مدام «سلوى» مدرّسة اللغة الفرنسية في إحدى المدارس الثانوية بمدينة طنطا (وسط دلتا مصر)، من عائلة عريقة في محافظة الغربية (شمال غرب القاهرة)، كان جدها لوالدتها أحد كبار الإقطاعيين في عهد مصر الملكية، وكان حجم الأراضي الزراعية التي تمتلكها العائلة يقترب من ثلثي أراضي المحافظة. لذلك نشأت في جو حالم، كانت أقرب إلى أميرات السينما، تعيش في دنيا الأحلام بلا مشاكل، فهي لا تعرف مشاكل عموم المصريين، ولم تكن تقرأ إلا الكتب الواردة من أوروبا وكانت في مجملها روايات رومانسية، فلم تعرف إلا الرومانسية مذهبا.

لكن بعد قرارات الإصلاح الزراعي في مطلع الخمسينيات في أعقاب ثورة يوليو 1952، فقدت عائلتها معظم الأرض والنفوذ، ورغم ذلك عشقت «سلوى» الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ورأت فيه الفارس الرومانسي النبيل الذي سعى إلى تحقيق العدل بين الناس، ولكن لم يمهله القدر لتحقيق الحلم، وقد دفع عشق «سلوى» لناصر إلى عشق زمن ناصر، ورومانسية زمن ناصر، وأغاني هذا الزمن البعيد، غرقت في ذكريات العصر الماضي.

Ad

كانت الرومانسية داء أصاب «سلوى» حتى أن المشاكل كافة التي وقعت فيها كانت بسبب رومانسيتها المفرطة.

الرومانسية المفرطة هدمت حياتها الزوجية، ودفعت بزوجها رجل الأعمال المشهور إلى الهروب من عش الزوجية بحثاً عن امرأة أخرى تعيش على أرض الواقع، ولا تبني قصوراً في الهواء، ولا تشغلها الأحلام الوردية عن أداء مهامها كزوجة. كان لا يطيق رومانسيتها المفرطة، وهكذا حملت {سلوى} لقب مطلقة بعد ستة أشهر من زواجها، ورغم أن للطلاق تداعيات قاسية على أي امرأة إلا أن {سلوى} حولت آلامها قصائد شعرية، وانشغلت في عملها لتنسى جراح تجربة زواجها الفاشلة، واتخذت قراراً نهائياً بأن تعيش باقي عمرها لرومانسيتها وقصائدها الشعرية وتعليم الأجيال اللغة الفرنسية التي تعشقها. لم يعد يشغلها البحث عن رجل يمضي معها سنوات العمر الباقية.

مرت سنوات العمر بمدرّسة اللغة الفرنسية حتى وصلت إلى التاسعة والثلاثين من عمرها. اكتفت بقراءة الروايات الرومانسية، كانت {سلوى} تمضي يومها في عملها بالمدرسة الثانوية، وليلها في القراءة، لكنها اكتشفت وسط الليالي الطويلة موهبة دفينة وهي كتابة الشعر، ففضلت الاحتفاظ بأشعارها لنفسها. لم ترغب في نشرها، فلم تكن تبحث عن شهرة أو عن مجد على صفحات المجلات والصحف، مارست رومانسيتها الشعرية كفعل سري لا تبوح به لأحد.

اكتشاف

ذات مساء في منزل إحدى زميلاتها بالمدرسة التقت {سلوى} أحد الملحنين المعروفين، والذي كان يمت بصلة قرابة إلى زميلتها، يومها وقبل أن تنبس {سلوى} بكلمة كانت زميلتها أخبرت قريبها الملحن بموهبة المدرّسة الحسناء في كتابة قصائد الشعر، وعلى الفور طلب الملحن من {سلوى} الاستماع إلى بعض القصائد ربما تصلح إحداها لتلحينها، وفي خجل شديد راحت {سلوى} تتلو بعض أبيات من أشعارها على مسامع الملحن المعروف، فأبدى إعجابه الشديد بها، ووعدها بأنه سيسعى إلى بيع القصيدة لأحد كبار المطربين.

ليلتها لم تنم {سلوى} من الفرحة بعد عودتها من منزل زميلتها، راحت تجمع القصائد التي دونتها، تبحث عن أفضلها لتسلمها للملحن المعروف، عسى أن ينجح في بيعها لأي من المطربين وبعدها تصبح {سلوى} شاعرة مشهورة. شهادة الملحن المشهور جعلتها تنسى حذرها القديم، لم تعد تخشى نشر أشعارها على الملأ.

