رغم أن «عمرو» سليل أسرة من الباشاوات الذين عرفتهم مصر قبل ثورة 1952، كان رجلاً شكاكاً بطبعه، لا يعرف الشك عنده أي حدود، لا تستبعد أن يشكّ في أقرب الناس إليه، بل لا تستبعد أن يشك في ظله. كان الشك عيبه الوحيد والخطير، إذ لم ينجح في التغلب عليه، رغم تفوقه العلمي الذي كلله بالتخرج في كلية الهندسة بتفوق والتحق بالعمل في إحدى شركات المقاولات الخاصة في مصر، براتب شهري مجز.

نجاحات «عمرو» في الحياة جعلته في سوق الزواج عملة نادرة، عريس لقطة لأي فتاة، إلا أن الشك الذي لازمه تحول إلى شكل مرضي، أجبره أن يتأنى في اختيار الزوجة. كان يريدها بمواصفات خاصة، فهو يعلم جيداً أنه صعب العشرة وعصبي المزاج، ولن تتحمل طباعه أي فتاة، فضلا عن شكه الدائم.

Ad

ربما أصيب «عمرو» بمرض الشك من كثرة علاقاته بزميلاته في مرحلة المراهقة، مع أن هذه القصص كانت في معظمها مشاعر حب بريئة، حالمة أكثر من كونها واقعية، لطيفة أكثر مما هي خشنة. إلا أن «عمرو» بشكه المرضي حوّل حب المراهقة الحالم إلى فقدان ثقة كامل في معظم بنات حواء، بعدما شاهد بعضهن ينقلن قلوبهن بين المحبين، لذلك صرف النظر عن مسألة الزواج حتى يعثر على الفتاة المناسبة.

أمام سنوات العمر الموالية تحركت والدة «عمرو»، لم تقف مكتوفة اليدين أمام إهمال وحيدها لأمر زواجه، على غرار كل الأمهات كانت تتمنى أن تطمئن على ابنها وترى أحفادها، لذلك تولت هي أمر البحث عن عروس مناسبة لابنها الذي وافق على مضض، ولم يشترط في عروسه أن تكون جميلة، بل ربما تمنى أن تكون دميمة حتى لا تلفت أنظار الرجال، وتكون له وحده، فقد رأى أن الجميلات يتزايد الطلب عليهن، وتحوّل الواحدة منهن حياة زوجها إلى جحيم، على عكس غير الجميلات، إرضاؤهن أسهل.

كان منطق المهندس الشاب غريباً وعجيباً حقاً، ولكن قد تكون له وجاهته عند البعض. عثرت الأم في رحلة البحث عن عروس مناسبة لابنها على فتيات جميلات، لكن لم تحز أيّ منهن إعجاب المهندس الشاب، فتابعت الأم رحلة البحث حتى عثرت على «سارة»، وكانت ابنة إحدى قريبات الأم من بعيد. كانت النموذج بالنسبة إلى المهندس «عمرو»، بمجرد أن التقى بها ذات مرة تعلق بها وقال لوالدته: «هي دي».

كانت «سارة» فتاة شديدة الأدب والأخلاق، من أسرة طيبة، متدينة وتخاف ربنا بحق، عيبها الوحيد أنها ثرثارة بشكل مبالغ فيه، ولكن تقبل «عمرو» العيب قائلا: «الكمال لله وحده»، فتم زواجهما بسرعة، ومضت الأيام هنيئة بالزوجين الشابين، واستطاعت الزوجة بخلقها الحسن أن تبدد أوهام زوجها وشكوكه في النساء.

الشك يا عزيزي

ذات صباح، جلس المهندس الشاب «عمرو» خلف مكتبه في إحدى شركات المقاولات الخاصة، يستمع إلى آراء زملائه وزميلاته حول الحادث البشع الذي نشرته الصحف في ذلك الصباح عن جريمة القتل التي راح ضحيتها زوج على يد زوجته وعشيقها.

قال أحد الزملاء متبرما:

* الدنيا ما بقاش فيها أمان.

ورد زميل آخر في غيظ:

- ستات عاوزين الحرق.

