يوم خرجت الفنانة مريم فخر الدين بتصريحها الشهير، الذي رفضت فيه إطلاق لقب «سيدة الشاشة العربية» على فاتن حمامة، وبررت ذلك بأنها وبنات جيلها لسن «خادمات» لتنفرد فاتن وحدها بلقب «السيدة»، قوبل تصريحها باستنكار وغضب، وقيل إنها تخطت حدود اللياقة، وتجاوزت الخطوط الحمراء، فيما لم أر - من جانبي - أي مبرر للاستنكار والغضب، إذ كانت لديَّ قناعة بأن من حق الفنانة الاستشعار بأن مجاملة زميلتها تحمل إهانة لها، وبنات جيلها، وأيضاً الأجيال السابقة واللاحقة لها، فالسينما المصرية عرفت ممثلات رائدات واجهن ظروفاً رجعية غاية في التخلف، ومجتمعاً متحفظاً ينظر إلى المرأة، بوصفها «عورة» تارة و{حريماَ» تارة أخرى، وامتهانها التمثيل يُعد من «المحرمات» والتجاوزات، ومن ثم يُحسب لبنات ذلك الجيل، مثل: عزيزة أمير، أمينة رزق، فاطمة رشدي، دولت أبيض، بهيجة حافظ، أمينة محمد، أمينة نور الدين، ممن أجبرن وقتها على انتحال أسماء مستعارة، مجابهة تلك التحديات، ومنافسة الرجال، والتفوق عليهم أحياناً.

هذه الأسماء وغيرها فتحت الطريق أمام ممثلات كثيرات تجرأن، وخضن تجربة الظهور على الشاشة الفضية برزت منهن: تحية كاريوكا أشهر راقصة، فردوس محمد أشهر أم وفاتن حمامة أشهر فتاة مغلوبة على أمرها، وهي الشخصية التي عُرفت بتجسيدها، ولم تفلت منها سوى في أفلام قليلة، وهو المأزق الذي هربت منه شادية باختيار أدوار فتاة خفيفة الظل، كما في «الستات ما يعرفوش يكدبوا» في حين استقلت هند رستم بأدوار الإغراء، كما في {ابن حميدو»، ووجدت ماجدة نفسها في أدوار الفتاة المراهقة، كما في «المراهقات»، واشتهرت «هدى سلطان» بأدوار المرأة اللعوب، كما في «امرأة في الطريق»، وبظهور مريم فخر الدين عرفت السينما المصرية الممثلة التي تجيد خمس لغات، ولا تعتمد على جمالها، كما في «رنة الخلخال»، ونادية لطفي التي سدت فراغاً كبيراً بشعرها الأشقر، ولكنتها المميزة، وضحكتها المتفردة، وحشرجة صوتها الفريدة، ما أسهم في ترشيحها لتجسيد شخصية الفتاة الأجنبية في «الناصر صلاح الدين» واللاهية المتمردة في «النظارة السوداء»، لكنها لم تستسلم للصورة الذهنية التي أراد المنتجون، والمخرجون، سجنها فيها، وخاضت تجارب مختلفة أظهرت إمكاناتها المتنوعة، كالراقصة في «أبي فوق الشجرة» والخادمة في «قاع المدينة» والصعيدية زينة في «المومياء»!

Ad

مع ظهور سعاد حسني في فيلم «حسن ونعيمة» (1959) يمكن القول من دون مبالغة إن عصراً جديداً بدأ في السينما المصرية، فالطبقة المتوسطة أصبح لها وجود ومكانة وإطلالة على الشاشة، وسعاد تحولت إلى معشوقة الشباب، ورمز لبنات جنسها، والفتاة المصرية عموماً، وهي المكانة التي ظلت مطمحاً لكل ممثلة ظهرت على الساحة، ابتداء من نبيلة عبيد مروراً بـ يسرا وانتهاء بجيل: منى زكي ثم منة شلبي، وإن بقيت «السندريلا» رمز الأنوثة والنضج وعنفوان المرأة المصرية الناضجة التي أسرت العقول، وتربعت في القلوب، وظلت في الأذهان أنموذج «الفنانة الشاملة»!

هذا السرد الموجز، والمكثف، عن الأجيال المتعاقبة من الممثلات المصريات النابغات، باختلاف مواهبهن، وأدوارهن، وتأثيرهن، يُعيدنا مرة أخرى إلى الجدل الذي أثارته تصريحات مريم فخر الدين، التي لم تنافق، ولم تجامل أو تتجمل، ولم تكتم وجهة نظرها عملاً بمنطق «النفاق الاجتماعي»، فإسهامات الممثلات كثيرة بالفعل، وفاتن حمامة لم تكن الوحيدة التي عرفت فن التمثيل، وأجادته، بل يمكن القول إنها لم تطاول قامة ماجدة، التي أنفقت أموالها التي جنتها من التمثيل على صناعة السينما، من خلال تأسيس شركة إنتاج، ومجمع سينمائي بإحدى ضواحي القاهرة، ونادية لطفي، التي لم تركن إلى نجوميتها، وأبت أن تعيش في البرج العاجي للنجوم، واختارت دعم ومناصرة القضية الفلسطينية، وسعاد حسني المتمردة، صاحبة التركيبة الجامحة، التي لم تتوقف عن السباحة ضد التيار، ولم تكف عن إعلان انحيازها لبسطاء الناس، وتشجيع الموهوبين الحقيقيين من الكتاب والمخرجين، والقادرة على تجسيد كل الشخصيات، فيما ظلت فاتن حمامة - في نظر البعض - «موظفة بدرجة ممثلة»، متحفظة، شديدة الحرص على صورتها الذهنية لدى جمهورها، وقادرة على التخطيط، بدقة وصرامة، لمسيرتها، بحيث لا تتجاوز الخطوط الحمراء في حياتها، وتحافظ على شهرتها، ودائرة أصدقائها، ومكانتها، التي استمدتها من رؤيتها الأخلاقية «الملتزمة»، ونظرتها المحدودة للدور الذي ينبغي أن يقدمه الفن في حياة الشعوب!

خطأ مريم فخر الدين- في نظر البعض - أنها رفضت أن تُبنى العلاقة بين الممثلات، من مختلف الأجيال، على ثنائية «السيدة والخادمات»، واتهموها بغير وجه حق بالتطاول والخروج عن اللياقة.

أزمتها – في رأيي – أنها تجرأت على الأصنام التي تحولت، على أيدي البعض إلى آلهة، وأبت أن تكون هناك «ملكة» واحدة طويلة العمر وكاملة التكوين، تُعرف باسم «أم الطائفة» كونها مُحاطة بدائرة من «الشغالات» أو الوصيفات اللواتي يحمينها، وينظفنها، ويقدمن لها الغذاء الملكي، وتولدت لديها قناعة تامة بأن ما يتحدثون عنه مكانه «خلية النحل» فقط!