الأغلبية الصامتة: الأندلس... أرض السوابق
"ومشى البريد في الأسواق والأرباض بألا يبقى أحد بقرطبة من بني أمية ولا يكنفهم أحد". (المؤرخ ابن الخطيب السلماني) مع عزل الخليفة الأموي المعتد بالله من أهل قرطبة طويت للأبد صفحة الحكم الأموي في بلاد الأندلس الذي اتخذ في مراحله الأخيرة صفة الخلافة الموازية لخلافة العباسيين في بغداد، لقد اتخذ أهل قرطبة الفاعلون قرارا مصيريا بإنهاء حكم اكتسى بالشرعية الدينية والواقعية، بعد أن فقد فاعليته في تحقيق الأمن والاستقرار لهم، وردع الفتن التي حولت حياتهم الهانئة إلى جحيم لا ينتهي.
إن قراءة التاريخ الأندلسي ثرية بما تقدمه من الدروس والسوابق والأخبار، مقارنة بالرقعة الجغرافية لشبه الجزيرة الآيبيرية التي تعتبر صغيرة مقارنة بالدولة العباسية والممالك المتفرعة منها، ذلك أن الخليط العرقي والديني المتشابك لسكان الأندلس إضافة إلى الموقع الجغرافي بين شمال إفريقيا وجنوب أوروبا جعل من تلك المنطقة بوتقة مبكرة للانصهار الحضاري وجسرا للتلاقي بين العالمين الإسلامي والمسيحي في فترات السلم. إن السوابق التي قدمتها بلاد الأندلس خلال فترة الحكم الإسلامي للعالم الإسلامي نفسه كثيرة، نوجزها بعدة نقاط، أولها تقبل المسلمين في تلك الديار فكرة الاستقلال عن الخلافة العباسية الناشئة في بغداد، والتي ابتلعت الحكم الأموي بكل ما فيه، ما عدا تلك الإمارة البعيدة التي استولى عليها الأمير الأموي الهارب من بطش العباسيين عبدالرحمن الداخل.لقد أوجد الداخل لنفسه شرعية واقعية ورجال دين أباحوا له الخروج على طاعة ولي الأمر، وهو من الذكاء بحيث لم ينصّب نفسه خليفة للمسلمين واكتفى لنفسه بلقب الأمير، وسار أعقابه على الطريق نفسه، وبعد مرور قرن ونصف تقريبا وبعد أن ضعفت خلافة بغداد وظهرت خلافة نقيضة لها في المهدية ثم القاهرة، وهي الفاطمية وجد الأمير القوي عبدالرحمن الثالث الفرصة لاستعادة عرش أجداده الأمويين، فأعلن نفسه خليفة ثالثا للمسلمين وتلقب بالناصر لدين الله بعدما أجاز له الفقهاء ذلك؛ بحجة إمكانية وجود أكثر من خليفة للمسلمين في وقت واحد طالما أن المسافة بينهما بعيدة، وتلك لم تكن سابقة أندلسية لأن من تسموا بالخلافة كثر، ولكن الأسبقية تمحورت حول الحجة نفسها وبالفعل أين بغداد والقاهرة من قرطبة؟ المسافة طويلة جدا!السابقة الأندلسية الثالثة التي حدثت إبان فترة ملوك الطوائف التي أعقبت الحكم الأموي هي عدم تسابق الملوك والأمراء عربا وبربرا إلى نيل المشروعية الدينية والسياسية من الخليفة العباسي، كما فعل عدد لا يحصى من المتغلبين على أجزاء تلك الإمبراطورية بعد أن فقدت قوتها المركزية، لقد كان ذلك التكليف الشكلي الذي لم يكن أكثر من كتاب مختوم وبعض المراسم ضروريا جدا كي يستمد الحاكم المتغلب المشروعية الدينية عند الفقهاء والعامة، ولكي يستعمله كسلاح ضد خصومه، ولكن لم يقترب من تلك الفكرة سوى بني العباد حكام إشبيلية أكبر ممالك الأندلس عندما استعانوا بشبيه الخليفة المقتول هشام المؤيد، وأجلسوه على كرسي الخلافة لضمان تأييد الأطراف التي لا تزال تدين له بالولاء، تلك الورقة ما لبثت أن احترقت ولم تستبدل بورقة خليفة بغداد، ربما لأن أهل الأندلس لا يكترثون بشرعية خليفة يسكن بعيدا عنهم.السابقة الأخيرة هي بروز ملامح الحكم الجمهوري في قرطبة وإشبيلية بعد ماراثون الفتن الداخلية التي اشتعلت أول الأمر داخل البيت الأموي، ثم انتقلت لتشمل البربر والصقالبة والعرب والعامة والخاصة في دوامة لا تنتهي لخلفاء لا يمكثون في حكم أكثر من سنة، ثم يهربون ثم يعودون حتى كره الناس والتجار هذه الحياة المشبعة بالخوف والتوتر، فكان أن اختاروا عزل آخر خليفة أموي، وترك الأمور ترتب نفسها وفقا لظروف كل منطقة، الأمر الذي جعل معظم الولاة يستقلون بالأراضي التي تقع تحت سلطانهم.ما نريد تسليط الضوء عليه هو تجربة أعيان قرطبة عندما اختاروا رئيسا لحكومتهم هو الوزير أبو الحزم بن جهور الذي حرص بدوره بذكاء على تعيين مجلس شبيه بالبرلمان، لا يقطع بن جهور بأمر كبير قبل الرجوع إليه، وبعد أكثر من عشر سنوات تبدلت الأحوال واستبد بنو جهور بالحكم، وصار الحكم وراثيا لهم، وبشكل قريب الشبه حدث الأمر نفسه في مملكة إشبيلية، وانتهى باستبداد الطاغية المعتضد بن عباد بكل شؤون المملكة، وليس ذلك هو الموضوع بل الموضوع هو كيف أمكن المسلمون في ذلك العصر، من تطبيق النظام الجمهوري بشكل سبق جيرانهم الأوربيين الذين لم يعرفوا غير النظام الملكي الإقطاعي، وفي الوقت نفسه لم يأبهوا بالمحيط الإسلامي الذي ظل يجتهد بالتخريجات الشرعية لكل شيء ما عدا الحكم الجمهوري آنذاك؟ فهل يا ترى فرضت معطيات الواقع القاسية بسبب الفتن مشروعيتها الواقعية على الأرض بما يتجاوز جميع الآراء الفقهية السائدة في حينها؟