وقاطعته إحدى الزميلات في حدة قائلة:

** نعم! مالهم الستات بقى ياسي علاء. أنت هتلم العاطل ع الباطل؟

تدخّل زميل رابع لتهدئة الجو قائلا:

# «يا ستي ما يقصدش... هو أكيد يقصد النوع ده من الستات اللي ممكن تقتل جوزها.

وعادت الزميلة تقول غاضبة:

** آه... بأحسب... أصل صوابعك مش زي بعضها.

كان الحوار بين الزملاء في الشركة ساخناً، ولكن «عمرو» لم يشارك فيه بكلمة. انشغل بمطالعة تفاصيل الحادث الذي ذكرته الصحيفة بدقة متناهية. كلما قرأ كلمة اتسعت عيناه من الدهشة، وانقبض قلبه، لا سيما أن أبطال الجريمة، تحديداً الزوجة القاتلة والزوج القتيل لديهما قواسم مشتركة معه ومع زوجته الشابة «سارة» في كثير من الملامح. هنا بدأ الشك يتسرب إلى عقله شيئا فشيئا.

حتى خلافات الزوجة القاتلة والزوج القتيل، التي نشرتها الصحيفة تشابهت مع خلافات «عمرو» و»سارة»، التي اندلعت بينهما قبل أسابيع، وكانت البداية اتهام «سارة» له بالبخل الشديد.

انتهى «عمرو» من قراءة تفاصيل الجريمة ثم طوى الصحيفة، وجلس شارد الذهن، وسؤال واحد يتردد في عقله: هل من الممكن أن تكون نهايته مثل نهاية هذا الزوج على يد زوجته وعشيقها؟ انتبه للحظة للكلمة الأخيرة «عشيق» وقفز إلى ذهنه سؤال آخر: هل لزوجتي عشيق؟!

تلاحقت الأفكار السوداء في رأس المهندس الشاب، وفشل في إبعادها تماماً. تحدث إلى نفسه بصوت الحكمة قائلا: «مش معقول سارة بنت الأصول تعمل كده... دي متربية أحسن تربية وعيلتها ناس محترمين ومؤدبين»، ولكن صوت الحكمة لم يكن مقنعاً بقدر اقتناعه في النهاية بوساوس الشيطان الذي ركبه في تلك الأثناء، وأمطر رأسه بأفكار غريبة سيطرت عليه بشدة، حتى أنه بدأ يشعر بغضب عارم صامت تجاه زوجته البريئة.

حديث النفس

استيقظت هواجس «عمرو» مرة واحدة، وراحت صور خيالية تمر أمام عينيه عن احتمالية خيانة زوجته له، وسقوطها في حب رجل آخر غيره، تماماً كما حدث مع بطلة الجريمة المنشورة، وتسارعت الأفكار في ذهن المهندس «عمرو» حتى تخيل أن زوجته تجلس الآن مع عشيقها يرسمان خطة التخلص منه ليخلو لهما الجو. لم يحتمل متابعة السيناريو المخيف، قفز في مكانه واستأذن للانصراف بحجة شعوره بتعب مفاجئ، وفي حقيقة الأمر أن الوساوس تمكنت منه تماماً، وكان ينوي الانطلاق إلى بيته ليباغت زوجته وهي تعد مع عشيقها خطة التخلص منه، سعياً منه إلى إفساد الخطة المزعومة كما صورها له خياله المريض.

طار «عمرو» إلى بيته ورأسه مشتعل بأفكار ما أنزل الله بها من سلطان. في الطريق من المعادي حيث مقر عمله إلى مدينة نصر حيث منزله، أمسك المهندس الشاب بهاتفه المحمول واتصل بزوجته، لكنها لم ترد عليه لتزيد الطين بلة كما يقولون وتؤكد شكوكه، قال في نفسه مؤكدا شكوكه: «أكيد هي معاه دلوقتي قاعدين يخططوا». وراح المهندس الشاب يرسم في خياله سيناريوهات سوداء، كل واحد أشد قتامة من سابقه، لما سيحدث عندما يواجه زوجته وعشيقها ويكشف مؤامراتهما عليه، وتصاعدت الحوادث الخيالية في رأس الزوج، حتى أنه تخيل نفسه ينتقم لشرفه المسلوب، ويذبح زوجته وعشيقها والفتك بهما.

