تحت عنوان "الكونغرس الأميركي يتراجع دائما أمام اعتراض الرئيس" كتبت مقالاً في صحيفة الأنباء في عددها الصادر في 19 يناير سنة 2003 قلت فيه إن المتتبع لاستخدام رئيس الولايات المتحدة الأميركية حق الاعتراض على القوانين التي أقرها الكونغرس الأميركي، يجد أن إعادة نظره فيها تتم دائما لمصلحة اعتراض الرئيس.وإنه على العكس من ذلك في الكويت، فإن تراجع مجلس الأمة عن إقرار مشروع قانون سبق له إقراره بعد رد الأمير له هو أمر نادر الحدوث.
صاحب السمو يرد القانون
ومن المرات النادرة التي اعترض فيها صاحب السمو الأمير على مشروع قانون أقره مجلس الأمة، وأعاد المجلس نظره، وقرر سحبه بإجماع آراء الحاضرين من أعضائه مشروع القانون الذي أقره المجلس بجلسته المعقودة بتاريخ 22/ 3/ 1983 هو مشروع قانون بتعديل المادة الثانية من قانون إنشاء المحكمة الدستورية لتؤلف المحكمة من سبعة أعضاء، يختار منهم مجلس القضاء بالاقتراع السري خمسة، تكون لأحدهم الرئاسة، ويعين مجلس الأمة، عضوا واحدا، ويختار مجلس الوزراء عضوا آخر. غير أن الأمير رد مشروع القانون سالف الذكر إلى المجلس لإعادة النظر فيه إعمالا لسلطته المنصوص عليها في المادة 65 من الدستور.وقد اعتصم المرسوم الصادر برد الاقتراح بقانون سالف الذكر باعتبارات دستورية وقانونية، من بينها أن الاقتراح يستند إلى رأي بأن المذكرة التفسيرية للدستور، وقد ورد فيها أن المادة 173 من الدستور تركت للقانون مجال إشراك مجلس الأمة والحكومة في تشكيل المحكمة إلى جانب رجال القضاء العالي.وأن هناك رأيا آخر بأن المذكرة التفسيرية قد تجاوزت في هذا الصدد نطاق التفسير إلى التشريع الدستوري بإيراد أحكام جديدة لا يحتملها النص الدستوري، وحيث إنه إزاء هذا الخلاف الدستوري رُئِي عرض الأمر على المحكمة الدستورية.طلب تفسير المادة 173 من الدستور
وقد قرر مجلس الوزراء في 10/ 4/ 1983 طلب تفسير المادة 173 من الدستور من المحكمة الدستورية، وهو الطلب الذي قيد برقم 1 لسنة 1983، لبيان ما إذا كان هذا النص يسمح للقانون الخاص بتلك المحكمة بإشراك عناصر غير قضائية أو عناصر سياسية في تشكيلها.وقد أسست الحكومة طلب تفسيرها لأحكام هذه المادة على الأسباب التالية:أولا- تفسير النص الدستوري
1- إن ما ورد في نص هذه المادة واضح وجلي المعنى وقاطع الدلالة في أن تتولى الرقابة على دستورية القوانين واللوائح محكمة قضائية خالصة، تشكل من قضاة لا هيئة سياسية، وقد وردت في الفصل الخاص بالسلطة القضائية التي تتولاها المحاكم وفقا للمادة (53) من الدستور.2- إن النص الدستوري هو الأساس الذي يجب أن يبدأ منه المفسر تفسيره، ويرتكز عليه وحده، ولا يصح بعد ذلك البحث عن معنى خفي ما دام اللفظ دالا بوضوح على المعنى المقصود من النص.3- أن المذكرة التفسيرية للدستور مجرد وسيلة للتعرف على إرادة المشرع إذا شاب النص الدستوري غموض أو إبهام، وهي كسائر المذكرات القانونية للدستور تتجرد من كل قيمة قانونية، إذا خرجت عن دورها في تفسير النصوص التي تحتاج إلى تفسير وإيضاح.ثانيا- مخالفة مبدأ الفصل بين السلطات
