لما كانت الليلة الثانية عشرة بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أم علاء الدين سألته: يا ولدي هل مرادك السفر؟ فأجابها: نعم. فتابعت: تسافر إلى البلاد؟ فأجاب: إلى مدينة بغداد، فإن الإنسان يكسب فيها المَثَل مَثلين. فقالت له: يا ولدي إن أباك عنده مال كثير، وإن لم يجهز لك متجراً من ماله، فأنا أجهز لك متجراً من عندي. فقال لها: خير البر عاجله. فأحضرت العبيد وفتحت حاصلاً أخرجت منه قماشاً، فحزموا له "عشرة أحمال”، وكان والده قد بحث عنه في البستان، فلما علم أنه ركب بغلته ورجع إلى البيت ركب وتوجه خلفه. عندما دخل منزله رأى أحمالاً محزومة وأخبرته زوجته بما وقع لولده مع أولاد التجار، فقال له: يا ولدي خيب الله الغربة، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من سعادة المرء أن يرزق في بلده، وقال الأقدمون: دع السفر ولو كان ميلاً.

قال له ولده: لا بد لي من السفر إلى بغداد، وإلا قلعت ثيابي ولبست ثياب الدراويش وطلعت سائحاً في البلاد. فقال له والده: عندي مال كثير، وعندي لكل بلد ما يناسبه من القماش وغيره. وأراه من جملة ذلك أربعين حملاً محزومة، كتب على كل حمل منها أن ثمنه ألف دينار.

Ad

ثم قال له: يا ولدي خذ هذه الأربعين حملاً والعشرة أحمال التي من عند أمك، وسافر مع سلامة الله تعالى. ولكني يا ولدي أخاف عليك من غابة في طريقك تسمى "غابة الأسد”، ومن واد هناك يقال له "وادي الكلاب”، فإن فيهما تذهب الأرواح بغير سماح، وهناك بدوي قاطع للطريق يقال له عجلان. فقال له علاء الدين: لن يصيبني إلا ما كتبه الله.

البلخي

ثم ركب مع والده إلى سوق الدواب، فلما رأى شيخ العكامين شاه بندر التجار، تلقاه مرحباً وقبل يده قائلاً: لقد مضى زمان يا سيدي، ما نفّعتنا في تجارة. فقال له: لكل زمان دولة ورجال، وهذا ولدي وفلذة كبدي هو الذي مراده السفر. فقال له العكام: الله يحفظه لك...

أخرج شمس الدين مئة دينار أعطاها للعكام وقال له: خذ هذه لغلمانك، ثم اشترِ ستين بغلاً، وستراً لضريح سيدي عبد القادر الجيلاني. وقال للعكام: أريد أن تصحب ولدي في رحلته لتكون له بمثابة الوالد والمرشد فقبل مسروراً. ثم توجّه الجميع بالبغال والغلمان، وعملوا في تلك الليلة ختمة ومولداً للشيخ عبد القادر الجيلاني.

ولما أصبح الصباح أعطى شاه بندر التجار لوالده عشرة آلاف دينار، وقال له: إذا دخلت بغداد ولقيت القماش رائجاً فبعه، وإلا فاصرف من هذه الدنانير حتى يروج، ثم حملوا البغال وودع شمس الدين ولده حتى خارج المدينة.

وكان محمود البلخي تجهَّز للسفر إلى بغداد، وأخرج حموله ونصب صواوينه خارج المدينة وكان عنده لوالد علاء الدين ألف دينار بقيّة مُعاملة، فلما رآه هذا قال له: أعط الألف دينار لولدي علاء الدين. وأوصاه به خيراً قائلاً له: إنه مثل ولدك. وهكذا اجتمع علاء الدين بمحمود البلخي. وهنا أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح..

لما كانت الليلة الثالثة عشرة بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن محمود البلخي أوصى طباخ علاء الدين بألا يطبخ شيئاً، وصار يقدم لعلاء الدين المأكل والمشرب هو وجماعته، ثم توجهوا للسفر وكانت للتاجر محمود البلخي أربعة بيوت: واحد في مصر، وواحد في الشام، وواحد في حلب، وواحد في بغداد.

