كانت «راندا» أجمل بنات جامعة «عين شمس» القاهرية، لذلك تنافس الطلاب للاقتراب منها، تقدم أحدهم يخطب ودها، وطلب آخر صداقتها، وحاول ثالث لفت انتباهها بشتى الطرائق، ولكن الفتاة الجميلة طالبة كلية الآداب لم تعر هذه المحاولات اهتماماً، أغلقت باب قلبها أمام الجميع في غرور، وأجبرت زملاءها على الابتعاد عنها، والاكتفاء بالنظر إلى جمالها عن بعد كلما راحت أو غدت.

ويوما وراء الآخر... دب اليأس في قلوب المعجبين بالطالبة الحسناء، وانصرفوا يبحثون عن ضالتهم في فتاة أخرى غير هذه المغرورة المتكبرة. هنا وجدت الطالبة «راندا» نفسها وحيدة خلف أسوار الجامعة، وأحست بأنها أخطأت لأنها أبعدت الجميع عنها، وفقدت متعة سماع كلمات الإعجاب بحسنها وجمالها.

Ad

اتخذت الحسناء قراراً بأن «توارب» باب قلبها قليلاً، فتسمح لعدد محدود جداً من معجبيها بنيل شرف صداقتها، ومن بين آلاف الطلاب اختارت شابين وسيمين ليصبحا صديقيها، أولهما «سامح» طالب كلية التجارة، والثاني «هشام» طالب كلية الحقوق، وبعدها عادت وأغلقت باب الصداقة في وجه الجميع مكتفية بصديقيها الجديدين.

لم يكن اختيارها لـ»سامح» و»هشام» ليصبحا صديقيها عشوائياً، على العكس فتشت «راندا» في تاريخ الشابين جيداً، وتوصلت إلى معلومات مؤكدة عن أصولهما الطيبة. «سامح» شاب هادئ الطباع، لا تفارق البسمة وجهه، يواجه المشاكل بأعصاب باردة، متفوق دراسياً، والده رجل أعمال شهير، وأحد أثرياء مصر الكبار، ووالدته مديرة أحد البنوك الاستثمارية. ورغم ثراء «سامح» إلا أنه يعيش ببساطة، ويكره التفاخر بماله أو سيارته الفارهة.

أما منافسه فكان «هشام» على النقيض تماماً، شاب عصبي المزاج، متهور متجهم الوجه دائماً، يثور لأتفه الأسباب، لا يميل إلى الدراسة ولذلك يتغيب كثيراً عن حضور المحاضرات، والده ووالدته يعملان طبيبين في أحد المستشفيات الكبرى بدولة خليجية منذ سنوات طويلة، يرسلان إلى وحيدهما كثيراً من الأموال لتعويضه عن غيابهما، فينفق ببذخ ملحوظ، ولا يجد حرجاً في التعالي على زملائه، والتباهي بوسامته وسيارته الفارهة التي خلبت عقول فتيات الجامعة.

صديقان

ورغم التناقض الواضح بين شخصيتي «سامح» و«هشام»، كانا صديقين حميمين من أيام المدرسة، وقد أثارت هذه المعلومة دهشة «راندا» التي راحت تبحث كثيراً عن سر صداقتهما الحميمة. تسأل نفسها سؤالاً واحداً: ما الذي جمع الشامي على المغربي؟

كانت شخصية «راندا» مزيجاً من شخصيتي «سامح» و«هشام»، وربما هذا أحد أهم الأسباب في موافقتها على صداقتهما، فهي هادئة مثل «سامح»، ولكن في عصبيتها تصبح مثل «هشام» لا ترى أمامها من شدة الغضب. تحب التعالي والتكبر مثل «هشام»، ومتفوقة دراسياً مثل «سامح». باختصار، كانت «راندا» تجمع كل نقيض. الشيء الوحيد المشترك بين الأصدقاء الثلاثة هو ثراء ذويهم، فوالد «راندا» يملك قرية سياحية بمدينة الغردقة المطلة على ساحل البحر الأحمر، ولا يحرم ابنته الجميلة من أي شيء حتى قبل أن تطلبه.

