سبب غموض سيد قطب

Ad

ونقول إن اضطراب سيد قطب إزاء قضايا الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم رد فعل مفهوم تماماً، لما تثير من أسئلة نصوصية وإيمانية معقدة، فإقرار "النسخ" بالنسبة إليه لا يتماشى مع "تفسير الظلال" الذي حاول سيد قطب عبر مجلداته أن يقدم للإسلاميين والإخوان والمجاهدين منهم والحركيين والمسجونين، رؤية عقائدية متماسكة متكاملة مطلقة.

فإن أقر صراحة بالناسخ والمنسوخ في القرآن فتح المجال للنقاش والجدال وانقسام الآراء حتى في تفسيراته حول آيات الجهاد مثلاً، وإن رفض النسخ بوضوح قاطع اصطدم بتراث ضخم من مؤيدي الناسخ والمنسوخ والقائلين به في الدراسات القرآنية والفقهية، كما أنه لن يجد تفسيراً يهرب من خلاله عن مجابهة القارئ الذي يشير إلى آيات منها "لكم دينكم ولي دين"، و"ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، والآيات التي تقر النسخ!

فلا مفرّ والحالة هذه من التماوج وغموض الموقف، واضطراب الشرح والتفسير، وهو ما لاحظه د. صلاح الخالدي لحسن الحظ.

الموقف السائد من الناسخ والمنسوخ

فالمراجع الإسلامية والأزهرية مثلا تقر النسخ، ويقول كتاب "بيان للناس" الصادر عن الأزهر الشريف عام 1994 في زمن مشيخة الشيخ "جاد الحق علي جاد الحق" (1917-1996) والذي يلخص في مجلدين معظم المسائل الإيمانية ومسائل الخلاف السياسية والدينية المثارة، يشترط لاستنباط الأحكام الشرعية ما يلي:

"لا بد من معرفة الناسخ والمنسوخ، حتى لا يُحكم بالمنسوخ دون الناسخ، كقوله تعالى في أحكام المتوفى عنها زوجها "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ". (البقرة 240) نُسخ ذلك بقوله تعالى: "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً". (البقرة 234). (مطبعة جامعة الأزهر، القاهرة، ج1، ص60). ويؤكد الشيخ د. محمد رواس قلعة جي (1934-2014) الأستاذ السابق بكلية الشريعة في جامعة الكويت في "الموسوعة الفقهية الميسرة"، دمشق 2000، وقوع النسخ:

"وقع النسخ في الشريعة الإسلامية، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة (106) "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، ومما هو منسوخُ الحكم في القرآن قوله تعالى في سورة النساء (15-16): "وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا* وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا..."، وهي منسوخة بقوله تعالى في سورة النور (2): "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ". وغيرها".

ويرفض بعض الفقهاء ودارسي القرآن وقوع النسخ، وللشيخ "محمد محمود ندا "كتاب عنوانه "النسخ في القرآن بين المؤيدين والمعارضين"، القاهرة 1996، انتهى فيه إلى القول بأنه "لا توجد آية مُعطلة الحكم في كتاب الله الحكيم، لأن آراء القائلين بالنسخ إنما هي آراء احتمالية، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال، ثم إنها أقوال متضاربة، ومع التضارب لا يسلم الدليل من الطعن". (ص9). ويؤيد الإمام الحافظ عبدالرحمن بن الجوزي في كتابه "نواسخ القرآن"، بيروت 1992، النسخ ويقول ص13: "انعقد إجماع العلماء على هذا إلا أنه قد شذّ من لا يُلتفت إليه".

المحكم... والمتشابه... والقتل!

ومن المعروف أن آيات القرآن نوعان "مُحكَمٌ"، وهو النص الذي لم يرد ما ينسخه وقد دل على معناه دلالة قطعية لا يحتمل غيرها، و"متشابه" وهو عكس المحكم، ويرى د. قلعه جي أن المتشابه نوعان هما "ما ليس لأحد سبيل إلى علمه" و"ما خفي علمه على غير العلماء"، ويقول: "لا يجوز لمسلم أن يتبع هذا النوع من المتشابه، لأنه قد يوفق بمعرفة من يعلم تأويله، وقد لا يوفق، فيفسد عليه دينه".

ويصدر د. قلعه جي، وهو أكاديمي سوري إسلامي من مواليد حلب، ممن تخصص خلال مرحلة الماجستير والدكتوراه بالسلفية، حكماً قاسياً على من يهتم بالآيات المتشابهة، وهو القتل، فيقول: إن الدافع لتتبع هذا النوع من المتشابه يقصد "خلخلة الثقة بالقرآن في نفوس المؤمنين... وتكون عقوبته القتل"! (الموسوعة الفقهية الميسرة، ج2، ص1729).

ولا تعليق، مرة ثانية، على مدى التزام الأكاديميين الإسلاميين بحرية الفكر والتسامح في النقاش!

ونعود الآن إلى كتاب د. الخالدي، والمآخذ الإسلامية العشرين التي سرد منها 19 حتى الآن حول تفسير الظلال.

قطب يهاجم الفقهاء

مأخذ الإسلاميين الأخير على تفسير الظلال، كلام سيد قطب الجارح للمشتغلين ببعض موضوعات الفقه الإسلامي من المعاصرين، حيث اعتبرهم "مشغولين بفقه الأوراق"، ومن ثم، يقول د. الخالدي، وجه لهم سيد قطب "عبارات قاسية قد تصل إلى درجة التجريح".

ولكن د. الخالدي يجد لسيد قطب عذراً لا يلغي العتب، فيقول: ومع أنها صدرت عن انفعال وحماس وتأثر ونفثة مصدور وزفرة مكلوم، "لكن الأولى أن لا تصدر عن سيد قطب الهادئ الوادع المستقيم".

بقي مقال آخر حول تفسير الظلال!