وعاشت {سلوى} الحلم الجميل. لم يعد هدفها إخراج الشحنة المكبوتة من مشاعرها وإطلاقها في قصائد منظومة، لكنها في تلك الليلة لم تجد مانعاً من أن تحلم بالشهرة، للمرة الآولى، أن تصبح على غرار الشعراء والكتاب الذين تتابع كتابتهم. كان جزء صغير في نفسها يرغب في الشهرة ويسعى إليها ويختبئ تحت مشاعر الرومانسية التي تميز سلوى.

انتهى حلم الشهرة بعد أشهر. استيقظت {سلوى} ذات يوم على صوت أحد المطربين الكبار يشدو أغنيته الجديدة. لم تشعر بأنها جديدة كانت قديمة على أذنها لأنها كلماتها هي قصيدة ألقتها أمام الملحن المعروف ذات يوم في منزل صديقتها. اكتشفت أن الملحن نسب كلمات القصيدة لنفسه، وباعها للمطرب الكبير على أنها من أحدث إبداعاته. شعرت بأنها تعرضت للسرقة فاستشاطت غضباً، هرولت إلى بيت صديقتها قريبة الملحن المعروف، وراحت تهددها بأنها لن تسكت على هذه السرقة، وأنها ستدخل قريبها الملحن السجن عقاباً له على هذه الجريمة.

لم تلتفت صديقتها لهذه التهديدات، صمتت فكان صمتها دليلاً على تورطها، قالت لها إنها كائن رومانسي غارق في الأحلام لا يحتمل. لم تجد {سلوى} غير أن تقطع علاقتها بها، ونزلت من منزل صديقتها السابقة، والدماء تغلي في عروقها، عادت إلى بيتها، وجلست تجهش بالبكاء، والأفكار تتلاحق في رأسها عن الوسيلة المثلى للدفاع عن حقها الأدبي المسلوب، وفضح الملحن اللص الذي نسب قصيدتها الشعرية لنفسه بكل بجاحة.

وأخيراً... عثرت {سلوى} على الحل.

لقاء قانوني

قررت {سلوى} أن تتوجه إلى أحد المحامين لاستشارته في إمكان إقامة دعوى ضد الملحن اللص. لم تكن تهدف من وراء إقامة هذه الدعوى إلى تعويض مادي، بل أن تعود القصيدة الشعرية التي يتغنى بها المطرب الشهير إلى مؤلفتها الحقيقية. أكلتها الحسرة بعدما سمعت أشعارها على كل لسان. الجميع يتحدث عن أغنية المطرب الكبير التي أعاد من خلالها اكتشاف نفسه، وقدم كلمات رائعة احتفظت بها ذاكرة الناس وباتوا يرددونها صباح مساء، لكن للأسف الكلمات تنسب إلى الملحن زوراً، رددت في أعنماقها: {لو علم الناس الحقيقة لصوبوا لعناتهم للملحن اللص}.

توجهت {سلوى} إلى مكتب الأستاذ {جلال} المحامي الشاب، الذي رشحه لها عدد من معارفها، وأكدوا لها أنه رغم صغر سنه، فإنه {شاطر جداً} في هذا النوع من القضايا. بدأت تقص عليه قضيتها، وسردت تفاصيل الخدعة التي تعرضت لها، وكيف استغلها الملحن المعروف، واستولى على بنات أفكارها، وأطلعته على رغبتها في إقامة دعوى قضائية لاسترداد حقها الأدبي والمعنوي.

الغريب أن المحامي الشاب {جلال} والبالغ من العمر 25 عاماً، تحركت مشاعره لدموع الشاعرة الرقيقة المخدوعة، أحس بصدق روايتها وصدق مشاعرها. سقط المحامي الشاب في غرام موكلته التي تكبره بأربعة عشر عاماً بعد لحظات من لقائهما، وحتى لا تضيع منه هذه السيدة الرومانسية الحالمة أوهمها بقدرته على مساعدتها، وراح يؤكد لها أن قضيتها مضمونة، وأنه سيقف إلى جانبها ليعود إليها حقها الأدبي، وأنه سيظل معها حتى يجبر الملحن اللص على الاعتراف بأنها هي صاحبة كلمات الأغنية التي يتغنى بها المطرب الشهير. ولكنه أكد ضرورة أن تتعدد لقاءاتهما حتى ليناقشا سوياً كل شيء عن القضية.

