة للمذكرة التفسيرية للدستور، وقد أقرها المجلس التأسيسي بعد تلاوتها عليه، كما أقر ما ورد في عجزها من أن يكون تفسير أحكام الدستور في ضوء ما سبق من تصويرها العام لنظام الحكم، ووفقا للإيضاحات المتفرقة في شأن بعض مواده على وجه الخصوص، كما أجمع أغلب الفقه الدستوري على هذا الرأي، ولم تخرج المحكمة الدستورية على أي تفسير تبنته المذكرة لنص من نصوصه الدستورية، بل استندت إليه فيما طرح عليها من قضايا أو طلبات تفسير لبعض النصوص الدستورية. إلا أن هذه القوة الملزمة للمذكرة التفسيرية للدستور يجب أن توضع في إطارها الصحيح، عندما يكون ما ورد في المذكرة التفسيرية تفسيرا للنص، بما لا يخرج عن فحواه ومضمونه وصريح عباراته.

تقريرات المذكرة التفسيرية الأخرى

ذلك أن أغلب ما ورد في المذكرة التفسيرية تقريرات تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية ونظريات فلسفية تخرج عن دائرة القواعد القانونية الملزمة، مثلها مثل ديباجة الدساتير الأخرى ومذكراتها التفسيرية وأعمالها التحضيرية.

فهذه التقريرات والنظريات لا تكون لها قوة ملزمة، إلا إذا صيغت في نصوص تشريعية محددة منضبطة تنقلها من مجال النظر والفكر إلى مجال التطبيق العملي والنفاذ الفوري، وهو ما قضت به المحكمة الدستورية العليا في مصر، بالنسبة إلى ميثاق العمل الوطني (جلسة 5/ 4/ 1975- القضية رقم 13 لسنة 4ق- وجلسة 2/ 3 /1996- القضية رقم 34 لسنة 15ق).

وقد كانت هذه التقريرات تحت نظر واضعي الدستور، وأدى تقريرها أمامهم إلى الأخذ منها بما ورد في نصوص الدستور من قواعد قانونية ملزمة، واستبعاد بعضها أو تركه للأجيال القادمة، دون أن يكون بالضرورة ملزما لها.

بل إن كثيرا من النصوص الدستورية ليس لها قوة القاعدة القانونية في الإلزام بها، بمعرفة السلطات العامة (يراجع الاتجاهات الدستورية الحديثة، د. عثمان خليل محاضرات ألقاها لطلبة الماجستير في جامعة القاهرة 56/1957).

ومن هذه النصوص في الدستور الكويتي ما تنص عليه مادته الأولى من أن شعب الكويت جزء من الأمة العربية، وما تنص عليه المادة (9) من أن الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن، وما تنص عليه المادة (29) من أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وما تنص عليه المادة (41) من أن العمل واجب على كل مواطن تقتضيه الكرامة ويستوجبه الخير العام.

تفسير المادة 173 من الدستور

ومن ثم لا يجوز التذرع بما ورد في المذكرة التفسيرية للدستور حول إشراك مجلس الأمة والحكومة في تشكيل المحكمة، وقد بينا في إطار الإلزام بالمذكرة التفسيرية، أن ما ورد في المذكرة من تقريرات ليس لها قوة الإلزام، وأن الدستور حدد الجهة التي تختص بالرقابة على دستورية القوانين بوصف ظاهر منضبط، وهو "تعيين جهة قضائية" تختص بهذا الأمر، وهو وصف لا ينطبق إلا على القضاء، ومعناه قصر تشكيل المحكمة على القضاة وحدهم.

وقد عبرت المذكرة التفسيرية عن ذلك أصدق تعبير عندما قررت "آثر الدستور أن يعهد بمراقبة دستورية القوانين (واللوائح) إلى محكمة خاصة يراعى في تشكيلها وإجراءاتها طبيعة هذه المهمة الكبيرة، بدلا من أن يترك ذلك لاجتهاد كل محكمة على حدة، مما قد تتعارض معه الآراء في تفسير النصوص الدستورية أو يعرض القوانين (واللوائح) للشجب دون دراسة لمختلف وجهات النظر والاعتبارات".

كما استطردت المذكرة إلى القول بأن: "رجال القضاء العالي في الدولة، هم الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين، وفي مقدمتها الدستور، قانون القوانين".

وجاءت المذكرة الإيضاحية لقانون إنشاء المحكمة لتضيف "لأن ما يعرض على المحكمة من مسائل هو أمر من أدق أمور القانون لا يقدر عليه إلا المتمرسون من رجاله وحتى لا تتأثر المسائل القانونية بالتيارات السياسية إذا ما شكلت المحكمة من غير القضاة".

وللحديث بقية حول التجربة الناجحة للمحكمة الدستورية، بما لا تدعو الحاجة الآن إلى تعديل قانونها وتغيير هويتها، وليترك للأجيال القادمة، إن تعثرت المحكمة في أداء رسالتها، في إشراك مجلس الأمة والحكومة في تشكيلها، واختيار الطريقة المناسبة لذلك من بين الطرق العديدة في الأنظمة المقارنة.

back to top