ولم يزالوا مسافرين في البراري والقفار، حتى أشرفوا على الشام، فأرسل محمود إلى علاء الدين يدعوه إلى وليمة في منزله، واستشار علاء الدين شيخ العكامين المرافق له، وكان اسمه كمال الدين، فقال له لا تذهب إليه، ثم سافروا من الشام إلى أن دخلوا حلب، فعمل محمود البلخي وليمة ودعا إليها علاء الدين، ولكن المقدم كمال الدين منعه من الذهاب، وبعدئذ سافروا من حلب إلى أن بقي بينهم وبين بغداد مرحلة، فعمل محمود البلخي وليمة وأرسل يطلب علاء الدين، ولكن المقدم كمال الدين منعه أيضاً.

فقال له علاء الدين: لا يليق بي أن أرفض الدعوة ثلاث مرات، ثم أخذ سيفه تحت ثيابه وسار إلى أن دخل على محمود البلخي، فقام وسلم عليه وأحضر سفرة عظيمة. فلما أكلوا وشربوا وغسلوا أيديهم، مال محمود البلخي على علاء الدين ليأخذ منه قبلة، فدفعه بعيداً وقال له: والله يا خبيث ما بقيت أرافقك أبداً. ثم رجع علاء الدين إلى المقدم كمال الدين وأخبره بما حدث، فقال له: يا ولدي أما قلت لك لا تذهب عنده، ولكن افتراقنا عن قافلته ليس من المصلحة الآن.

الشيخ عجلان

قال علاء الدين: لا يمكن أن أرافقه في الطريق أبداً. ثم حمل حمولة، وسار هو ومن معه إلى أن وصلوا إلى واد أرادوا أن ينزلوا فيه، فقال العكام: كلا، أسرعوا في المسير لعلنا نصل إلى بغداد، قبل أن تغلق أبوابها عند غروب الشمس خوفاً على المدينة من أن يملكها «الروافض» ويرموا كتب العلم في «دجلة». فقال له علاء الدين: أنا ما خرجت بهذا المتجر لأجل المكسب بل لأجل الفرجة على بلاد الناس...

فقال له: يا ولدي أخشى عليك وعلى مالك من العرب. فقال له: لا أدخل بغداد إلا مع الصباح لأجل أن ينظر أهلها إلى متجري. فردّ العكام: افعل ما تريد، وقد نصحتك. فأمرهم علاء الدين فأنزلوا الأحمال ونصبوا الصيوان، واستمروا مقيمين إلى نصف الليل، ثم طلع علاء الدين فرأى شيئاً يلمع على بُعد، فسأل العكام: يا مقدم ما هذا الشيء الذي يلمع؟ فتأمل العكام وحقق النظر، فرأى أسنة الرمال وسيوفاً بدوية، فأجاب: هؤلاء عصابة شيخ العرب عجلان: ولما قرب العرب منهم ورأوا حمولهم فرحوا وحملوا عليهم.

وتصدى المقدم كمال الدين العكام للدفاع، فرماه عجلان بحربته في صدره فخرجت تلمع من ظهره، ووقع على باب الخيمة قتيلاً، ثم حمل العرب على القافلة فقتلوا أكثر أفرادها، فقال علاء الدين لنفسه: ما يقتلك إلا بغلتك وبدلتك.. وخلع ملابسه حتى صار بالقميص واللباس فقط، وكانت هناك على باب الخيمة بركة دم سائلة من القتلى فصار يتمرغ فيها حتى صار كالقتيل الغريق في دمه.

وأما شيخ العرب عجلان فقال لجماعته: هل هذه القافلة داخلة من مصر أو خارجة من بغداد؟

فلما كانت الليلة الرابعة عشرة بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن جماعة شيخ العرب عجلان قالوا: إن القافلة قادمة من مصر إلى بغداد، فقال لهم: أعرضوا عليّ القتلى، لأني أظن أن صاحب هذه القافلة لم يمت، فأخذوا يعرضون القتلى عليه إلى أن وصلوا إلى علاء الدين، فإذا بهم يجدونه حياً، فصاح أحدهم به: ما دمت قد جعلت نفسك ميتاً فنحن نكمل قتلك. ثم سحب البدوي حربته وأراد أن يغرزها في صدر علاء الدين فقال: يا بركتك يا سيدي عبد القادر يا جيلاني. وشاء الله فتحولت الحربة عن صدره إلى جثة المقدم كمال الدين العكام، الممدة بجانبه. ثم أخذ العرب في نقل الأحمال على ظهور البغال وانصرفوا، وجاءت الطير بعد ذلك فأخذت تأكل من الجثث فخشي أن تأكله حياً، ونهض من مرقده وأخذ يعدو في الفلاة، وسرعان ما لمحه شيخ العرب عجلان فأمر أحد أتباعه بمطاردته والقبض عليه. ولكز فرسه فأسرعت وراء علاء الدين.