هدف المحامي من طلبه أن يلتقي كل يوم السيدة الحالمة التي سقط في حبها فجأة ومن دون سابق إنذار، كان حباً من النظرة الأولى، بكل براءة سقطت المدرسة الرومانسية في الفخ الذي نصبه لها المحامي الشاب، فتعددت لقاءاتهما التي لم تسفر عن اتخاذ أي إجراء لإقامة دعوى قضائية، كانت اللقاءات بهدف خلق حجة مناسبة للمحامي الشاب ليتقرب من {سلوى} أكثر وأكثر، ويعلن في كل لقاء إعجابه الشديد برومانسيتها ورقة مشاعرها.

لقاء بعد الآخر، وجد {جلال} الشجاعة كي يعترف بحبه لـ}سلوى} التي تكبره بـ 14 عاما لها. أسقط في يد المدرسة الحالمة، لم تجد ما ترد به على المحامي الشاب. هربت من مكتبه قبل أن يتطور الحوار بينهما وتقودها رومانسيتها الشديدة إلى مشكلة أخرى لا يعلم مداها إلا الله. لكن هروبها من مكتب المحامي الشاب دفعه للاستمرار في مطاردتها. أحكم الحصار عليها، ولم تجد المدرسة الرومانسية أمامها سوى الهروب من حب هذا الشاب، ولتبعده عنها إلى الأبد طلبت منه أن تلتقي به في مكتبه للمرة الأخيرة فنهرته بشدة، وطلبت منه الابتعاد عنها نهائياً وأخبرته أنها ستلجأ إلى محام غيره ليقيم لها دعواها القضائية ضد الملحن.

لم يتقبل المحامي الشاب موقف المطلقة الشاعرة. جن جنونه عندما استمع إلى كلمات الرفض، تأكد من فشله في إيقاعها في شباكه، لذلك تحول الحب إلى كره صريح. قرر أن ينتقم منها، فراح يطلق إشاعات في كل مكان عن وجود علاقة غير مشروعة بينهما، ولفت مدينة {طنطا} كلها حيث تسكن ويسكن، لم تمض أيام قليلة حتى أصبحت سيرة {سلوى} على كل لسان، وعلاقاتها الجنسية مادة جذابة لجلسات النميمة هنا وهناك.

تبدلت نظرات الناس فجأة تجاه {سلوى} التي لم تدر بما يدور حولها، لاحظت مدرّسة اللغة الفرنسية أن الكل يرمقها بطريقة غريبة غير معتادة، في الشارع من تعرفهم يمرون بجوارها من دون أن يلقوا عليها بالسلام أو تحية الصباح. كانت تستقبل منهم نظرات تحمل الكثير من معاني الغضب، وربما الاحتقار.

واجهت {سلوى} المواقف نفسها في المدرسة أيضاً، التلميذات الصغيرات وزميلاتها المدرسات كن ينظرن إليها إما بتهكم أو اشمئزاز، ويسكتن عن الكلام بمجرد اقترابها منهن أو مرورها إلى جوارهن. أدركت {سلوى} أن أمراً ما جللا يخصها لكنها لا تعرفه أو حتى تفهمه، فلم تجد أمامها سوى زميلتها قريبة الملحن، استوقفتها وسألتها عن سر ما يجري حولها، وفي أسى أخبرتها زميلتها بأمر الأقاويل التي تتردد حول علاقة آثمة بينها وبين المحامي {جلال}.

طرف ثالث

ما إن سمعت {سلوى} هذه الإشاعات التي تمس شرفها حتى سقطت مغشيا عليها، وعندما أفاقت وجدت نفسها في بيتها فوق فراشها، وإلى جوارها زميلتها التي أطلعتها على الخبر الأسود المشؤوم. بكت {سلوى} بانكسار شديد، أغلقت عليها باب شقتها، ورفضت لقاء أي إنسان بعدما أحست أنها لا تصلح للعيش في هذه الدنيا القاسية، فما الذنب الذي اقترفته لتكافئها الدنيا بمثل هذه المكافأة؟ هل لأنها مسالمة لا تحب إيذاء البشر؟ وهل الطيبة أصبحت ذنباً في عرف البشر؟ وبينما هي غارقة في أسئلتها، دخل طرف ثالث في قصتها مع {جلال} المحامي}، ذلك أن الإشاعات السوداء التي طاولت شرفها، وصلت أصداؤها إلى أقاربها، الذين قرروا إيقاف هذه الكارثة بالدم، وقتل ابنتهم {سلوى} ليتخلصوا من عارها إلى الأبد، وحتى يرفعوا رؤوسهم من جديد بين الناس، كذلك قرروا قتل المحامي الشاب الذي تلوث شرف العائلة الكبيرة على يديه.

