الحرب أمّ البشاعات ومصدرها جميعا، هذا ما أدركه العقلاء وما خبره من اكتوى بنيرانها؛ فوحدهم الطغاة والمجانين من يبتهج لرؤية آلات القتل تحصد الأرواح وتقتلع الأجساد وتنثرها في الشتات؛ وفي الوقت الذي يبعث على الأسى رؤيتنا للصراع مقيما في ربوعنا تومض في الخاطر فكرة طوباوية مغرية مفادها أن الحرب حين لا تنتهي بنصر صريح لطرف على خصمه ستخمد وتخلف وراءها مشاعر القرف والحسرة على كل ما أهدر في سبيلها؛ وهذه الفكرة التي تنطوي على جوهر أخلاقي تدفعنا إلى تخيل الحرب وهي تتآكل ذاتيا، كالنار تتغذى على نفسها إلى أن تغدو رمادا. غير أن الواقع يدحض الأمنيات، فحروب البشر وصراعاتهم لا تجري على هذا المنوال، فالقتال يتوقف ويلتقط أنفاسه لبرهة من الزمن ليمنح البشر شيئاً يشبه السلام، ولكن الضغائن يورثها جيل لآخر كما يورث الدم والنسب، وهذه الضغائن تبحث في كل مجتمع عن فتيل جاهز ينتظر بصبر الشرارة التي يطلقها أي احتكاك جديد.

والتاريخ سخي بالبراهين على هذا الطراز من الحروب والصراعات التي تستأنف بعد توقف وكأنها في كل واقعة عود على بدء؛ يكفي تقليب النظر في حروب المشرق العربي والبلقان وشبه القارة الهندية وغيرها، لينتهي المرء إلى القول بأن الأسباب الكلاسيكية لقيام الحروب كالصراع على الموارد الطبيعية لم تعد هي عينها المحرك الأول للحروب المستأنفة في زمننا الراهن؛ ومن جانب آخر فإن هذه الحروب والنزاعات تتجدد على الرغم من أن المجتمعات البشرية أحرزت تقدما هائلا في استحداث وسائل للتقاضي في النزاعات بين الأفراد والجماعات الأهلية، وبشكل رئيس ضمن أطر مؤسساتية مثل الحكومة والقانون، ولكن أحيانا تنفجر الصراعات ليتبين أنها أكبر وأشد بأسا من هذه المؤسسات. والأمر عينه يصدق على الميدان الدولي حيث تقف المؤسسات الكونية عاجزة عن وقف الحروب والصراعات لأنها أعظم من قدراتها أو أشد تعقيدا من طرائق عملها.

Ad

ولكن أمرا آخر مهما يمكن استنباطه من طراز الحروب المستأنفة، فهي وإن نأت بنفسها عن الجذور الكلاسيكية للصراع التي ترده إلى الأصل البشري القديم المتمثل بحروب القبائل حول الماء والكلأ، سنجدها تستمد أسبابها من الأيديولوجيا والتاريخ والمعتقدات والتقاليد. ذاك أن هذه الأشياء مجتمعة هي ما تجعل الإنسان يبدو على ما هو عليه تفكيرا ومخيلة وسلوكا، والبشر وحدهم يحوزون القدرة على أن يصنعوا الفروقات والاختلافات في السياسة والمعتقدات، ويجعلون منها المسوغ لصناعة آلات القتل وتطويرها وقتل بعضهم بعضا.

ولعل الدرس الكبير الذي يهمسه التاريخ في آذاننا أن أي جماعة كلما كان نظامها العقائدي والفكري هشا وضعيفا كان دفاعها عنه عنيفا وشرسا وانبرت للقتل والموت دفاعا عنه.