لطالما اتهم العقل العربي والمسلم بأنه عقل تاريخي ماضوي، محكوم بأقوال القدماء، يعيد إنتاج مقولاتهم الخلافية وينشغل بها ويتصارع حولها، ويلتمس اجتهادات السلف الصالح حلولا لقضايا المجتمعات المعاصرة ومشكلاتها، وهذا ما يجسده طوفان الفتاوى في كل صغيرة وكبيرة من أمور ديننا ودنيانا، في الوقت الذي وجهنا الرسول، عليه الصلاة والسلام، إلى إعمال عقولنا في قضايانا الحاضرة «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، أي أعلم من القدماء بشؤون مجتمعاتنا.المفكر المغربي الدكتور الجابري وصف العقل العربي بأنه عقل معياري في مقابل العقل الغربي الموضوعي، العقل المعياري، عقل اختزالي عاطفي، تجزيئي، غيبي، لا يعتمد التحليل والتركيب منهجا بحثيا، يهرب إلى الماضي، ولا يمتلك أهلية إدراك حركة التاريخ، ولا يستشرف آفاق المستقبل، ولا يساهم في صنعه، منشغل بالتغني بالأمجاد والمآثر والانتصارات الماضية، وتمجيد الرموز والشخصيات التاريخية لدرجة التقديس، في غفلة عن الواقع الحاضر، وتغييب للفكر المستقبلي.
ولا يقتصر هذا النقد على المفكرين الليبراليين فحسب، إنما يشاركهم فيه مفكرون إسلاميون، أبرزهم المفكر الإسلامي الفذ عبدالحليم أبو شقة، الذي أبدع وأخرج كتابا لا نظير له في أدبيات نقد الفكر الإسلامي، ونقد موقف الحركات الإسلامية من أزمة العقل المسلم، حيث شخص أمراض العقل المسلم تشخيصا غير مسبوق، في كتاب نشر بعد موته، رحمه المولى تعالى، بعنوان: نقد العقل المسلم، الأزمة والمخرج. يذكر في الكتاب: أن العقل المسلم منشغل بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، لا يستشعر المشكلات القائمة أو المحتلمة في المستقبل، وانتقد الحركات الإسلامية لإدخالها الدين في مجال إصلاح المجتمع بطريقة ساذجة سطحية، وسعيها إلى السطو المسلح على السلطة لإقامة حكم الله تعالى، فأفسدوا الدين والسياسة معا! ولم تعالج أزمة العقل المسلم بل ساهمت في تقديس التراث والسلبية من الفكر الإنساني. لا بد من التوضيح: أولا: أن العقل ملكة إنسانية مشتركة، لا تعدد فيه، وطاقة كونية واحدة أشبه بتيار كهربائي متدفق، فلا فرق بين عقل عربي وآخر غربي، لكن هناك «عقليات» أي ذهنيات متعددة، تتفاوت باختلاف ثقافات الشعوب، وتطورها الحضاري، والقدرة على تفعيل آليات النقد والمراجعة وتصحيح الأخطاء والإفادة منها. ثانيا: مع التسليم بأن العقل العربي والمسلم تغلب عليه النزعة الماضوية، إلا أنه عقل لم يغفل البعد المستقبلي سواء على مستوى التنظيرات الفقهية والفكرية أو على مستوى التطبيقات العملية المدنية والعسكرية والدينية، أفرادا وجماعات. هناك اليوم العديد من رسائل الدكتوراه التي أجيزت في الجامعات العربية، توضح ما ذكرناه من أن العقل المسلم لم يهمل فكر استشراف المستقبل، نظريا أو عمليا، وقد أسعدني الحظ مؤخراً أن كنت أحد المناقشين لرسالة دكتوراه بعنوان: فقه التوقع- دراسة تأصيلية تطبيقية على القضايا المعاصرة- لطالبة إماراتية: نجاة محمد عبدالله المرزوقي، بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي. أثبتت فيها الباحثة، عبر العديد من الشواهد القرآنية والنبوية، ومن أعمال الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، رضوان الله تعالى عليهم، وكذلك من الأحكام الفقهية، والنماذج العملية، قديما وحديثا، ما يؤكد حضور فقه المآلات والتوقعات والعواقب في التفكير الإسلامي، وهو فقه لم يقتصر على مذهب معين، بل شمل المذاهب جميعا، وإن كانت للأحناف الشهرة الأعظم في الفقه الافتراضي، وعرّفت الباحثة، فقه التوقع، بأنه: فقه يتميز ببعد النظرة، واستشراف العواقب، وتقدير مآلات الأمور، حتى يكون فعل العبد موافقا للشرع في الحال، ولا يعود عليه بالضرر في المآل. إن فقه «المقاصد الشرعية» منذ أن بلوره الإمام الشاطبي، توفي عام 1388م، في كتابه المشهور «الموافقات في أصول الشريعة» هو: فقه استشراف المستقبل، نقله من كونه جزءا من المصالح المرسلة إلى كونه أصلا من أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة، كما يقول بحق، الدكتور جاسر عودة، وما فقه «سد الذرائع» الذي انشغل به الفقهاء كثيراً، وبخاصة فيما يتعلق بوضعية المرأة الاجتماعية إلا نوع من الفكر المستقبلي المتوجس!ختاما: كيف يمكن تصور غياب التفكير المستقبلي عن العقل المسلم المنشغل باستمرار بالتفكير في المصير الأخروي؟!* كاتب قطري
مقالات
العقل العربي والفكر المستقبلي
13-06-2016