لما كانت الليلة الخامسة والعشرون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، إن أصلان، نجل علاء الدين أبو الشامات، قال للخليفة: يا أمير المؤمنين، إن الأمير خالد هو والدي بالتربية. أما والدي فهو علاء الدين أبو الشامات، وما كان خائناً كما زعم مُتّهموه، بل هم الخائنون واللصوص، والدليل على ذلك يا سيدي أنك لم تجد المصباح الذي سُرق مع الأمتعة، وقد رأيته أنا مع أحمد قماقم السرَّاق، وطلبته منه فلم يعطهِ لي، وحكى لي أنه سرقه مع بقية الأمتعة.قال الخليفة: اقبضوا على أحمد قماقم. فقبضوا عليه، ثم دعا المقدم أحمد الدنف، فلما حضر بين يديه، قال له: فتش قماقم. فحط يديه في جيبه وأخرج منه المصباح فدهش الخليفة وسأله: من أين لك هذا المصباح؟ فأجاب: اشترتيه يا أمير المؤمنين. فقال له الخليفة: من أين اشتريته؟ ومن يقدر على مثله حتى يبيعه لك؟ فأقر بأنه سرقه مع بقية الأمتعة، وأمر الخليفة بالقبض عليه وعلى الوالي.
قال الوالي: يا أمير المؤمنين أنا مظلوم، ولم يكن عندي علم بتدبير هذا الملعون. فسأله الخليفة: ما فعل الله بأم هذا الولد؟ فقال: هي عندي. فقال له: مُر زوجتك بأن تلبسها بذلتها وجواهرها وتردها إلى سيادتها، وأعط أصلان كل ما كان لأبيه علاء الدين من أموال وغيرها. فقال: سمعاً وطاعة. ثم نزل الوالي لتنفيذ أمر الخليفة. وقال الخليفة لأصلان: ماذا تريد بعد هذا؟ فقال: لم يبق ما أريده ألا أن تجمع شملي بأبي، فبكى الخليفة وقال: إن أباك قد شنق ومات.. وهنا تقدم أحمد الدنف وقبَّل الأرض بين يدي الخليفة، وقال له: أعطني الأمان يا أمير المؤمنين. فلما أعطاه الأمان قال: أبشّرك بأن علاء الدين أبا الشامات على قيد الحياة، وقد فديته بغيره ممن يستحق القتل، وأوصلته إلى الإسكندرية وفتحت له دكاناً بها، فقال الخليفة: ألزمتك بأن تجيء به. لما كانت الليلة السادسة والعشرون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أحمد الدنف قال للخليفة: سمعاً وطاعة. وأمر له الخليفة بعشرة آلاف دينار، أخذها وتوجه إلى الإسكندرية وكان علاء الدين قد باع ما كان عنده في الدكان جميعه، ولم يبق إلا جراب وجد فيه خرزة تملأ الكف في سلسلة من الذهب، ولها خمسة وجوه، وعليها أسماء وطلاسم كدبيب النمل، فقال في نفسه: لعلها خرزة للتبرُّك، ثم علقها في الدكان، وبقيت كذلك إلى أن مر عليه قبطان قدم إلى الإسكندرية في سفينة كبيرة له، فلما رآها قال له: يا سيدي هل هذه الخرزة للبيع؟ فقال له: جميع ما عندي للبيع... فقال له: أَتبيعَني إياها بثمانين ألف دينار؟ فقال له علاء الدين: يفتح الله. فقال له: أتبيعها بمئة ألف دينار؟ فقال له: لا أبيعها إلا بمئة وخمسين ألف دينار. فقال له القنصل: ما أقدر أن أحمل ثمنها إلى هنا، فتعال معي إلى مركبي لأعطي لك الثمن، وفوقه رزمة صوف أنجوري، ورزمة أطلس، ورزمة قطيفة، ورزمة جوخ. قام علاء الدين معه بعدما أعطاه الخرزة، وأعطى مفاتيح الدكان لجاره وقال له: خُذ المفاتيح عندك أمانة، حتى أروح إلى المركب مع القبطان، وأجيء بثمن خرزتي، فإن لم أعدْ وجاء المقدم أحمد الدنف الذي وطنني في هذا المكان، فأعطِهِ المفاتيح وأخبره بما حصل.
