يحلم طلاب كليات الطب في مصر بتحقيق خماسية الـ «ع»، العيادة والعروسة والعربية والعمارة والعزبة. لكن «أحمد» الطالب في كلية طب قصر العيني، شذ على القاعدة. لم يكن يحلم بالخمسة «ع»، ولا بأي شيء آخر، كان يعيش على أرض الواقع، يعرف جيداً أن طريق الوصول إلى أهدافه ليس مفروشاً بالورود، بل طريق صعب وطويل ويحتاج إلى سهر وتعب وبذل جهد مضاعف.

كان «أحمد» وحيد والديه، شاباً فقيراً، الأب موظف بسيط تٌوفي العام الماضي، تاركاً أحمد في أول الطريق، والأم ربة منزل بالكاد تعيش على معاش زوجها الراحل، لكنها كانت سيدة عظيمة ربت ابنها الوحيد جيداً، ووفرت له كل شيء رغم الفقر. كانت ست بيت ممتازة لديها قدرة جبارة على تدبير الكثير من الأمور بأقل قدر ممكن من المال. ظلت تدفع بابنها كي يحقق حلمه حتى بعد رحيل والده سندهما في الحياة.

Ad

كان «أحمد» يعرف جيداً حجم التضحيات التي قامت بها والدته لأجله، كان يدرك أنها تجوع حتى يشبع هو، ترفض شراء الدواء إذا مرضت لتوفر له الجنيهات القليلة، وتمنحها له عن طيب خاطر وسعادة. كانت والدة «أحمد» كل حياته، لذلك أقسم أن يجتهد في دراسته حتى يحقق حلم حياتها في أن تراه طبيباً ناجحاً، ويبذل قصارى جهده ليسعد قلب والدته في يوم من الأيام.

كانت دراسة الطب شاقة على «أحمد» لكنه كان دودة كتب. كان يذاكر ساعات طوال، ولأن لكل مجتهد نصيب فقد ظهر نبوغ «أحمد» منذ عامه الأول في الكلية، فأصبح أشهر طالب في الكلية. تنبأ له أساتذته بمستقبل باهر، نظر إليه الطلاب باعتباره المعيد المقبل تمهيداً لتعيينه في الكلية، خصوصاً أن السنوات الصعبة مرت عليه وهي تزيده قوة وإصراراً على تحقيق هدفه، وصولاً إلى سنة الامتياز (السنة النهائية في كلية الطب)، وأصبح الطالب المجتهد قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم والدته الكبير في أن يصبح طبيباً يشار إليه بالبنان. لم يعد يتبقى على جني ثمار التعب والشقاء وسهر الليالي سوى أشهر قليلة، لكن وسط هذه الأحلام السعيدة وقع ما لم يخطر ببال «أحمد»، وما لم يحسب له حساباً.

وجع قلب

وسط انشغال «أحمد» بدروسه، شعر بوجع خفيف في قلبه، لم يكن نتيجة مرض، فالحب دق الباب فجأة، لم يستطع مقاومة سحر زميلته «هند» جمالها، هي ملكة جمال الدفعة المتوجة بشهادة الجميع، جمالها عزّزه ثراء أسرتها الأسطوري، لذلك حاول الجميع التقرب منها بعدما أطلق عليها لقب «دلوعة الدفعة». لكنها لم تكن ترى سوى «أحمد»، جعلته هدفها الأول والأخير. حاولت لفت أنظار الطالب المجتهد إليها، ولكن «أحمد» المشغول بدروسه لم ينتبه للأمر بل ولم يلمحها من الأساس، فقررت الطالبة الحسناء أخذ زمام المبادرة، وفي موقف غريب وغير معتاد استوقفت «هند» زميلها «أحمد» ذات مرة واعترفت له بحبها.

لم يصدق «أحمد» نفسه، «هند» جميلة وثرية، ووالدها أحد كبار رجال الأعمال في مصر، وتغطي صوره صفحات الجرائد والمجلات كل يوم، بالتأكيد تعيش في مستوى راق لا يستطيع أحمد أن يوفره لها في ظل ظروفه الحالية، فما الذي أسقطها في حبه، وهو الشاب الفقير، ولا يملك ميزة واحدة تجذب إليه أي فتاة، وليست «هند» أجمل فتيات الكلية، لكن لوعة الحب كانت أقوى من أي منطق، فسقطا معا في الحب.

