يوجد بشكل أساسي أربعة أنشطة تقع ضمن الاقتصادات الكبيرة، ولكنها في واقع الحال غير مرتبطة بشكل نسبي، بعضها مع البعض الآخر، و فهم الفارق بينها يساعد على ادراك سبب انطواء الجدال حول دورة الأعمال على الكثير من التشويش والإرباك.

ويتمثل الجانب الأول في ما أدعوه "حديث المقهى الضخم" وهو ما تسمعه في العديد من النقاشات العرضية، والتي تتمحور في أغلب الأحيان حول حكماء قدماء من أمثال فريدريك هايك وهايمان مينسكي وجون ماينارد كينيز، وهي لا تنطوي على نماذج رسمية، ولكنها تشتمل في العادة على جرعة عالية من العقيدة السياسية.

Ad

ويظهر النشاط الثاني على شكل تمويل ضخم وهو يتكون من اقتصاديين ومستشارين من القطاع الخاص والذين يحاولون قراءة القصاصات المتعلقة بمعدلات الفائدة والبطالة والتضخم وغير ذلك من المؤشرات من أجل التنبؤ بمستقبل أسعار الأصول (وهي في العادة أسعار السندات)، وتستخدم لهذه الغاية في معظم الأحيان عمليات حسابية بسيطة على الرغم من أن نماذج التنبؤ المتقدمة تستخدم في بعض الأوقات، وهي تشمل دائماً جرعة من التخمين والتوقعات بشكل شخصي.

والنشاط الثالث أكاديمي السمة، وهو يشمل بشكل تقليدي أساتذة يطرحون نماذج من الاقتصاد وكانت منذ ثمانينيات القرن الماضي موديلات حصرية تتعلق بالتوازن العام الديناميكي (دي اس جي اي)، وعلى الرغم من أن الأكاديميين يصرون على أن النماذج تصف البنية العميقة للاقتصاد – بناء على سلوك الأفراد والشركات بشكل شخصي – فإن معظم الناس من خارج القطاع يظنون على الفور أن ذلك يشكل نوعاً من الدعابة، وتشتمل هذه النماذج على العديد من الافتراضات غير الواقعية بحيث تظل بعيدة عن الحقيقة الى حد كبير، وهكذا يكون أداء توقعهم من النوع الذي لا يسبر غوره، كما أن أي اختبارات احصائية تميل الى رفض تلك النماذج على الفور لأنها تنطوي على جرعة كبيرة من الخيال.

والنوع الرابع هو ما أدعوه الفدرالي الكبير، ويستخدم مجلس الاحتياط الفدرالي أسلوباً انتقائياً يشتمل على المعلومات والنماذج في آن معاً، وتكون هذه النماذج في بعض الأوقات من نوع "دي إس جي إي" السالف الذكر، والفدرالي الضخم يشتمل على أخذ معلومات من العديد من المصادر المختلفة بدلاً من القليل من الأرقام المألوفة مثل معدل البطالة والتضخم، اضافة الى تحليل المعلومات عبر حزمة من الطرق والوسائل المختلفة، وتنطوي هذه بشكل حتمي على جرعة عالية من الحكم والتقييم، وذلك لأن مجلس الاحتياطي الفدرالي هو المسؤول عن وضع السياسة المتعلقة بذلك.

مفارقات التسمية

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: كيف يمكن وجود أربعة أنشطة مختلفة تماماً، وهي تحمل الأسماء ذاتها، وكلها تزعم دراسة وفهم الظاهرة ذاتها؟ وتقول وجهة نظري إن الأكاديمي الكبير قد خذل الأنشطة الثلاثة الاخرى.

ويرجع ذلك الى أن نماذج الأكاديمي الكبير قد ابتعدت كثيراً عن ملامسة الواقع وليس في وسع الناس في مناقشات المقاهي العابرة الاشارة الى البحث الأكاديمي من أجل مساعدتهم على تأكيد وجهة نظرهم، وبدلاً من ذلك يتعين عليهم العودة الى الأساتذة القدماء الذين كانوا بشيء من الغموض وعدم الوضوح في الصياغة يصفون العالم على الأقل بأنه يشتمل على شيء من التشابه مع الاقتصاد الذي نشهده في حياتنا اليومية.

ونظراً لأن "الأكاديمي الكبير" لا يشتمل على أي جدوى بالنسبة الى التنبؤ، بما في ذلك توقع النتائج المتعلقة بتغير السياسة، فإن الصناعة المالية غير قادرة على استخدامه في أغراض وأهداف عملية، وقد تحدثت الى العشرات من الأشخاص في ميادين المال حول السبب الذي يحول دون استخدامهم لنماذج "دي اس جي اي"، وحاول البعض منهم حقاً استخدام تلك الطريقة ولكنهم تخلوا عنها بعد أداء ضعيف.

ومن سوء الحظ إلى حد كبير أن مجلس الاحتياطي الفدرالي اضطر الى المضي في طريقته الخاصة عند دراسة أسلوب عمل الاقتصاد الكبير بشكل فعلي وحقيقي، وتجدر الاشارة الى أن البنوك الاقليمية في مجلس الاحتياطي الفدرالي تعمل على شكل مراكز تفكير للاقتصاد الضخم وتكلف كبار الباحثين القيام بعمليات جمع المعلومات والتفكير الواسع، ولكن ذلك يترك الكثير من الأدمغة اللامعة في هذا الحقل مغلقة ضمن برج عاجي وهي تعبث مع دمى من صنعها.

ولحسن الحظ قد يشهد هذا المجال تغيرا في الوقت الراهن، وجاستن ولفرز، وهو بروفسور في جامعة ميشيغان ومعلق اقتصادي معروف، قدم في الآونة الأخيرة مجموعة من اللوحات والشرائح في مؤتمر لمناسبة الاحتفال بعمل الاقتصادي اوليفر بلانشارد من معهد ماساشوستس للتقنية، وكانت تلك الشرائح – على الرغم من كونها قصيرة – مؤشراً على وجود بحر من التغيرات في حقل العمل الكبير.

وقد ناقش ولفرز كيف تعرضت الآن بعض الأعمدة الرئيسية لنظرية "الأكاديمي الكبير" الى تحديات واقعية، كما أن فكرة "التوقعات المنطقية" التي تقول إن الناس بشكل عام يستخدمون النموذج الذهني الصحيح للاقتصاد عند اتخاذ قراراتهم قد خضعت الى تحديات من جانب كبار أساتذة الاقتصاد وعمد العديد من الناس الى البحث عن بدائل.

مجرد بداية

ولكن تلك كانت مجرد بداية فقط، وقد يوجد ما يوصف بتغييرات أعمق في الأفق، إذ يشير ولفرز الى التخلي عن نماذج "دي اس جي اي"، قائلاً إنها "لم تكن ناجحة" وإنه تحدث عن ذلك في مؤتمر تكريم بلانشارد الذي كان أحد كبار رواد فكرة نماذج دي اس جي اي وهذا يعني بداية تغير الرياح.

وبدلاً من طريقة دي اس جي اي النموذجية يقترح ولفرز أن تركز الاقتصادات الكبيرة على التجربة – وبكلمات اخرى النظر الى الوقائع بدلاً من وضع افتراضات خيالية الى حد كبير، ويضيف ان العمليات الضخمة سوف تتم تغذيتها من خلال جوانب اخرى مثل العوامل النفسانية وعلم الاجتماع.

وسوف أمضي أنا الى ما هو أبعد من ذلك، وأظن أن الاقتصادات الضخمة الجديدة لن تكون مجرد أنواع من نماذج جديدة وهي سوف تعيد تحديد وتعريف ما تعنيه تلك الفكرة.

وكما تم تصوره في الأصل فإن العمليات الكبيرة تتمحور حول تفسير سلسلة معلومات المستوى الوطني مثل التوظيف والانتاج والأسعار، وفي نهاية المطاف يدرك خبراء الاقتصاد أن توضيح تلك الأشياء يتطلب منهم فهم الأجزاء الأصغر من الاقتصاد مثل سلوك المستهلكين أو المنافسة بين الشركات، وقد عمدوا في بادىء الأمر الى تخيل كيفية عمل تلك العناصر، وذلك هو جوهر وصلب دي اس جي اي.

ويدرك خبراء الاقتصاد الآن أن المستهلكين والشركات يتصرفون بطرق أكثر تعقيداً ويصعب فهمها، ومن هذا المنطلق كان ثمة اهتمام متزايد بما يطلق عليه "التركيز الكبير على الأشياء الصغيرة"، مثل دراسة الشركات والمنافسة والأسواق والسلوك الفردي، رغم أن تلك الجوانب لم تكن متضمنة في الحقل بشكل تقليدي، وتشمل هذه النماذج دراسة ديناميكية العمل التجاري وتعديل الأسعار وفوارق الوضع المالي بين العمال.

ولنأمل أن تركز الاقتصادات الكبيرة بقدر أوسع على هذه الأشياء بدلاً من محاولة تحقيق نماذج كبيرة تتعلق بالانتعاش والركود، وعندما نفهم القطع المتعلقة بالاقتصاد بشكل أفضل فستتوافر لدينا فرصة أكبر لرؤية الصورة كاملة، واذا استمر هذا الحال فإن البرج العاجي سوف يصبح على ارتباط أكبر مع مجلس الاحتياطي الفدرالي والصناعة المالية وحتى بالنسبة الى مناقشات المقاهي.

* Noah Smith