ولكن عندما وصل «عمرو» إلى البيت، وصعد إلى شقته وجد سيناريو مختلفاً عن السيناريوهات كافة التي صورها له خياله. فتح الزوج الشاب باب شقته بهدوء، دخل إلى الشقة على أطراف أصابعه، من دون أن يلتفت إلى أن محتويات الشقة مبعثرة بطريقة غريبة، توقف قليلا والأفكار السوداء، ومشاهد خيانة زوجته «سارة» تداهم رأسه، كأنها شريط سينما يتحرك أمام عينيه.

قال «عمرو» في نفسه: «لا بد من أنهما في غرفة النوم الآن... لا بد من أن أقتحم عليهما خلوتهما، وأمزقهما أربا... وأغسل عاري بيدي». وقبل أن يخطو خطوة سمع آنات ضعيفة تأتي من غرفة النوم، وهنا أطل الشيطان بقرنيه من رأسه، مؤكداً له أنه كان على حق في كل شكوكه عن زوجته، ها هي الخائنة تمرمغ شرفه في الوحل، وفي فراش الزوجية، أسرع الزوج الشاب الذي أصابه الجنون إلى المطبخ، واستل أكبر سكين فيه ويده ترتجف، وأطلق لساقيه العنان، واقتحم غرفة النوم شاهرا السكين ليجد زوجته «سارة» ملقاة على الأرض سابحة في دمائها، وقد انغرست مطواة في كتفها الأيسر.

شلت الصدمة تفكير الزوج الشاب للحظات، سقطت السكين من يده، وبعدما استجمع شتات نفسه أطلق صرخة استغاثة، جاءت بكل الجيران إلى غرفة النوم، ولم تمض دقائق معدودة حتى كان رجال المباحث داخل شقة المهندس «عمرو»، ويحمل الجيران الزوجة المصابة «سارة» إلى أقرب مستشفى لإنقاذها من الموت، والجميع يسأل عن سبب إصابتها ومن الذي اعتدى عليها.

رواية الزوجة
عندما استيقظت الزوجة الشابة «سارة» بعدما نجح الأطباء في إنقاذ حياتها، أكدت لرجال المباحث أنها خرجت من شقتها إلى السوق لشراء متطلبات البيت، وعندما عادت فوجئت بشخص غريب يختبئ في دولاب الملابس داخل غرفة النوم، فهددها بمطواة، وطلب منها أن ترشده إلى مكان مجوهراتها، وأي مبالغ مالية موجودة بالشقة وإلا ذبحها.

أضافت «سارة» في أقوالها أنها انصاعت لتهديدات اللص خوفاً على حياتها، وأرشدته عن مكان المجوهرات، ومبلغ 10 آلاف جنيه مصروف البيت، وبعدما استولى اللص على المجوهرات والمال طعنها بالمطواة، فسقطت مغشياً عليها من الرعب والألم، ولم تنس الزوجة المصابة أن تدلي بأوصاف اللص الذي كاد يجهز على حياتها.

حكاية الزوجة واللص، أربكت حسابات المهندس «عمرو»، قضت على سيناريوهات رسمها الزوج في مخيلته عن خيانة زوجته له، وتخطيطها مع عشيقها الوهمي للتخلص منه، وجلس غير مصدق ما جرى. داهمته الأوهام، وقال في نفسه بثقة وغرور «عبيط أنا بقى علشان أصدق الفيلم الهابط ده اللي ألفته سارة». أضاف المهندس الشاب لنفسه: «مش يمكن سارة وعشيقها اختلفوا فطعنها وخد المجوهرات والفلوس وهرب... مين يقدر يجزم أن الجاني لص مش عشيق؟».