خادم الكنيسة
ثم توجه علاء الدين مع القبطان إلى المركب، فنصب له هذا كرسياً هناك أجلسه عليه وقال لأتباعه: هاتوا المال والبضاعة. فأحضروهما، ثم قال له: يا سيدي أجبر خاطري بتناول لقمة عندي أو شربة ماء. فقال علاء الدين: إن كان عندك ماء فاسقني، فسقاه شربة ماء فيها «بنج»، فلما شرب انقلب على ظهرِهِ، وسرعان ما حلوا القلوع، ومضوا بالسفينة حتى وصلوا بها إلى وسط البحر، فأمر القبطان بإحضار علاء الدين وشمَّموه «ضد البنج»، ففتح عينيه وقال: أين أنا؟ فقال له: أنتَ أسيرٌ عندي، ومرادي أن آخذك إلى حبيبة قلبي.وفيما هُم كذلك، إذا بسفينة فيها أربعون من تجار المسلمين، فأمر القبطان بوضع الكلاليب فيها، ثم نزل إليها هو ورجاله فنهبوها وأخذوها وساروا بها إلى مدينة جنوة، ولما صعد القبطان ومعه علاء الدين إلى باب قيطون، إذا بصبية ملثمة تقابل القبطان وتسأله: هل جئت بالخرزة وصاحبها؟ فأجابها: نعم جئت بهما. ثم أعطاها الخرزة وتوجه إلى الميناء وأطلق مدافع السلامة، فعلم ملك المدينة بوصوله غانماً، وخرج إلى مقابلته، وقال له: كيف كانت سفرتك؟ فقال له: كانت طيبة جداً، وقد كسبت فيها سفينة بها واحد وأربعون من تجار المسلمين. فقال له: أخرجهم إلى المدينة في الحديد. أخرجهم وفي جملتهم علاء الدين، وركب الملك هو والقبطان والأسرى قدامهم إلى أن وصلوا إلى الديوان، وقدموا أول واحد فقال له الملك: من أين أنت يا مسلم؟ فقال: من الإسكندرية، فقال للسياف: اضرب عنقه: وما زال كذلك حتى قتل الجميع ولم يبق إلا علاء الدين، فسأله الملك: أنت من أي البلاد؟ فأجاب: من الإسكندرية. فقال الملك: يا سياف ارم عنقه.رفع السياف يدَه بالسيف، وأراد أن يرمي رقبة علاء الدين، وإذا بعجوز ذات هيبة، تقدمت بين يدي الملك، فقام تعظيماً لها، وقالت له: أما قلت لك لما يجيء القبطان بالأسرى تذكر الدير بأسير أو بأسيرين يخدمان في الكنيسة؟ فقال لها: يا أمي ليتك سبقت بساعة، ولكن خذي هذا الأسير الذي بقي، فالتفتت إلى علاء الدين وقالت له: هل تخدم في الكنيسة أو أدع الملك يقتلك؟ فقال لها: أخدم في الكنيسة. أخذته وخرجت به من الديوان وتوجهت إلى الكنيسة، وقالت له: عملك في كل يوم أن تقوم في الصبح وتأخذ خمسة بغال وتسير بها إلى الغابة وتقطع الحطب وتكسره وتجيء به إلى مطبخ الدير، وبعد ذلك تلم البُسُط وتكنس وتغسل الرخام وترد الفراش كما كان، ثم تأخذ نصف أردب قمح وتغربله وتطحنه وتعجنه وتعمله «منينات» للدير، وتأخذ كمية من العدس تغربلها وتدشها وتطبخها، ثم تملأ الأربع فساقي ماء بالبرميل، وتأخذ ثلاثمئة وستة وستين قصعة فتفت فيها المنينات في العدس، وتدخل لكل راهب قصعته. قال لها علاء الدين: رديني إلى الملك ليقتلني، فالموت أسهل من هذه الخدمة. فقالت له: إن خدمت ووفيت الخدمة التي عليك خلصت من القتل والتعذيب قبله، فاختر لنفسك ما يحلو. رضي علاء الدين بالخدمة وكان في الكنيسة عشرة عميان مكسحين، فأمره أحدهم بإحضار قصرية، فتغوّط فيها وكلفه بغسلها، كذلك فعل بقية زملائه، فرفض... ثم أقبلت العجوز وقالت له: لأي شيء ما وفيت بالخدمة في الكنيسة؟ فقال لها: مالي قدرة على الوفاء بهذه الخدمة. فقالت له: خذ هذا القضيب من النحاس الذي في رأسه صليب، واخرج إلى الشارع، وأي إنسان لقيته حتى ولو كان والي البلد فقل له: إني أدعوك إلى خدمة الكنيسة لأجل السيد المسيح، فإنه لا يخالفك... ثم كلفته بأن يأخذ القمح ويغربله ويطحنه وينخله ويعجنه ويخبزه منينات، فقال لها: سمعاً وطاعة... ولم يزل يخدم الأكابر والأصاغر مدة سبعة عشر يوماً، وبينما هو قاعد في الكنيسة، وإذا بالعجوز دخلت عليه وقالت له: اذهب إلى خارج الدير، وبِت هذه الليلة في خمارة أو عند أي واحد من الناس. فقال لها: لأي شيء تطردينني من الكنيسة؟ فقالت له: مريم بنت الملك يوحنا مقبلة إلى هذه المدينة لزيارة الكنيسة، ولا ينبغي أن تقعد في طريقها. فقال: سمعاً وطاعة... وتظاهر بأنه خارج من الكنيسة وقال لنفسه: ترى هل بنت الملك مثل نسائنا أو أحسن منهن؟ والله لأذهب حتى أتفرج عليها. ثم اختفى في مخدع له طاقة تطل على الكنيسة، فبينما هو ينظر في الكنيسة وإذا ببنت الملك مقبلة، فنظر إليها نظرة أعقبتها ألف حسرة، لأنه وجدها كأنها البدر إذا بزغ من تحت الغمام. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.عودة «زبيدة» العودية
لما كانت الليلة السابعة والعشرون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن علاء الدين لما نظر إلى بنت الملك سمعها تقول لصبية معها: آنست يا زبيدة، فأمعن علاء الدين النظر في تلك الصبية، فرآها زوجته زبيدة العودية التي ماتت في بغداد فعجب لذلك كل العجب، ثم إن بنت الملك قالت لزبيدة، قومي اعملي لنا نوبة على العود... فقالت لها زبيدة: أنا لا أعمل لك نوبة حتى تبلغيني مرادي، وتفي لي بما وعدتني به من جمع شملي بزوجي علاء الدين أبي الشامات. فقالت لها: طيبي نفساً وقرّى عيناً، واعملي لنا نوبة... حلاوة اجتماع شملك بزوجك علاء الدين، فهو ههنا في هذا المخدع يسمع كلامنا، فعملت نوبة على العود، ترقص الحجر الجلمود... وهاجَت بلابل علاء الدين لما سمعها، وخرج من المخدع وهَجم عليها وأخذَها بين ذراعيه، كذلك احتضنته هي لما عرفته، ثم وقعا مغشياً عليهما، فتقدمت مريم ورشتهما بماء الورد حتى آفاقا، وهنأتهما بالتلاقي. فقال لها علاء الدين: شكراً على محبتك يا سيدتي، ثم التفت علاء الدين إلى زوجته زبيدة العودية وقال لها: كيف حييت وجئت إلى هذا المكان؟ فقالت له: إنني لم أمت، وإنما اختطفني واحد من الجان وطار بي إلى هذا المكان، أما التي دفنتموها فإنها جنيه تصورت في صورتي، وقد فتحت عيني فرأيت نفسي عند مريم بنت الملك، وهي هذه. فقلت لها: لأي شيء جئتِ بي إلى هنا؟ فقالت لي: أنا موعودة بزوجك علاء الدين أبي الشامات، فهل تقبليني يا زبيدة أن أكون ضرّتك ويكون لي ليلة ولك ليلة؟ فقلت لها: سمعاً وطاعة يا سيدتي، ولكن أين زوجي؟ فقالت: إنه مكتوب على جبينه ما قدره الله عليه، فمتى استوفى ما على جبينه لا بد أن يجيء إلى هذا المكان، ولكن نتسلى على فراقه بالنغمات والضرب على الآلات حتى يجمعنا الله به... فمكثت عندها هذه المدة إلى أن جمع الله شملي بك في هذه الكنيسة. ثم التفتت مريم إليه وقالت له: يا سيدي علاء الدين هل تقبل أن تكون لي بعلاً؟ فقال لها: يا سيدتي أنا مسلم وأنت نصرانية فكيف أتزوج بك؟ فقالت له: أنا مسلمة منذ ثمانية عشر عاماً، فقال لها: يا سيدتي مرادي أن أعود إلى بلادي. فقالت له: اعلم أني رأيت مكتوباً على جبينك أموراً لا بد من أن تستوفيها وتبلغ غرضك، وقد ظهر لك ولد اسمه أصلان هو الآن جالس في مرتبتك عند الخليفة، وقد بلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، كما ظهر الحق واختفى الباطل وكشف الله سر الذي سرق أمتعة الخليفة وهو أحمد قماقم السراق، وهو الآن في السجن. وأعلم أني أنا التي أرسلت إليك الخرزة ووضعتها لك في داخل الجراب الذي في الدكان، وأنا التي أرسلت القبطان وجاء بك وبالخرزة، وأعلم أن هذا القبطان متعلق بي ويطلب الزواج مني. وقد قلت له: لا أمكّنك من نفسي إلا إذا جئت لي بالخرزة وصاحبها، وأعطيته مئة كيس، وأرسلته في صفة تاجر وهو قبطان، ولما قدموك إلى القتل بعد قتل الأربعين من الأسرى الذين كنتُ معهم، أرسلت إليك هذه العجوز.أسير «سكندري»
قال علاء الدين لبنت الملك مريم: جزاك الله عني كل خير. ثم جددت مريم إسلامها على يديه، ولما عرف صِدق كلامها قال لها: أخبريني عن قصة هذه الخرزة من أين هي؟ فقالت: هذه خرزة من كنز مرصود، وفيها خمس فضائل تنفعنا عند الاحتياج إليها، وأن جدتي أم أبي كانت ساحرة تحل الرموز وتختلس ما في الكنوز، فوقعت لها هذه الخرزة من كنز، فلما كبرت أنا وبلغت من العمر أربعة عشر عاماً، قرأت الإنجيل وغيره من الكتب، فرأيت اسم محمد (صلى الله عليه وسلم) في التوراة والإنجيل والزابور والفرقان، فآمنت بمحمد وأسلمت، وتحققت بعقلي أنه لا يعبد بحق إلا الله تعالى، وأن رب الأنام لا يرضى إلا دين الإسلام. وكانت جدتي قد وهبت لي هذه الخرزة وأعلمتني بما فيها من الفضائل، وقبل أن تموت جدتي قال لها أبي: اضربي لي «تخت رمل» وانظري عاقبة أمري، وما يحصل لي، فقالت له: إنك تموت قتيلاً بيد أسير يجيء من الإسكندرية.فحلف أبي أن يقتل كل أسير يجيء منها، وأخبر القبطان بذلك، وأمره بأن يهجم على مراكب المسلمين، وكل من وجده من الإسكندرية يقتله أو يجيء به إليه، فامتثل لأمره حتى قتل عدد شعر رأسه، ولما هلكت جدتي ضربت لنفسي تخت رمل: فظهر لي أنه ما يتزوج بي إلا واحد يسمى علاء الدين أبي الشامات، فتعجبت من ذلك، وصبرت إلى أن آن الأوان واجتمعت بك.ثم تزوج بها وقال لها: مرادي أن أعود إلى بلادي. ودخلت على أبيها فقال لها: يا ابنتي أنا عندي اليوم انقباض شديد فاقعدي حتى أسكر معك. ثم دعا بالشراب وصارت تملأ وتسقيه حتى غاب عن الوجود، ثم وضعت له «البنج» في قدح فانقلب على قفاه، وقامت إلى علاء الدين فأخرجته من المخدع وقالت له: إن خصمك مطروح على قفاه فافعل به ما شئت فإني أسكرته وبنجته، فدخل علاء الدين فقيَّده ثم أعطاه «ضد البنج» فأفاق منه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وإلى حلقة الغد