انطلق الأقارب إلى منزل {سلوى} يحملون أسلحتهم النارية، أمسكوا بها والشرر يتطاير من العيون، وقبل أن ينفذوا حكم الإعدام بها منحوها فرصة واحدة للدفاع عن نفسها، واستغلت المدرّسة البريئة الفرصة على أكمل وجه، نفت باكية بحرقة الإشاعة السوداء التي طاولت شرفها، واقسمت على كتاب الله أنها بريئة ولم يلمسها رجل منذ طلاقها، ومست دموعها وكلماتها الصادقة قلوب محاصريها.

في التوقيت نفسه، انطلقت مجموعة أخرى من أقارب {سلوى} لمداهمة مكتب المحامي الشاب، الذي انتفض مذعورا لمجرد رؤيتهم يحيطون به، سألهم في ذعر:

* أنتوا مين وعاوزين إيه؟

رد أحدهم قائلاً في حدة:

- إحنا ولاد عم الست {سلوى}... وجايين ناخد روحك!

وأدرك المحامي الشاب أنها ساعة الحساب... في البداية استجمع شجاعة زائفة وراح يصرخ في محاصريه قائلاً:

* تأخدوا روحي! يعني إيه؟! أنتوا فاكرين البلد سايبة... أنا هأحبسكم كلكم.

وجاء رد أقارب {سلوى} على تهديدات المحامي الشاب سريعاً، فانهال عليه أربعة منهم بالضرب، وأسقطوه أرضاً، وأوسعوه ركلا بأحذيتهم بكل قوة، وراح المحامي الشاب يصرخ طالباً منهم العفو، فحملوه كما الذبيحة وأسرعوا به إلى منزل {سلوى}، حيث يجتمع باقي أفراد الأسرة.

وقف {جلال} كالفأر المذعور أمام فوهات البنادق والمسدسات الموجهة إلى رأسه، فانهار واعترف أنه وراء إطلاق الإشاعات حول علاقته غير المشروعة بـ {سلوى}، قال في ندم: {أعترف قدامكم كلكم إني ندل وحقير... أنا اللي روجت الإشاعة عن وجود علاقة بيني وبين سلوى. كانت فكرة شيطان ونفذتها بكل سذاجة لأن سلوى جرحتني جرحاً كبيراً. أهانتني إهانة عمري ما أقدر أنساها. وكل ده لأني فعلا حبيتها من كل قلبي. كنت مستعداً أعمل أي حاجة تطلبها مني. أنا حبيت التراب اللي بتمشي عليه. لكن لما صارحتها بحبي جرحت مشاعري ودمرتني}.

وبكى {جلال} واستطرد قائلاً: {أنا دلوقتي تحت أمركم. اقتلوني لو تحبوا لكن ليا طلب واحد أن مدام سلوى تسامحني. كانت غلطة وأنا ندمان عليها. أنا قدامكم كلكم بأطلب أصلح الغلطة دي حالاً... يا ريت توافقوا على جوازي من بنتكم مدام سلوى}.

رحب الأقارب بهذه الزيجة، لكن {سلوى} اعترضت بشدة، وقالت إنها لا تحب المحامي، ولا يمكن أن تتزوج منه بعدما لوث سمعتها، وطعنها في شرفها بكل خسة ونذالة، وأكدت أن موافقتها على الزواج من {جلال} سيكون تأكيداً للإشاعات السوداء عن وجود علاقة سابقة بينهما، فاقتنع الأهل والأقارب بمنطقها ورفضوا طلب المحامي، وليضمنوا عدم عودته لإطلاق الإشاعات أجبروه، تحت تهديد السلاح، على التوقيع على إيصالات أمانة بلغت قيمتها ما يزيد على مليون جنيه، فإذا ما عاد لإطلاق الإشاعات حول قريبتهم زجوا به إلى غياهب السجون، فوقع المحامي المرعوب على إيصالات الأمانة.

ما إن حصل {جلال} على حريته حتى انطلق صوب مديرية أمن الغربية، وتقدم ببلاغ يتهم فيه {سلوى}، وأقاربها باختطافه واحتجازه وإجباره على تحرير إيصالات أمانة بأكثر من مليون جنيه. فوراً ألقى رجال مباحث الغربية القبض على {سلوى} وأقاربها، وأحيلوا إلى النيابة، ومنها إلى محاكمة عاجلة حيث اعترف المتهمون بما ذكره المحامي الشاب، إلا أن {سلوى} أنكرت بدموعها الحارقة مشاركتها معهم في الجريمة، وأمام دموع المدرسة الرومانسية تحركت مشاعر {جلال} ليفجر المفاجأة، ويتنازل عن دعواه بسبب حبه الشديد لـ {سلوى}، لتقضي المحكمة ببراءتها.