الديمقراطية غير الليبرالية أو الليبرالية غير الديمقراطية
إذا أصبحت المؤسسة السياسية تحت وطأة الشعبويين وأضحت السياسة العامة تحت سيطرة التكنوقراط بشكل كبير، فمن غير المحتمل أن تنجح الديمقراطية الليبرالية، وفي هذه الحالة فإننا قد نواجه خيارا مستحيلا: التضحية بحقوقنا لإنقاذ الديمقراطية.
![بروجيكت سنديكيت](https://www.aljarida.com/uploads/authors/176_1682431716.jpg)
وللوهلة الأولى يبدو أن التفسيرات التي قدمها سوليفان وليند متناقضة، ولكن لفهم الأزمة المتفاقمة للديمقراطية الليبرالية، التي شجعت أيضا شعبويي اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا، علينا أن نعترف أنها متكاملة في الواقع.وتتميز النظم السياسية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية بمكونين أساسيين، فهي في الوقت نفسه ليبرالية لأنها تسعى إلى ضمان حقوق الأفراد، بما فيها حقوق الأقليات المهمشة، وأيضا ديمقراطية لأن مؤسساتها تقوم بترجمة وجهات النظر الشعبية إلى السياسة العامة.لكن في العقود الأخيرة تراجعت مستويات المعيشة للمواطنين العاديين وزاد الغضب إزاء المؤسسة السياسية، ولهذا السبب برز صراع بين هذين المكونين الأساسيين للسياسة في الغرب، ونتيجة لذلك انقسمت الديمقراطية الليبرالية إلى قسمين، مما أدى إلى شكلين من النظام الجديد: "الديمقراطية غير الليبرالية"، أو ديمقراطية بدون حقوق، و"الليبرالية غير الديمقراطية"، أو حقوق بدون ديمقراطية.في كثير من البلدان تم تفادي الطعن الديمقراطي في مجالات سياسية شاسعة، كما اتخذت القرارات الاقتصادية الكلية من البنوك المركزية المستقلة، فالسياسة التجارية منصوص عليها في الاتفاقات الدولية التي تنتج عن المفاوضات السرية داخل المؤسسات النائية، وتتم تسوية العديد من الخلافات حول القضايا الاجتماعية من خلال المحاكم الدستورية، وفي مجالات نادرة، مثل تحصيل الضرائب حيث يحتفظ المنتخبون بنوع من الاستقلالية، خففت ضغوط العولمة من الاختلافات الأيديولوجية بين أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط التقليدية.ليس من الغريب إذاً أن يشعر المواطنون على جانبي المحيط الأطلسي بأنهم لم يعودوا متحكمين في مصيرهم السياسي، فعلى كل حال يعيشون الآن في ظل نظام ليبرالي، لكنه غير ديمقراطي: النظام الذي يحترم حقوقهم في الغالب ولكن يتجاهل ميولهم السياسية بشكل عادي. لديهم نفور من المؤسسة السياسية التي لا تستجيب لمتطلباتهم، فالناخبون يتدفقون على الشعبويين الذين يدّعون تجسيد صوت الناس الخالص مثل ترامب، ويعدون بطرح الحواجز المؤسسية- من وسائل الإعلام الناقدة والمحاكم المستقلة إلى المؤسسات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي أو منظمة التجارة العالمية- التي تقف في طريق الإرادة الجماعية جانبا، لكن خطابهم البغيض يجعلنا نشكك في ما يأملون تحقيقه: حملة ضد حقوق الأفراد، وقذف المكسيكيين والمسلمين والصحافيين الذين أضحوا كبش فداء في خطاباتهم بشكل كبير.في السنوات الأخيرة أثبت رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان مدى سهولة انزلاق أي بلد إلى الديمقراطية غير الليبرالية، ومنذ أواخر العام الماضي سعت الحكومة البولندية الجديدة إلى تحقيق قواعد اللعبة التي يمارسها أوربان. وإذا فازت مارين لوبان بالرئاسة الفرنسية العام المقبل فقد تنتشر الديمقراطية غير الليبرالية في قلب أوروبا الغربية، ويعدّ صعود ترامب، مثل شعبويي اليمين في أوروبا، مثالا للدينامية السياسية في عصرنا: إن الديمقراطية المفرطة التي تثير مخاوف سوليفان قد تأسست على عقود من قلة الديمقراطية، وبما أن النخب السياسية أصبحت بمعزل عن تفضيلات الناخبين العاديين، فإنها قد خلقت فضاء مفتوحا لإذكاء، في كثير من الأحيان القبلية والشوفينية العميقة، الوحدة المجتمعية والدفاع عن النفس الشعبي.لا يزال هناك بعض الأمل في تجنب تفكك أنظمتنا السياسية إما إلى الديمقراطية غير الليبرالية أو إلى الليبرالية غير الديمقراطية، وربما يجب أن تعطى الأولوية على المدى القصير لتنفيذ السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى رفع مستوى عيش المواطنين، وبالتالي تخفيف الغضب على نطاق واسع تجاه المؤسسة السياسية.ومن المفيد تجربة أشكال المشاركة السياسية، ففي السنوات الأخيرة أصبح التمويل التشاركي، واستطلاعات الرأي التداولية، حتى أشكال "الديمقراطية السائلة"، التي تسمح للمواطنين باختيار ما إذا كانوا سيصوتون على سياسة حكومية أو تفويض تصويتهم لمن ينوب عنهم، ولا تجدي كل هذه الابتكارات كثيرا، ولكن يمكنها أن تساعد في تمهيد الطريق نحو المؤسسات التي توازن بين الحقوق الفردية والحكم الشعبي أفضل من الترتيبات الحالية. وإذا كانت هذه التدابير غير كافية، أو إذا أصبحت المؤسسة السياسية تحت وطأة الشعبويين وأضحت السياسة العامة تحت سيطرة التكنوقراط بشكل كبير، فمن غير المحتمل أن تنجح الديمقراطية الليبرالية، وفي هذه الحالة فإننا قد نواجه خيارا مستحيلا: التضحية بحقوقنا لإنقاذ الديمقراطية، أو التخلي عن الديمقراطية للحفاظ على حقوقنا.ياشا مونك Yascha Mounk، محاضر في النظرية السياسية في جامعة هارفارد، وهو زميل في "أميركا الجديدة".«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»
النظم السياسية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية تتميز بمكونين أساسيين: الليبرالية والديمقراطية
الناخبون يتدفقون على الشعبويين الذين يدّعون تجسيد صوت الناس ويعدون بطرح الحواجز المؤسسية التي توقف الإرادة الجماعية جانباً
الناخبون يتدفقون على الشعبويين الذين يدّعون تجسيد صوت الناس ويعدون بطرح الحواجز المؤسسية التي توقف الإرادة الجماعية جانباً