توطدت صداقة «راندا» و»سامح» و»هشام» بمرور الوقت. أصبح الثلاثة لا يفترقون إلا في ساعات الليل للخلود إلى النوم، ويوماً وراء الآخر ذاب الجليد بينهم. أصبح كل واحد فيهم بالنسبة إلى الآخرين كتاباً مفتوحاً، لم يخف أي منهم أمراً على بقية الشلة. ذات مرة وأثناء حواراتهم سألتهما «راندا»:

- مش أنا جميلة؟

رد الصديقان في نفس واحد:

* زي القمر أصلاً.

- أهو جمالي ده سبب تعاستي!

وراحت الطالبة الحسناء تفضفض مع صديقيها، وتؤكد لهما أنها تعيسة جداً لأنها تبحث عن الحب، لكنها لم تعثر على الشخص المناسب الذي يبادلها إياه، فكل من يريد التقرب منها هدفه جمالها، تماماً مثل من يقطف زهرة جميلة ليتنشق عبيرها ثم يلقي بها في قارعة الطريق. رد «سامح» مؤكداً أنه يؤجل كل مشاريعه العاطفية حتى ينتهي من دراسته، فيما قال «هشام» ساخراً إنه لا يؤمن بوجود الحب من الأصل والزواج عقد قيود أو حبس متفق عليه، وأضاف بالسخرية نفسها أنه لا يوجد أروع من الحرية والتنقل مثل العصفور من غصن إلى غصن.

غضبت «راندا» لهذا الرأي المراهق ولكنها أخفت غضبها حتى لا تخسر صداقة «هشام»، ومن يعرف ربما تخسر في مناقشة أخرى صداقة «سامح»، وتعود إلى وحدتها خلف أسوار الجامعة طوال فترة الدراسة، تبحث مجدداً عن أصدقاء ترتاح لهم.

حب مشترك

تمرّ سنوات الجامعة بسرعة، مهما كانت طويلة، هكذا نكتشف بمجرد بدء حياتنا العملية، مرت السنوات ووصل الأصدقاء الثلاثة «راندا» و»سامح» و»هشام» إلى السنة النهائية كل منهم في كليته، كبر الشباب الثلاثة، نضجوا وازدادوا خبرة وتغيرت الآراء السابقة.

لم تعد «راندا» ترى في جمالها عائقاً أمام سقوطها في الحب، وأدركت أن الجمال عامل مساعد لا أكثر ولا أقل. أما «سامح»، الذي كان يؤجل مشروعي الحب والزواج غيّر رأيه بعدما أحس بأنه سقط في حب «راندا» فجأة، لكنه لم يستطع البوح لها بمشاعره تجاهها. كذلك عرف «هشام» العابث اللاهي الحب أيضاً، وكتم نيران الغرام بين ضلوعه. أحب «راندا» في صمت ولم يبح بالسر لأحد.

يقولون: «العيون تفضح المحبين»، ولم تكن «راندا» غبية، فهمت وأدركت أن صديقيها سقطا في حبها ويخفيان أمرهما، حتى وقع ما لم تكن تتمناه. اعترف «سامح» بحبه لها، وبعده بساعات اعترف «هشام» أيضاً. طلب الصديقان يد صديقتهما المشتركة من دون أن يعرف كل منهما بطلب الآخر. وكان عليها أن ترد على طلبهما لإعلان الخطوبة بعد التخرج في الجامعة.

وقعت الفتاة الحسناء في ورطة، أيهما تختار؟ «سامح» الهادئ المتزن، أم «هشام» العصبي المتهور؟ الاختيار على هذا الأساس خاطئ، فـ«هشام» تغير بسبب الحب، لم يعد متهوراً أو يحب التنقل بين الأغصان كالعصفور كما قال في السابق. ثمة مدرسة أخرى في اختيار الحبيب في مثل هذه المواقف الصعبة التي يتساوى فيها شخصان وهي اختيار الأكثر مالا، كان «هشام» هو الأغنى، ولكن هذه مصادرة للمستقبل، فـ «الثراء غدار والدنيا دوارة»، وغني اليوم قد يصبح فقيراً في الغد.