على عكس الأحباب، لم يأخذ الحب «أحمد» من دراسته، بل كان حب «هند» دافعاً له لالتهام الكتب الدراسية بشهية مفتوحة. راح يسابق الزمن ليحصل على الشهادة، ويصبح جديراً بالتقدم لوالد محبوبته ويطلب يدها منه، كذلك دفع الحب «هند» لتشجيع حبيبها بكل طاقتها حتى ينجح وتتكلل قصة حبهما بالزواج، لا سيما أنها مهدت الأمر لوالدها رجل الأعمال الشهير، وأخبرته أن زميلاً لها سيتقدم ليطلب يدها عقب إعلان النتيجة، وحتى لا يحبط الأب ابنته في مذاكرة دروسها وعدها بأنه سيرحب بزميلها شرط نجاحهما وبتفوق.

انتهت الامتحانات وأعلنت النتيجة، نجح «أحمد» و»هند»، وأصبح كل منهما يحمل لقب «دكتور» رسمياً. طار «أحمد» إلى والدته، زف إليها الخبر السعيد، وأطلقت الأم الصابرة المكافحة زغرودة لفت أرجاء الحي الشعبي الذي تقيم فيه مع ابن عمرها، احتضنت وحيدها وبكت كما لم تبك طوال حياتها بعدما أدت رسالتها تجاه ابنها باقتدار، وراح «أحمد» يقبّل يدها ورأسها عرفانا بجميلها وفضلها الكبير عليه.

وحتى تكتمل الفرحة، أخبر «أحمد» والدته بأمر محبوبته «هند»، فأطلقت الأم زغرودة أخرى كدليل على مباركتها زواج ابنها من زميلته، ولكنه سألها في قلق:

- تفتكري يا أمي أبوها هيوافق على الجوازة دي؟

قالت الأم في فخر بابنها:

* وما يوافقش ليه هو يطول هو وبنته؟!

ضحك «أحمد» قائلاً:

- صحيح القرد في عين أمه غزال.

ضحكت الأم وردت:

* اخرس! قرد في عينك... ابني حبيبي قمر.

لقاء عاصف

في قصر كتلك القصور التي يشاهدها «أحمد» في أفلام السينما والتلفزيون، كان اللقاء الصعب مع والد «هند». استقبل رجل الأعمال الشهير الدكتور حديث التخرج بفتور شديد، جلس رجل الأعمال ينفث دخان السيجار وهو يرمق «أحمد» بنظرات متعالية ويسأله بعجرفة: «لو أنا وافقت على الجواز... هتعيش أنت وبنتي فين وإزاي؟»

ارتبك «أحمد» أحس بالرهبة وأدرك مغزى السؤال. كان الرجل، بسؤاله، يقول له باختصار طلبك مرفوض لأنك فقير. أنهى الدكتور اللقاء العاصف سريعاً بعدما أحس بالحرج. غادر القصر وقد أسودت الدنيا في عينيه. وصل إلى بيته حزيناً مهموماً، انزوى في أحد أركان حجرته وراح يبكي ويلعن الفقر الذي حرمه من محبوبته «هند»، واستسلم الطبيب الشاب للهزيمة الساحقة التي لحقت به ودمرت مشاعره ونسفت أحلامه.

على الجانب الآخر، كانت «هند» أكثر شجاعة من حبيبها. رفضت الاستسلام، دافعت عن حبها بشراسة كأنها تخوض حرب حياة أو موت، هددت والدها بأنها ستتزوج من حبيبها حتى لو أدى الأمر إلى التضحية بوالدها نفسه. وأمام عناد «هند»، رضخ الأب ووافق على الزواج. كذلك أجبرت والدها على إهدائها شقة في حي الشيخ زايد، لتصبح عش الزوجية، وفرشها على نفقته الخاصة بأفخر أثاث.

ما فعلته «هند» كان أشبه بالمعجزة لإنقاذ قصة حب أوشكت على الموت. دبت الحياة مجدداً في أوصال «أحمد»، والذي وافق على شرط والد «هند» الوحيد لاتمام الزواج، وهو أن يحرر له قائمة بمنقولات الشقة الهدية حتى يضمن الأب حق ابنته إذا ما دبت الخلافات بينها وبين زوجها ذات يوم.

تم زواج «أحمد» و«هند»، كانت سعادتهما لا توصف، حققا أول أحلامهما المشتركة. كانت الحياة أمامهما رحبة لتحقيق الكثير من الأحلام والأهداف، لكن «هند» لاحظت أن سعادة «أحمد» غير مكتملة، فتشت كثيراً عن سر حزنه واكتشفت أن سبب ابتعاده عن والدته التي يعشقها، واعترف بذلك ذات مرة، فما كان منها إلا أن اتخذت قراراً مهماً، أسرعت إلى حماتها وتوسلت إليها أن تنتقل وتقيم معهما في العش السعيد لتكتمل فرحة «أحمد».

كان قرار الدكتورة «هند» عاطفياً وغير مدروس، هكذا أكد لها معارفها وأقاربها وأصدقاؤها، فكل تجارب الزواج التي شهدت إقامة الزوجة وحماتها في بيت واحد لم تنجح، بل أدت إلى مشاكل لا حصر لها. لم تلتفت الدكتورة «هند» إلى تلك النصائح كافة. أقنعتها عقليتها العلمية المرتبة أن لكل شيء سبباً، ولكل مشكلة حلاً. كانت الزوجة واثقة أن بإمكانها احتواء حماتها، وحل أي مشكلة قد تعترض حياتها. كان هدف «هند» الأسمى اكتمال سعادة زوجها، حتى ولو على حساب أي مشكلة تستطيع حلها أو في أسوأ الظروف تحملها، لذلك ضغطت بكل قوتها على حماتها عندما رفضت عرض الانتقال في البداية، لكن تحت إلحاح «هند»، رضخت ووافقت على الإقامة مع ابنها وزوجته.

أزمات متجددة

ومضت الأيام... الأم التي كانت تتعامل بحذر مع زوجة ابنها في البداية، بما أنها ضيفة، تخلت عن حذرها بمرور الوقت، تبدلت الأحوال، أصبحت الأم تتدخل في أمور البيت رويداً رويداً، ففي مرة لا يعجبها ترتيب الأثاث في الشقة فتبدّل من دون استئذان أماكن قطع الأثاث وفقاً لهواها، ومرة أخرى تصرّ على أن تطهو بنفسها، فتخرج الدكتورة «هند» من المطبخ. كانت حجتها الجاهزة أنها لا تريد إرهاق زوجة ابنها، لكنها بينها وبين نفسها كانت تقول إن ابنها لا يستحق إلا «طعاماً من طبيخها»، ومرة ثالثة تغيّر علب الملح والسكر من دون أن تخبرهما، فتشرب الزوجة القهوة بالملح، وتطهو الأكل بالسكر.

أمور تبدو بسيطة وغير ذات أهمية كانت تقدم عليها الأم، لكنها في قاموس النساء كوارث تستحق المواجهة، وهذا ما حدث بالفعل. اشتكت الدكتورة «هند» لزوجها ذات مرة، لكنه لم يبال بالشكوى، ابتسم وقال لزوجته ضاحكا: «يا هند دي حاجات صغيرة أوي... أنتِ عاقلة استحملي».

وفعلاً، تحملت «هند» ما هو أكثر من ذلك، لكن في النهاية هي إنسانة ولها طاقة على التحمل، ومن الطبيعي أن يقع الصدام بينها وبين حماتها. طال الوقت أم قصر، حتى جاء اليوم الذي شعرت فيه «هند» بأنها أصبحت هي الضيفة بعدما نازعتها حماتها في مملكتها وأسقطتها من فوق عرشها، ويوماً بعد الآخر، تسللت الخلافات إلى البيت الذي غادرته السعادة شيئاً فشيئاً، زادت تدخلات الحماة ولم تعد «هند» تتحمل الأمر، وكانت صدمتها الكبرى عندما أدركت أن زوجها يقف في صف والدته وينصرها ظالمة أو مظلومة.

