"العجوزان"، آخر رواية للكاتب المصري جار النبي الحلو، الذي له أكثر من 10 مجموعات قصصية ورباعية روائية: "حلم على نهر"، "حجرة فوق سطح"، "قمر الشتاء"، "عطر قديم"، وحظي بتكريمات وجوائز عديدة في مصر والعالم العربي.

وهو كاتب مختلف، بل متميز بهذا الاختلاف عن كُتاب جيله، وما بعدهم، له خاصية السهل الممتنع التي تُشعر القارئ بأنه لم يصطنع أو يتكلف أو يعتصر و"يحزق" كتابته، فهي تأتي ببساطة وسهولة تذوب القلوب، وتجعل القارئ وحدة أو نغمة من معزوفته القريبة من نسيج حياة البشر، بكل ما جُبلت عليه طبيعتهم وعاداتهم، هذه البساطة العذبة تخدع القارئ بسهولة الكتابة، لكنها في الواقع صعبة التطبيق، فهي بحاجة إلى التركيبة الإنسانية السحرية التي تمتلك خصوصية السهل الممتنع، ولا يمكن اقتناؤها أو تقليدها، ويُطلق عليها مسمى الأصالة، أي انها آتية من منبعها الحقيقي الأصلي، ولم تولد من تهجين أو تقليد لمعارف أو مدارس أخرى، سواء كانت عربية أو أجنبية، مثل الذين توالدوا من عباءة نجيب محفوظ، أو ادوار الخراط، أو ماركيز، ومدارس السحرية اللاتينية، أو باولو كويلو، وآخرها طريقة الكاتب الياباني هاروكي موراكامي.

Ad

كتابته آتية من منبع إنسانيته وتركيبته العميقة الرؤية، والالتقاط لكل تفاصيل الحياة التي تدور حوله، مهما صغر شأنها، هو قادر على إعطائها معنى وقيمة أكبر، لا يحس ولا يشعر بها إلا هو، فكل التقاطة يجد لها قيمة ومعنى عميقا تجعل من الحدث البسيط في عيون الآخرين مشهدا إنسانيا مكتوبا برهافة، وكتابته تشبه أبعاد شخصيته بكل تفاصيلها، لذا ملكت كتابته روح أصالتها.

"العجوزان"، هي سيرة روائية، الكثير منها يحكي تفاصيل حياته مع صديق عمره في لقطات محملة بكتلة من المشاعر الحقيقية المُعاشة بينهما، والتي تقاسما حلوها ومُرها طوال زمن صداقتهما، الممتدة عبر 50 عاما وأكثر، وكل منهما تجاوز الـ 60 من عمره، وبما أني أعرفهما، فقد عشت المشاهد معهما مشهدا مشهدا، ولم أقرأ المشاهد بعيني، بل كنت أعيشها معهم بكل هذه التفاصيل الحميمة ما بين عجوزين هما أصدقاء عمر طويل.

جار النبي الحلو كاتب يُدخل القارئ في مجرى أحاسيسه، وينثر أو يبث عليه كل مشاعره، ولا يترك له فرصة ليغيب عنه أو يبقى محايدا، قارئه من كل بد يعايش كل ما يكتبه، ولا مهرب له من هذه المعايشة، وهو ما شعرته في كل ما قرأته له، حتى إنني كنت مع العجوزان في تنقلاتهما بمدينة المحلة الكبرى، حيث يقيمان، وقاسمتهما كل تلك الأسرار، التي ليس لي بها علم من قبل معرفتهما، حياة الرجال السرية المكتوبة بصدق وشفافية ومحبة كبيرة لبعضهما البعض، سواء ذكريات شبابهما، أو ذكريات شيخوختهما، وكلها التقاطات لتفاصيل أحداث ربما لو كُتبت من كاتب آخر لما كان لها هذا التأثير القوي العميق.

جار النبي الحلو يملك هذه القدرة الفذة على أسطرة الحدث، ومنحه معنى وقيمة وبُعدا إنسانيا أرهف وأوسع، وهذه هي قيمة الكتابة وقدرتها على منح تفاصيل الحياة العادية والبسيطة بُعدا ومعنى أعمق لعالمية الإنسان في أي مكان كان، ومثال على ذلك مشهد "ذراق"، حيث يدخل العجوز فائز إلى شقته، فيطير في وجه شيء ما، ويبدأ رحلة البحث عن هذا الشيء الذي باغته بطيرانه، ليكتشف ذرق دجاجة على باب غرفة نومه، وما بين بداية الطيران وحتى اكتشاف مكانها، وبالتالي التخلص منها، برميها من البلكونة، مشهد طويل مكتوب بغاية اللطف والطبيعية والعمق السلس لمشهد سينمائي عالمي، وهذه فقرة من المشهد: "أمسكت بالكتاب وفي لحظة وضعه في مكانه طار في وجهي شيء ما، أو قفز، أو نط أو هاجمني، لا أعرف، رفيف مفاجئ وعدواني، ارتعدت من المفاجأة، أحنيت رأسي وأمسكتها بيدي وذراعي، مدافعا ضد مجهول، لحظة وحط الصمت، أنزلت اليدين بحذر، وتفحصت المكان بعين متوجسة، لا شيء ترى ما هذا؟ وطواط؟ كيف... أنا... وأنا أستعد للسفر للإسكندرية أغلقت النوافذ وشيش البلكونة؟".

وهذه فقرة من نهاية المشهد بعد رمي الدجاجة: "دخلت الصالة، وجلست أرضا ألملم أنفاسي، تحت الكنبة المقابلة رأيت فردة حذاء بها بيضة، باستغراب وحذر شددت فردة الحذاء، بوجل تلمست بأصابعي بيضة دافئة".

جار النبي الحلو، كاتب آتٍ من نبض حس الناس وحرارة مشاعرهم.