كيف ترى فوزك بجائزة الدولة التقديرية بعد كل هذا العمر؟

Ad

لم أكن بعد انقضاء هذا العمر منتظراً لشيء وقد كانت مسألة الجوائز خارج الذاكرة والاهتمام، وكنت قد هيأت نفسي إلى أن ما يتبقى من سنوات العمر تكون لإجازة فعل الكتابة وتطوير أدواتي، خصوصاً أنني مخلص لشكل من أشكال الكتابة وهو القصة القصيرة، وذلك للتعبير عن الأسئلة التي تشغلني، وحين تم التصويت على منحي الجائزة فوجئ الناس، بما فيهم لجنة التحكيم، بأنني لم أنل الجائزة من قبل!. وبالتالي حصلت على الأصوات بوفرة.

ما رؤيتك للجوائز، عموماً، على تعددها؟

الجوائز في العالم العربي، راهناً، فيها ما يعبر عن حركة الكتابة وتبني المغامرات الجديدة في الشكل والمضمون، وثمة جوائز تسعى لتبيض وجه مؤسساتها، وقد أصبح الخوف أن تؤلف الأعمال بهدف الحصول على جائزة، لكني أرى أن المجلس الأعلى للثقافة في مصر سعى إلى أن يتم التحكيم والترشيح بموضوعية، لأن الجائزة حكومية وليست جائزة صادرة عن  مؤسسات خاصة، من دون شك تساعد الجوائز الكتُاب وتعينهم على ممارسة الحياة والعمل باطمئنان والعيش في ستر، في آخر المطاف قلت: «أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي»...

هل تشعر بأنك نلت جزءًا من حقك بالتكريم الرسمي من خلال هذه الجائزة؟

أسعدني وأحزنني أن الأصدقاء وبعض القراء شعروا تجاهي أن ظلماً كان واقعاً عليّ وقد رفُع، فكان أغلب الحديث حول ذلك، وكأنني حصلت على حق ضائع، في حين أنني لم أنظر إلى الأمر على هذا المستوى، بل أن القصة القصيرة،  أحد أشكال الكتابة، داهمتها مقولة الزمن للرواية.

من خلال كتابة هذا الشكل آثرت أن أعبر عن ذاكرة قديمة يتهددها الزوال وأشخاص ذهبوا إلى محوهم وواقع متغير، بهذه المعاني كتبت قصصا وبهذه اللغة جسدت العالم، وحلمي ورؤيتي أن تجربتي مع كتابة القصة وبعض الزملاء، على غرار أحمد بوصفوري في المغرب، طالب الرفاعي في الكويت، محمد المخزنجي في مصر وكثر غيرهم، الحفاظ من خلال كتابتهم على هذا الفن الذي أبدعه تشيكوف وآرنست همنغواي وكافكا وغيرهم.

أصدرت أخيراً أنطولوجيا «زبيدة والوحش».. فماذا عن هذه المجموعات القصصية؟

هي أنطولوجيا تضم مجموعات قصصية ست من أعمالي الأولى صدرت عن الدار المصرية اللبنانية، وثمة مجلد ثانٍ يصدر قريباً يضم مجموعات ست أخرى، أطلق عليها أعمال غير كاملة، ورسوماً بريشة الفنان الشباب عمرو الكفراوي، يتميز الكتاب بالرقي والفن ودهشة الموهبة، واستعادة في الواقع تلك العوالم وتحويلها إلى عوالم استثنائية.

تشهد قصصك على براعتك في الحكي، فكيف امتلكت تلك الآلية؟

منذ زمن موغل في القدم كانت ثمة قرية ونهر وجماعة يجلسون أمام البيوت وفي أروقة المساجد يتلون الأوراد ويقرأون دلائل الخيرات، وعلى المقهى ينشد رجل السيرة الهلالية، وهناك في البيت الذي أمضيت فيه طفولتي أبي يحسن الحديث ويقبض على موهبة موروثة لقصص الحكايات، منذ ذلك الزمن كانت محبة الكلام، الذي تحول إلى حكي أعبر من خلاله عن البشر في النص الأدبي، هم هكذا في النصوص تتعامد اللغات بين عامي وفصيح، ودرجات من أزمان عاشت في الماضي مطلوب أن تُستدعى الآن، وذاكرة من أحلام، هكذا امتلكت بفيض من الفطرة حسن استخدام اللغة التي كتبت بها عن عالم أحبه.