استيقظ الزوج الواهم على واقع جديد لم يملك أمامه إلا الارتباك الذي ظهر واضحاً عليه، بسبب سكين المطبخ الذي عثر عليه بالقرب من باب غرفة النوم، وعليه بصمات «عمرو»، ما دفع رجال المباحث لتوجيه أصابع الاتهام إليه، أو على الأقل الشك فيه وفي نواياه، لذلك سأله رئيس المباحث سؤالا واحدا:

* إيه اللي رجعك من شغلك بدري يوم الحادث يا باشمهندس؟

حاول «عمرو» التهرب من الإجابة، قال إنه شعر بتعب مفاجئ، ولكن هذه الحجة لم يصدقها الضابط بإحساسه الأمني، ومن أسلوب كلام المهندس الشاب المتردد، فعاد الضابط يقول:

* اسمعني كويس يا تقول الحقيقة يا إما هأقدمك للنيابة بتهمة الشروع في قتل زوجتك... أنت فيه أدلة كتير ضدك وكفاية السكينة اللي عليها بصماتك يا باشمهندس.

كان الزوج الشاب في ورطة بالفعل، لم يكن أمامه سوى أن يقول للضابط الحقيقة، رغم العواقب الوخيمة التي قد تحدث لو علمت زوجته «سارة» بأمر شكوكه المريبة فيها، بالتأكيد ستطلب منه الطلاق، وستنتهي علاقته بها إلى الأبد، فما من زوجة تقبل على نفسها أن تعيش مع رجل يشك في أنها على علاقة برجل آخر، وتخون زوجها بل وتحاول قتله مع عشيقها، ولكن كما يقولون قضاء أخف من قضاء، رأى «عمرو» أن الطلاق سيكون أهون من السجن ظلما.

انهار «عمرو» باكيا أمام ضابط المباحث، وروى له في خجل الأفكار السوداء التي ملأت عقله، وشكه في زوجته منذ قرأ الخبر حول الحادث البشع في صحيفة سيارة صباح يوم الحادث، وحتى بعد محاولة قتل زوجته على يد لص، لم يصدق روايتها واعتقد أنه عشيقها واختلفا سويا ما أدى إلى محاولة قتل الزوجة.

كانت دهشة ضابط المباحث تزداد كلما سمع أحد سيناريوهات الوهم التي اجتاحت عقل الزوج الشاب، وذلك كله لمجرد أنه قرأ خبراً حول جريمة نشرتها الصحف. لم يكن صعباً على الضابط أن يكتشف أنه أمام رجل مريض بالشك، وأن هذا الشك سيدمر حياته لا محالة. لحظات ووصلت إلى ضابط المباحث إشارة عبر جهاز اللاسلكي، فوقف وربت على كتف «عمرو» قائلا بابتسامة: «يا باشمهندس عمرو... اطرد الأفكار السوداء دي من دماغك. إحنا قبضنا على اللص اللي حاول يقتل مراتك وسرق فلوسك.. واعترف».

كانت اعترافات اللص بجريمته كاملة ودقيقة، والأمر الأهم الذي حاول «عمرو» معرفته: هل ثمة علاقة أو سابق معرفة بين اللص وزوجته المصابة؟ لكن اللص أنكر معرفته بالزوجة، وأشار إلى أنه اختار ضحيته بعدما راقب البيت أياماً، وعرف أن الزوج يغادر إلى عمله في الصباح الباكر، وتغادر الزوجة الشقة لشراء متطلبات البيت من الأسواق. وعندما تأكد من خلو الشقة من أصحابها اقتحمها، إلا أن الوقت لم يسعفه في العثور على المجوهرات والأموال، وفوجئ بالزوجة تعود مبكرة فاختبأ في الدولاب، ولكنه خاف من افتضاح أمره، فخرج للزوجة وهددها، وبعدما أرشدته إلى مكان المجوهرات والأموال طعنها قاصدا قتلها حتى لا تبح بأوصافه للشرطة.

أحيل اللص إلى النيابة ومنها إلى محكمة الجنايات، التي قضت بمعاقبته بالسجن المشدد سبع سنوات لارتكابه جريمة السرقة المقترنة بالشروع في القتل، فيما خرج المهندس الشاب مع زوجته «سارة» وأمامهما ضابط المباحث الذي أدلى بشهادته أمام المحكمة، هرول «عمرو» إلى الضابط واستوقفه بابتسامة ممزوجة بالخجل قائلا في رجاء:

«يا ريت يا فندم حكاية الشك في مراتي دي تفضل سر بيني وبينك... ربنا أمر بالستر».

وابتسم الضابط قائلا: «المرة دي جت سليمة... بس المرة الجاية ما وعدكش».