احتارت «راندا» فعلاً، لكنها في النهاية حسمت أمرها. اختارت بقلبها لا بعقلها، وكان «سامح». طار الأخير من السعادة وكان أول من زف له الخبر السعيد صديقه الحميم «هشام» الذي استمع إلى كلمات صديقه في ذهول، وقلبه يتمزق من الألم. كانت صدمة «هشام» فوق احتماله، وأقسى درس تلقاه الشاب المحب في حياته، وأغلى ثمن دفعه. ربما لو تلقى مثل هذه الصدمة قبل عام لما اهتمّ، واستمرت حياته بشكل طبيعي، فوقتها كان مجرد «هشام» الشاب العابث اللاهي بقلوب العذارى، لا يهتم للمشاعر والأحاسيس حتى مشاعره وأحاسيسه هو.

مرارة الرفض

في أيام الشقاوة، مرت على «هشام» مواقف مشابهة، ولم يرفّ له جفن، لم يكن ليغضب إن رفضت فتاة مصادقته، أو الاهتمام به أو حتى فضلت شخصاً آخر عليه، وكل ما يفعله أن يذهب إلى غيرها من دون حتى كلمة عتاب، إذ لا وقت لذلك بل لملاحقة الجميلات والاستمتاع بوقته معهن. ولكن اختلف الأمر الآن، فالشاب العابث اللاهي تغير، تبدلت أفكاره وأحواله، بعدما وقع في غرام «رندا»، أجمل بنت في الجامعة، فمنذ خفق قلبه بحبها قرر أن يودع حياة اللهو غيّر رقم هاتفه الجوال وقطع صلته بالفتيات اللواتي عرفهن وشاركنه حياته العابثة.

كان حب «راندا» أقوى من نزوات «هشام» السابقة، اكتفى بهذا الحب العذري، على أمل أن يتطهر من ذنوبه وآلامه التي قد يكون سببها لبعض الفتيات اللواتي كسر قلوبهن بطيشه، ومن يدري ربما كانت صدمته الأخيرة في حب «راندا» نتيجة لتحطيمه قلب فتاة في وقت سابق، فتلقى جزاءه. لكن رغم المبررات انزوى «هشام» حزيناً مقهورا في بيته، أصيب باكتئاب شديد رفض معه الخروج من بيته أياماً. كانت النيران تشتعل في قلبه، ولا يجد من يهون عليه مرارة الرفض.

أكثر ما أوجع «هشام» ليس رفض «راندا» في حد ذاته، وإنما عواقب هذا الرفض، فهو لن يستطيع رؤيتها مجدداً، لن يجرؤ على النظر إلى عينيها الجميلتين، لن تصبح صديقته كما كانت، لا هي ولا صديقه الحميم «سامح»، زوج المستقبل لصديقته وحب حياته. كانت حياته تدمر أمام عينيه.

رفض «راندا» هو النهاية بالنسبة إلى «هشام» وحكم بالإعدام، كلمة نهاية قاسية لحكاية ثلاثة أصدقاء عاشوا سوياً أجمل الأوقات خلف أسوار الجامعة وخارجها أيضاً.

لا أحد يعرف لماذا لم تصارح «راندا» حبيبها «سامح» بأن صديقهما «هشام» أحبها، وطلب يدها للزواج في التوقيت نفسه، ربما خشية على صديقها هشام» من هذا الموقف الحرج، أو أن يقرر «سامح» قطع علاقتها به، أن يخرج الأخير من حياتها إلى الأبد، أن تفقد الصديق الذي حرصت على صداقته سنوات، ففضلت إخفاء الأمر لتستمر صداقتها وصداقة «سامح» لـ «هشام»، وكأن شيئاً لم يحدث، لكنها لم تحسب تداعيات قرارها على علاقتها بـ «سامح».