ثم رأى علاء الدين قدامه حوضاً فيه ماء، وبجانبه صهريج، فطلع إلى شباك في الصهريج وتمدد هناك قائلا: يا جميل الستر سترك الذي لا ينكشف. فلما وصل البدوي إلى تحت الصهريج مد يده ليقتنص علاء الدين وإذا بعقرب تلدغ البدوي في كفه، فصرخ وقال: يا عرب تعالوا إليّ فإني لدغت.

ونزل عن ظهر فرسه، فأتاه رفقاؤه وأركبوه على فرسه ثم أخذوا القافلة وساروا، بينما استمر علاء الدين نائماً في شباك الصهريج. أما محمود البلخي فإنه أمر بتحميل الأحمال وسافر إلى أن وصل إلى غابة الأسد، فلما وجد غلمان علاء الدين كلهم قتلى فرح بذلك، ثم توجه إلى الصهريج وكانت بغلته شديدة العطش فمالت لتشرب من الحوض، ولكنها رأت خيال علاء الدين فجفلت منه. رفع محمود البلخي عينه فرأى علاء الدين نائماً وهو عريان بالقميص واللباس فقط، فسأله: من فعل بك هذه الفعال وخلاك في أسوأ حال؟ فأجابه: قطاع الطريق، فقال له: يا ولدي فداك البغال والأموال، وتسل بقول من قال:

إذا سَلِمت هامُ الرجالِ من الرَّدى

فما المالُ إلا مثل قصّ الأظافرِ

ثم أنزل علاء الدين من شباك الصهريج، وأركبه بغلة، وسافروا إلى أن دخلوا مدينة بغداد، فأخذه البلخي إلى داره وأمر بإدخاله الحمام وقال له: المال والأحمال فداؤك يا ولدي، وسأعطيك قدر مالك مرتين.

مُحَلل

بعد طلوعه من الحمام أدخله قاعة مزركشة بالذهب، ثم أمر بإحضار سفرة فيها جميع الأطعمة، فأكلوا وشربوا، ومال محمود البلخي على علاء الدين ليأخذ من خده قبلة، ولكن علاء الدين تلقاها بكفه ولعنه، ثم نهض وفتح الباب وطلع والكلاب تنبح وراءه.

بينما هو سائر إذ رأى مسجداً فدخله وما استكن فيه قليلاً حتى لمح فانوسين في يدي عبدين يتقدمان اثنين من التجار: أحدهما شيخ حسن الوجه، والثاني شاب، وسمع الشاب يقول للشيخ: أسألك بالله أن ترد لي بنت عمي. فقال له: أما نهيتك مراراً عديدة وأنت جاعل الطلاق مصحفك؟

ثم حانت من الشيخ التفاته فرأى علاء الدين وكأنه فلقة قمر، فقال له: السلام عليكم. فرد عليه علاء الدين السلام، ولما سأله من أنت؟ قال له: أنا علاء الدين بن شمس الدين شاه بندر التجار في مصر، وتمنيت على والدي أن أسافر للتجارة، فجهز لي خمسين حملا من البضاعة.

وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

لما كانت الليلة الخامسة عشرة بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين قال: إن والدي أعطاني عشرة آلاف دينار، وسافرت حتى وصلت إلى "غابة الأسد”، فطلع عليّ قطاع الطريق وأخذوا مالي وأحمالي، فدخلت هذه المدينة، وما أدري أين أبيت.

فقال له: يا ولدي ما تقول فيّ إذا أعطيك ألف دينار، وبذلة بألف دينار؟ سأله علاء الدين: على أي وجه تعطيني ذلك يا عمي؟ فأجابه: إن هذا الغلام الذي معي ابن أخي، ولم يكن لأبيه غيره، وأنا عندي بنت لم يكن لي غيرها تسمى "زبيدة العودية”، وهي ذات حسن وجمال، فزوجتها له، وهو يحبها وهي تكرهه، وقد تسرَّع فطلقها ثلاثاً، ثم ندم وساق إليّ جميع الناس كي أردها له، فقلت له: هذا لا يصلح إلا بالمحلل، واتفقت معه على أن نختار لذلك رجلاً غريباً، حتى لا يعايره أحد بهذا الأمر، وحيث أنك غريب، فتعال معنا لنكتب كتابك عليها وتبيت عندها هذه الليلة، ثم تصبح فتطلقها ونعطيك ما ذكرته لك.