بدأت «هند» تراجع موقفها كله، اكتشفت غلطة عمرها يوم دعت والدة زوجها للإقامة معهما، وأن كل من نصحها كان على حق. قالت الزوجة في نفسها إذا كانت حماتها أفنت عمرها كله لأجل ابنها، فهي أيضاً ضحت وتحملت ما لا يتحمله أحد، حاربت لأجل حبها في وقت استسلم «أحمد» للهزيمة عندما رفضه والدها، وقالت الزوجة لنفسها إنها بذلت مجهوداً خارقاً لإسعاد زوجها ولكنه لم يبذل أي جهد لإسعادها، بل كل همه إسعاد والدته، واستغلها واستغل حبها له أسوأ استغلال. تزوج وأصبح لديه شقة وسيارة والتحق بعمل في أحد أكبر المستشفيات الاستثمارية وأصبح دخله المادي كبيراً، أما هي فماذا كسبت من هذه الزيجة؟

وصلت «هند» إلى خلاصة لدى مراجعة علاقتها بزوجها «أحمد»، أنها لم تكسب أي شيء، فزوجها مشغول طوال الليل والنهار في عمله، حتى بيتها مملكتها الخاصة سلبته منها حماتها، في ظل سلبية زوجها الذي يرفض حتى الدفاع عنها، أمام تغلغل أمه في حياتهما الخاصة. كان طبيعياً أن يدخل الحب الذي جمع بين «هند» و«أحمد» إلى غرفة الإنعاش سريعاً، بسبب الجفاف الذي شاب العلاقة بفعل وجود الأم التي تابعت ألاعيبها وتفننت فيها لتعكر على «هند» صفو حياتها.

صارحت «هند» زوجها بكل ما دار في عقلها وطلبت منه أن ينقذ حبهما، ويقف بجوار الحق ولو لمرة، وينفض عنه لباس الخنوع الذي يلبسه أمام جبروت أمه، لكنه لم يحرك ساكناً، ترك الحب يموت ولم يحاول حتى إنقاذه. وعندما اندلع الخلاف ذات مرة بين «هند» وحماتها، انفجر «أحمد» في وجه زوجته مدافعاً عن أمه، فلم تتمالك هند نفسها وانهالت بالسباب على زوجها وحماتها، واتهمت «أحمد» بأنه ابن أمه، وراحت تعايره بفقره القديم، وفضلها وفضل والدها رجل الأعمال عليه، ووضعت أمامه الاختيار المر هي أو أمه.

ولأن الغضب مرآة ما بداخل الإنسان، أيقن «أحمد» مدى كراهية زوجته لوالدته، فغادر معها بيت زوجته بعد إهانتهما، عادا إلى منزلهما القديم في الحي الشعبي متوعداً زوجته بأنها ستدفع ثمن إهانة والدته غالياً، ومؤكداً أنه سيتركها بقية حياتها مثل البيت الوقف، لا هي زوجة ولا هي مطلقة، هكذا تحول الحب العميق إلى كره صريح.

جاء رد «هند» ووالدها رجل الأعمال الثري سريعاً، استغلا ورقة المنقولات القديمة التي يحتفظ بها الأب لحماية ابنته، وأقاما دعوى قضائية اتهما فيها الزوج بتبديد منقولات عش الزوجية والاستيلاء على مجوهرات للزوجة تبلغ قيمتها مليون جنيه، وفي قاعة المحكمة تولى الدكتور «أحمد» الدفاع عن نفسه ونجح في إثبات براءته من كل التهم المنسوبة إليه وقضت المحكمة له بالبراءة فعلا.

حاولت «هند» التي هدأت ثورتها أن تسترجع الحب الذي كان، وتعيد المياه إلى مجاريها، وأن تسترضي زوجها «أحمد»، بعد حصوله على البراءة، قابلته في أروقة المحكمة، طلبت منه العودة والاستمرار في العلاقة، شرط أن يترك أمه تعيش وحدها، فما كان منه إلا أن ألقى يمين الطلاق على زوجته قائلا لها:

«أمي أغلى منك ومن حبك.. سأتزوج غيرك غداً أو بعد غد.. ولكن كيف لي أن أجد أما أخرى غيرها».