لأن تنظيم "داعش" بات يشعر بدنوِّ أجله واقتراب نهايته، فإن حالة الإرباك التي غدا يعيشها جعلته يبادر إلى تبني أي جريمة، في أي دولة وأي مكان، يرتكبها قاتل عاديٌّ أوْ مراهق جاء من حثالة مجتمعه ولم يجد ما يعطي لنفسه أهمية من خلاله إلاّ الادعاء بانتمائه إلى هذا التنظيم الإرهابي، أوْ أي تنظيم متطرف آخر، حتى وإنْ كان لا يعرف عن هذه الظاهرة المستجدة إلا من خلال ما يراه وما يقرأه في الـ"إنترنت" والمواقع الإلكترونية.

إنَّ معظم هؤلاء الذين أطلق عليهم الإعلام الغربي (الإعلام الأميركي على وجه التحديد) مصطلح "الذئاب المنفردة" لو جرى التدقيق في نشأتهم وطفولتهم لثبت أنهم لجأوا إلى العنف، وإلى الادعاء بارتباطهم بهذا التنظيم الإرهابي أو بغيره؛ للهروب من واقع لا يريدون الانتساب إليه، ولإثبات وجودهم، ولإشعار الآخرين بقيمتهم في مجتمعات يعتبر بعضها التطرف والقتل والدموية "رجولة"... وأيُّ رجولة!

Ad

ويقيناً لو جرى التدقيق في جرائم ما يسمى الذئاب، أو الكلاب، المنفردة، ومن بينها جريمة "البقعة" الأخيرة في الأردن لوجدتْ الجهةُ المدققةُ، التي من المفترض أن تكون اجتماعية وليست أمنية، أن مرتكبها شابٌ فاشل يعاني عقدة نقصٍ ضاغطة، وأن علاقاته بأهله وعائلته غير سليمة، وبالتالي فإنه اختار الانتماء إلى "داعش" إلكترونياً لإعلان وجوده، وأنه قام بهذه الجريمة النكراء، بدمٍ باردٍ، لإثبات رجولته ولجذب انتباه المحيطين به في المجتمع الذي يعيش فيه.

وهذا ينطبق بالتأكيد على مرتكب جريمة أورلاندو الأخيرة في فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية، فهو أفغاني الأصل، لجأ والده إلى ما وراء بحور الظلمات هروباً من واقع اجتماعي جائر وظالم، وهروباً من أوضاعٍ أمنية مرعبة... وهو، أي هذا المجرم، إن كان رأى النور في أميركا فإنه قد فتح عينيه على مجتمع غريب لم يقبله، ولم يشعره بأنه جزءٌ منه، وبالتالي فإنه لم يجد إلاّ طريق الانحراف لإثبات وجوده، بل لينتقم من هذا المجتمع الذي يعتبره ظالماً وقاسياً وعنصرياً، ولم يجد ما ينتقم به ومن خلاله من نفسه أولاً ومن مجتمع غريب لم يستطع ولوج أبوابه والدخول إليه إلاّ بالبحث عن هذا الـ "داعش" الذي ذاع صيته في السنوات الأخيرة والالتحاق بصفوفه، وإنْ عن بعد ووهمياً من خلال الـ"إنترنت" والمواقع الإلكترونية.

والمؤكد أن هذه هي حال كل الذين ارتكبوا جرائم التفجيرات الدموية الإرهابية في بروكسل وفي باريس، والذين أكدت الاستقصاءات والتحقيقات كلها التي جرت في بلجيكا وفي فرنسا أنهم لجأوا إلى "داعش" هروباً من طفولة قاسية وانتقاماً من مجتمعات ظالمة عاشوا هم وأهلهم كمجرد حثالات هامشية فيها.

وهكذا ولأن "داعش" قد دخل مرحلة الهزيمة فإنه يجب توقع المزيد من انتعاش ظاهرة "الذئاب المنفردة" هذه... وهنا فإنه لا يمكن "تصْديق" أنَّ والداً لا يعرف ابنه ولا يعرف أي شيء عن دخوله هذه الدائرة الجهنمية، فالابن هو سرُّ أبيه، والأب هو سرُّ ابنه، وعلى الآباء والأمهات أن يفتحوا عيونهم جيداً، وبخاصة إذا كانوا مهاجرين ويعيشون في مجتمعات لم تقبلهم، وهم لم يقبلوها... وهذا هو واقع الحال بالنسبة لأبناء المستعمرات الفرنسية والبريطانية والإسبانية القديمة الذين اضطر آباؤهم وأجدادهم للالتحاق بمستعمريهم الذين عادوا إلى بلدانهم المُستعمرة.