1- إن المجلس لا يجوز له أن ينصب نفسه- خصما وحكما- في المنازعات المتعلقة بعدم دستورية القوانين التي أقرها، لما ينطوي عليه ذلك من خروج على مبدأ الفصل بين السلطات والتدخل في أمور السلطة القضائية المحجوزة لها وحدها بنص الدستور.2- إن إقحام عناصر غير قضائية ضمن تشكيل المحكمة الدستورية عن طريق التعديل المقترح يخالف أحكام المادة 173 من الدستور، فضلا عن مخالفته مبدأ الفصل بين السلطات، الذي يقوم عليه نظام الحكم في الكويت طبقا للمادة (50) من الدستور، فضلا عن مخالفته أحكام المواد 51 و52 و53 من الدستور.3- إن تحقيق التوازن بين الحكومة ومجلس الأمة في الدفاع عن دستورية القوانين التي أقرها المجلس والذي ذهبت إليه المذكرة الإيضاحية للاقتراح بقانون، متوافر في تشكيل مجلس الأمة، حيث يدخل مجلس الوزراء بكامل تكوينه في المجلس، ويعتبر أعضاؤه بحكم الدستور أعضاءً في مجلس الأمة.ثالثا- رقابة «الدستورية» امتداد لعمل القاضي
1- إن الرقابة على دستورية القوانين واللوائح هي رقابة مشروعة لا رقابة ملاءمة، وهي مهمة قانونية وقضائية لا سياسية، وتحتاج إلى الكفاءات الممتازة من رجال القضاء المتخصصين، ولا تحتاج إلى سياسيين أو عناصر غير قضائية تمثل اتجاهات سياسية معينة.وإن إدخال عناصر غير قضائية في تشكيل المحكمة يفقد التوافق والانسجام المطلوب بين أعضاء المحكمة، وما يتطلبه بحث القضايا ومناقشتها والتداول فيها من فهم مشترك وخبرات متقاربة لا تتوافر في غير رجال القضاء.2- إن المحكمة الدستورية تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، ولا تبيح لنفسها أن تجاوز هذا الظاهر باحثة عن البواعث الحقيقية له، كما لا تبسط المحكمة رقابتها على حكمة التشريع ولا تناقش ضرورته.3- إن عمل القاضي الدستوري هو عمل قضائي خالص لا عمل سياسي، لأن دوره يخلص في إجراء المطابقة بين قاعدة قانونية وبين قاعدة قانونية أسمى منها، وسلطته في ذلك ليست سلطة موازنة سياسية، وإنما تقوم على حل نزاع بين قواعد قانونية متفاوتة في تدرجها، وإيجاد التطابق بين قواعد أدنى من الدستور وبينه، وهي القوانين واللوائح، فالدستور هو الأسمى والأعلى مرتبة بما يعتبر عمل القاضي امتدادا لوظيفته القضائية.سحب مشروع القانون
إلا أن الأمر انتهى باتفاق بين المجلس والحكومة يسحب بمقتضاه المجلس مشروع القانون مقابل سحب الحكومة طلب تفسيرها للمادة 173 من الدستور.حيث قدم النائب مشاري العنجري وكان أحد مقدمي الاقتراح في جلسة المجلس المعقودة بتاريخ 19/ 4/ 1983 اقترحا بسحب المشروع والتصويت على هذا السحب على أن تتعهد الحكومة في الوقت ذاته أن تطلب من المحكمة الدستورية اعتبار طلب التفسير كأن لم يكن لصيرورته غير ذي موضوع.وقد وقف المغفور له بإذن الله سمو الشيخ سعد العبدالله الصباح ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء وقتئذ وقرر أنه استمرارا للتعاون البناء بين السلطتين فإن الحكومة من جانبها ستقوم بسحب طلب التفسير، إذا وافق المجلس على سحب مشروع القانون.وتم التصويت على سحب المشروع بإجماع آراء الحاضرين في الجلسة، والذين بلغ عددهم 57 عضوا، كما تم سحب طلب التفسير.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.