في المقابل، لم يبح «هشام» لصديقه «سامح» بحقيقة مشاعره تجاه «راندا»، خشية فقدان أي أمل في رؤية «راندا» وخسارة صديقه، لذلك عاش أحلك أيام حياته، ممزقاً بين الحب والصداقة، القلب والعقل، فالأول يريد أن يقنعه بعدم الحديث مع صديقه عن حبه لـ «راندا» كي لا يخسر فرصة رؤيتها، بينما العقل يلح عليه ليبوح لصديقه بكل شيء، هكذا تقول قيم الصداقة الحقيقية، وسط حيرته فكر «هشام» في الابتعاد عن صديقه ومحبوبته، ولكنه تراجع فلم يقو قلبه على الابتعاد عن «راندا» التي يذوب فيها عشقا رغم أنها فضلت صديقه عليه.

طرف ثالث
انتهت الامتحانات وظهرت النتائج، نجح «سامح»، ومحبوبته «راندا»، في حين رسب «هشام» للمرة الأولى في حياته الدراسية. اتفق الحبيبان على موعد يزور فيه والدها ليطلب منه يدها، وفي الموعد المحدد مرّ «سامح» على صديقه الوحيد، وطلب منه مرافقته لحضور الخطوبة. لم يلتفت «سامح» إلى الحزن الذي يعتصر قلب صديقه الحميم، اعتقد أن سبب حزنه رسوبه في امتحانات آخر العام.

وافق «هشام» على طلب صديقه الحميم بحضور الخطوبة، فاستقلا سيارة «هشام» الفارهة، وفي الطريق إلى فيلا «راندا» بمنطقة المريوطية غرب الجيزة، لعب الشيطان برأس «هشام» الحبيب الجريح، انحرف فجأة بالسيارة في مكان مهجور، وتوقف بحجة إصابة السيارة بعطل مفاجئ، وهبط الصديقان لإصلاح العطل، فاقترب «هشام» من صديقه «سامح»، والشرر يتطاير من عينيه، وفي لحظة غدر أخرج خنجراً من بين طيات ملابسه، وغرسه في قلب «سامح» الذي سقط سابحا في بركة من الدماء، بينما فر «هشام» بسيارته عائدا إلى منزله يرتجف من الرعب.

سمع أحد المزارعين أثناء مروره في المنطقة المهجورة صوت أنات «سامح»، وجده ملقى على الأرض ينازع الموت، نقله إلى أقرب مستشفى ونجح الأطباء في إنقاذ حياة الشاب المصاب بأعجوبة.

روى «سامح» حكايته مع صديقه الخائن إلى رجال مباحث الجيزة الذين توجهوا لسماع أقواله، ولم تمضِ 24 ساعة حتى نجح رجال الشرطة في إلقاء القبض على «هشام» الذي كان يستعد للهرب، إذ كان من المقرر أن يسافر إلى والديه في الدولة الخليجية حيث يعملان.

اقتاد رجال الشرطة الشاب المتهم إلى النيابة، ومعه الخنجر الذي استخدمه في الجريمة. واعترف بكل شيء، فأحيل إلى محكمة جنايات الجيزة بتهمة الشروع في القتل. وفي قفص الاتهام وقف مدافعاً عن نفسه، مؤكداً أن الحب دفعه لمحاولة قتل صديق عمره «سامح» بعدما فضلته حسناء الجامعة عليه.

بكت «راندا» التي شعرت بتأنيب الضمير، وهي تستمع لقرار المحكمة الذي جاء بمعاقبة المتهم بالسجن المشدد 15 عاما، شعرت بأنها لحظة وداع لصديق جاء في الوقت الخاطئ، ربما لو جاء في ظروف أخرى لظل أفضل أصدقائها. أما «هشام» فأدرك متأخرا أنه ضيع كل شيء من بين يديه، حياة سعيدة كانت تنتظره في مستقبل الأيام، والأكثر ألما يقينه بأنه خسر صديقه الوحيد إلى الأبد.