قال علاء الدين في نفسه: مبيتي ليلة مع عروس في بيت على فراش، أحسن من مبيتي في الأزقة والدهاليز، ومضى معهما إلى القاضي، فلما نظر القاضي إلى علاء الدين وقعت محبته في قلبه وسأل والد البنت: أي شيء مرادكم؟ فقال: مرادنا أن نعمل هذا محللاً لبنتنا، ولكن نكتب عليه حجة بعشرة آلاف دينار، مقدم الصداق، فإن لم يطلقها طالبنا بها، وإن طلقها أعطينا له بذلة بألف دينار وبغلة بألف دينار وأعطيناه ألف دينار. فعقدوا العقد على هذا الشرط، ثم أخذ والد الزوجة علاء الدين فألبسه البذلة، وأوصله إلى دار ابنته، فأوقفه على بابها ودخل على بنته وقال لها: خذي حجة صداقك فإني كتبت كتابك على شاب مليح يسمى علاء الدين أبا الشامات.

ثم رجع إلى بيته وترك علاء الدين هناك، وكان لمطلق الزوجة قهرمانة يحسن إليها، فقال لها: إن زبيدة بنت عمي متى رأت هذا الشاب المليح لم تقبلني بعد ذلك، فأنا أطلب منك أن تحتالي كي يكرهها وتكرهه، فقالت له: وحياة شبابك ما أخليه يقربها. ثم ذهبت إلى علاء الدين وقالت له: يا ولدي أنصحك الله تعالى بألا تقرب تلك الصبية أو تلمسها فإن جسدها ملآن بالجذام، وأخاف عليك منها أن تعدي شبابك المليح. فقال لها: ليس لي بها حاجة.

ثم انتقلت إلى الصبية وقالت لها مثل ما قالت لعلاء الدين، فقالت لها: لا حاجة لي به، بل أدعه ينام وحده إلى أن يذهب في سبيله. ثم دعت جارية وأمرتها بحمل سفرة الطعام إلى علاء الدين فحملت الجارية سفرة الطعام ووضعتها بين يديه، فأكل حتى اكتفى..

ثم قرأ سورة "يس” بصوت حسن فلما سمعته زبيدة العودية زوجته، قالت في نفسها: الله ينكد على هذه العجوز التي قالت لي بأنه مبتلى بالجذام، فمن كانت به هذه الحالة لا يكون صوته هكذا، وإنما هذا الكلام كذب عليه. ثم وضعت في يدها عوداً من صنعة الهنود، وأصلحت أوتاره وغنت عليه بصوت يوقف الطير في كبد السماء، وأنشدت هذين البيتين:

تعشقت ظبيا ناعس الطرف أحورا

تغار غصون البان منه إذا مشى

يمانعني والغير يحظى بوصله

وذلك فضل الله يؤتيه من يشـــــا

لما سمعها علاء الدين، غنى وأنشد هذا البيت:

سلامي على ما في الثيابِ من القدّ

وما في بساتين الخدودِ من الوردِ

فقامت الصبية وقد زادت محبتها له، ورفعت الستارة، فلما رآها علاء الدين ورأته، تكلما وعرفا أن العجوز خدعتهما، وأمضيا الليلة معاً على خير ما يكون، فلما أصبح الصباح، قال علاء الدين: فرحة ما تمَّت، أخذها الغراب وطار. فسألته: ما معنى هذا الكلام؟ فأجابها: يا سيدتي ما بقي لي عيش معك غير هذه الساعة، لأن أباك كتب عليَّ حجة بعشرة آلاف دينار مهرك، وإن لم أطلقك الآن حبسوني عليها في بيت القاضي. فقالت له: هل العصمة بيدك أو بأيديهم، فقال لها: العصمة بيدي، ولكن ما معي شيء. فقالت له: الأمر سهل ولا تخشَ شيئاً. خذ هذه المئة دينار، ولو كان معي غيرها لأعطيتك ما تريد فإن أبي من محبته لابن أخيه حوّل جميع ماله من عندي إلى بيته، حتى مصاغي أخذه كله، وإذا أرسل إليك القاضي غداً.

وهنا أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد