قبل أسبوعين، وفي بهو كنيسة في قلب لندن، أُقيمت أمسية عن الشاعر الإنكليزي كريستوفر مَدِلتون (1926 ــــ 2015)، بمناسبة مرور سنة على وفاته. ضمّ البرنامج أحاديث عن الشاعر، وقراءات شعرية، من بينهم كنت قرأت نصاً شعرياً أندلسياً عن استهداء نسر من الأمير، لشاعر مغمور يُدعى عبدالعزيز بن القبطرْنة، كان مدلتون قد انتخبها، وترجمها إلى الانكليزية. إلى جانب الكلام، كانت هناك موسيقى وًضعت خصوصاً لقصائد من مدلتون، ألفها الموسيقي الأميركي مايكل هيرش، وغنتها السوبرانو "آه يونغ هونغ" Ah Young Hong (كورية الأصل). هيرش افتتح الحفل بحركتين موسيقيتين، من عمل طويل بعنوان "أجنحة التلاشي" وضعه لآلة البيانو. الكلام أخذ مداه، ولكن الموسيقى أخذت مني مدى شخصياً. فالأغاني العشر التي أدتها "آه يونغ" كانت خالصة التعبيرية، بالغة التوتر، ولكن توترها لا يخرج من الأعصاب، بل من القلب، وهذا مصدر تأثيرها:
"لا تسأل عن شيء،/ علَّ الأرواح بذلك/ تُبحر تِباعاً..." كانت "آه يونغ"، بوجهها الذي يذكر بقناع في دراما يونانية، يُطلق صوتاً نذيرياً في كلمات هامسةً حيناً، وبأعلى درجات صوت السوبرانو معظم الأحيان. تلاحق النغمات الموسيقية، أو تلاحقها النغمات، بتحفّز تراجيدي دائم. وهي خصيصة تميز موسيقى مايكل هيرش، الذي أعرفه منذ عامين. عرّفني على "آن يونغ"، وتحدثنا بصورة مشتركة عن الموسيقى، والشعر والرسم، لأن مايكل هيرش زارني في البيت العام الفائت، رغبة في الاطلاع على أعمالي التشكيلية، وقرر أن يقتني منها عملين: الأول كبير الحجم لاحتفال شعائري لا يخلو من نذير آخروي، والثاني بورتريت للموسيقي مالر. حدثتهم عن الدفق الداخلي، التعبيري الذي يُقارب بين أعمالنا، شعراً، رسماً، موسيقى وأداء. قلت لـلمغنية السوبرانو أن اسمها الأول "آه" في العربية تعبير صوتي عن التنهّد، الحسرة أو الألم. وأُفضل أن أدعوها "آه"، كما لو كنت أتنهد أو أتألم، فوافقت مُستثارة. ورغبة في مواصلة الحديث دعوتهم إلى الغداء في اليوم التالي، في واحد من مطاعم Edgwer Rd العراقية. في المطعم طلبت "كباباً"، و"دولمة" و"برياني" من مطبخنا التقليدي. واستعذبتُ ألوان الدهشة الناطقة على وجهيهما. قلتُ لهما إن وجبتنا هذه على شيء من الخشونة، وهي ميزة من ميزات "التعبيرية" التي بدأنا بها الحديث ليلة البارحة. لذعةُ البصل في "الكباب"، ووحدةُ التعارض الحاد في "الدولمة" تعبيريان. التباسات عالمنا الداخلي ذات لذعة، وتعارضات حادة. موسيقى "مايكل" الموزعة بين ضوابط كلاسيكية وطلاقة ما بعد حداثية، صوتُ "آه يونغ"، والتشكيلُ والكلماتُ في لوحتي وقصيدتي أمواجٌ صخابةٌ في مجرى المياه الجوفية لعالمنا الداخلي. كان صوت "آه يونغ" في الحديث لا يكاد يُسمع. وتناولُها الطعام بالغ الرقة، بالغ البطء، حتى صرتُ أُذكّرها باللقمة التالية، وأحثُّها عليها. على أن تعبيريتها في أدائها الغنائي تحتفظ بهمس ورقة دفينين. كتب نقاد الموسيقى عن صوتها بأنه "ذو نبرة حريرية، وعبارة رائقة، وتقنية واثقة". وأنه "صوت مُحبب بنغمات مكتنزة، ناعمة في طبقتها الخفيضة، سكرية الحلاوة في طبقتها العالية، كما كتبت The New York Times. قال "مايكل هيرش" إنها مُعتمدة في أكثر أعماله الغنائية، ولقد أدت إلى جانب أعماله أعمالاً لموسيقيين كثيرين، بدءاً من باخ ومونتفيردي إلى بولانك الفرنسي وشوستاكوفتش الروسي. وكلا "مايكل" و"آه يونغ" مدرس في جامعة جونز هوبكنز في نيويورك. بعد الطعام جلسنا في مقهى لبناني، ومع الشاي بالنعناع واصلنا الحديث. قالت "آه" إن مذاق حوارنا لا يقل عن مذاق الطعام غنى، ولا يمكن أن تنساه. مايكل أكد ذلك. علّقتُ بأن أصدقائي من الشعراء الإنكليز لا يلتقون كثيراً، بذريعة الانصراف إلى مشاغل الكتاب. أنا أعتبر لقاءً غنياً مع صديق مُبدع لا يقل غنى عن الانفراد بكتاب. وعدتني "آه" بالمراسلة، ومايكل بإرسال إصداراته الموسيقية ما إن يصل إلى نيويورك. كنت سمعت سيمفونيتيه الأولى والثانية في موقع Naxos، وأنتظر البقية على الـ CD، لأعرض لها في حديث تالٍ.
توابل - ثقافات
لقاء موسيقي: غداء وشاي بالنعناع (1 من 2)
19-06-2016