قصص قصيرة

لماذا الأخلاص للقصة وعدم كتابة رواية رغم أن بعض قصصك تحمل روح الرواية؟

أنظر إلى القصة القصيرة باعتبارها الشكل الأفضل للتعبير عن تجربتي ككاتب، وعن وحشته في الوجود ووحدته في عالم لا يعرف سوى القسوة والمظالم، زمن يبعد الإنسان عن إنسانيته. أمضيت عمري أبحث عن نبرة صدق تتلاءم وصوتي الخاص بالكتابة، محاولا تضييق المسافة بين صوت السارد وصوت الشخصية في النص، آمنت بما آمن به أستاذي إدوارد الخراط بأن القصة هي السعي نحو المعرفة ومجابهة الحياة للموت. كان لكل كاتب عظيم رؤيته، هيمنغواي وتشيكوف وكاثرين مانسفيلد وبورخيس وأليس مونرو، حاولت الكتابة عن جماعتي التي أنتمي إليها وأعرفها وعشت حياتي مخلصاً لعقائدها ووجودها في التاريخ، وكانت القصة هي الشق الأكثر فردية وخصوصية للتعبير عن عالم يزدحم بالموت، والقهر والإحساس بالزمن والأطفال، والصراع بين من يملكون ومن لا يملكون .

ظلت القصة حتى هذا العمر الأخير من زمني العكاز الذي أتكئ عليه وكتبت به ما كتبت.

الاغتراب والأسطورة والحلم... كلها عناصر تؤدي دورا أساسياً في قصصك...

أسطورة وحلم نعم، اغتراب لا، أكتب عن جماعات مغمورة، وشغلتني طوال عمري جدليات لم أغادرها حتى الآن: الحياة، الموت، الواقع/ الأسطورة. المدينة/القرية، المكان/ الزمان، هي قضاء لأحوال البشر وتعبير عن هموم إنسانية لأناس يتكئون على الماضي في كل أحوالهم، وبالتالي كان القبض على همومهم شيئاً صعباً لأنهم لا يعرفون الاغتراب، ذلك الهم الوجودي الذي يعبر عنه ابن المدينة، أنا مع تلك الجماعة أتعامل مع همومهم كما تعامل الأخ الكريم إبراهيم آصلان، بأنني لا أحدثهم عن العدل ولكن أجعلهم يعيشون بعدل.

ارتبطت بعلاقات صداقة مع مبدعين راحلين عفيفي مطر، إبراهيم آصلان، خيري شلبي، نجيب محفوظ، فماذا تقول بعد رحيلهم؟

أمضيت حياتي مع هؤلاء، رفقة طيبة تشبه تلك السنين، سنوات التكوين والحماسة ومقاومة قهر سلطة الإنسان لأخيه الإنسان، كانت علاقة تتمحور حول الكتابة، وكنا نسعد بما نكتبه نتبادل الرأي بشراسة وعدوان، ونحرص على التفاعل وإنتاج ما هو جيد، كانت مصر في ذلك الزمن وفية وحافلة بالكتابة الجيدة، وكان الزمان، رغم الهزيمة، زمان كبرياء لا مكان فيه للادعياء، ويأخذ الإنتاج مساراته الطيبة، محمد عفيفي مطر قارئ نصي الأول صاحب رأي صادق، أصلان صديق وجار ومثقف كبير ورفيق الليالي، آلاف الليالي نمارس الكلام والنقد والنميمة على أحوالنا العامة، وخيري شلبي الحكاء كاتب الهامش وطبقات الناس المغمورة في القرية والمدينة، واريتهم التراب ودخلت معهم مقابرهم أبكيهم وأودعهم في انتظار لحظة اللحاق بهم، وفي وعيي الآن صوت عفيفي مطر الكريم يقول عن نفسه في تلويحة وداعه للدنيا: «حياتي مغسولة بعرقي ولقمتي من عصارة كدحي، لم أغلق باباً في وجه أحد ولم أكن عنواناً على كذب أو ظلم  أو فساد.. اللهم فاشهد».

ما رأيك بالشعار الذي أطلقه دكتور جابر عصفور بأن الزمن للرواية؟

أنا ضد شعار زمن الرواية لأن الزمن هو لأي فن جيد، سواء كان شعراً أو رواية أو قصة، وأن مؤسسيها العظام مثل تشيكوف وموباسان وأرنست هيمنغواي كانوا قصاصين، وما زالوا فاعلين في الثقافة العالمية والتخييل الإنساني حتى الموت، لا أشعر بالقلق لأنه يقال لي إن كل جيلي ذهب للرواية بينما أصر على كتابة القصة، وقد قلت هذا الشكل هو الأمثل الذي أفضل به التعبير عن تجربتي، القصة القصيرة بالنسبة لي سعي للمعرفة ودفاع عن أهوال الحياة والموت، هي كشكل فني من أصعب أشكال الفنون، زكريا تامر لم يكتب سوى القصة ومحمد خضير العراقي.