ما لا يقال عن برامج رمضان
بعيداً عن الجوانب الروحية والشعائرية، التي لم تزل تحظى بقدر من الاهتمام بين أبناء الأجيال الأحدث، وبصرف النظر عن مدى انعكاس تلك الجوانب على الأخلاق والقيم السائدة، فإن رمضان فيما سبق كان يتمتع بمزايا لم تعد متوافرة اليوم على صعيد الأعمال الفنية.
كان حظ الأجيال السابقة أفضل كثيراً من أبناء الأجيال الأحدث في ما يخص شهر رمضان وعاداته وبعض الانشغالات التي كانت تميز أيامه ولياليه، وبعيداً عن الجوانب الروحية والشعائرية، التي لم تزل تحظى بقدر من الاهتمام بين أبناء الأجيال الأحدث، وبصرف النظر عن مدى انعكاس تلك الجوانب على الأخلاق والقيم السائدة، فإن رمضان فيما سبق كان يتمتع بمزايا لم تعد متوافرة اليوم على صعيد الأعمال الفنية. عند تحليل الأعمال الفنية التي تم تقديمها في رمضان على مدى العقود السابقة، ستجد أنها تميزت بقدر من الالتزام الفني بات نادراً، وإن كانت أفقر تقنياً، وأقل موارد بكل تأكيد، فإلى جانب المحتوى الخفيف أو الترفيهي، كانت هناك وجبات دسمة من دراما وفنون أكثر رقياً من الموجود راهناً، على أكثر من شاشة، في أكثر من بلد عربي. ثمة العديد من المسلسلات والبرامج التي ارتبط عرضها الأول بهذا الشهر الكريم، وأثّرت في وجدان الكثيرين، وتركت علامات أصيلة من الصعب جداً تجاوزها أو نسيانها.
دفعتني تلك الذكريات إلى طرح سؤال أعتقد أنه لم يُطرح بعد بشكل مباشر؛ فمع الأخذ في الاعتبار بأن شهر رمضان، لأسباب عديدة ليس هذا مجال ذكرها، بات، منذ عقود، شهراً تتنافس فيه أهم الأعمال الفنية عبر شاشة التلفزيون، وأن تلك الأعمال يقوم عليها نجوم، وأن هؤلاء النجوم بدورهم يتنافسون فيما بينهم على الشهرة أو المكانة أو الأجر؛ فمن يا تُرى أهم نجوم رمضان لهذا العام؟ على صعد الرواج والعائد المادي والشهرة، سيبرز بكل تأكيد الكوميدي الهزلي "رامز جلال"؛ فهذا الشاب بات يهيمن على جانب كبير من اهتمام قطاعات متعددة من الجمهور خلال الشهر الفضيل. لم تأت تلك الهيمنة نتيجة لعمل فني محبوك يشارك فيه، أو برنامج جاد تم الإعداد له بشكل مدروس، ولكن تلك الهيمنة أتت من خلال برنامج مقالب تعددت أسماؤه على مدى السنوات الفائتة، حتى وصل إلى النسخة الأخيرة "رامز بيلعب بالنار". سيكون هذا البرنامج لاحقاً عنواناً لمرحلة فنية بكاملها، شهدت إنتاج سلسلة من الأعمال، التي أذيعت على مدى سنوات، وهي أعمال تلعب على أبشع نزعات الضيوف: الخوف، كما تلعب على أسوأ سمات الجمهور: الازدواجية. يصور البرنامج في كل حلقة نجماً من النجوم وهو يتلقى دعوة للمشاركة في مهرجان، وحين يقوم بالرد على أسئلة موجهة من صحافية في أحد الفنادق، يشب حريق مروع، يكاد يقضي عليه وعلى كل الموجودين.ثمة إشارات كثيرة إلى أن تصوير البرنامج، وتدبير "المقلب"، يتم بالاتفاق مع النجم، الذي يحصل على عائد كبير،ورغم ذلك فإن أنفاس الجمهور تحتبس وهو يتابع "النجم المحبوب" يواجه النيران، وملامح الرعب ترتسم على وجهه.بعض الفنانين المشاركين أظهروا أنهم جرحوا، أو صدموا، أو أشرفوا على الموت، لكن كلهم بلا استثناء، ضرب "رامز" أو "سبه"، ومعظم السباب كان من النوع الذي لا يمكن أن يذاع على قناة عربية.تلك ذروة "إبداع" البرنامج إذاً: الشتائم، والضرب، وإهانة الكرامة الإنسانية.يريد بعض المعلقين والمحللين والخبراء أن ينتقدوا برامج المقالب، وأن يعددوا "مخاطرها ومفاسدها"، وأن يدعوا القائمين عليها إلى "الهداية" وعدم التورط في إنتاجها مجدداً، "حفاظاً على الفضيلة، والتقاليد، والمهنية".يقوم هؤلاء بكتابة المقالات أو الحديث إلى الصحف، منددين بهذا البرنامج وأمثاله.ويسعى بعض الصحافيين إلى كتابة موضوعات عن "تجاوزات رامز جلال وبرنامجه"، ويتعاطف آخرون مع الضيوف، الذين "يهينهم رامز أو يرعبهم"، ويطالبون المجتمع والجمهور بالانتصار لـ"الكرامة الإنسانية واحترام الخصوصية". حسناً، إنني لا أصدق كل هذه الدعاوى والموضوعات، ولا أعتقد أنها تقدم تغطية عادلة وذكية لقضية "برامج المقالب"، بل أرى أنها تستثمر تلك البرامج، وتتطفل على نجاحها، وتسعى إلى الرواج عبر الطعن فيها وتوجيه النقد القاسي لها.ثمة العديد من الآراء والانطباعات التي يمكن أن نوردها إذا أردنا أن نحلل موضوع "برامج المقالب"، وعلى رأسها برنامج "رامز جلال"، لكن هناك حقيقة واحدة واضحة وضوح الشمس بخصوص مثل هذا البرنامج، وهي أنه يحظى بأكبر مشاهدة، ويحصل على أكبر عائد إعلاني، في أكثر من مجتمع عربي.يكون رامز جلال، وبرنامجه، كل رمضان، على "لوحة التنشين"، ويجمع أكبر قدر ممكن من الشتائم، والانتقادات، والقضايا، والبلاغات، والنصائح، والدعوات بالهلاك أو بالهداية، وفي النهاية لا يبقى سوى أنه يتصدر قوائم المشاهدة.وفي اعتقادي أن جميع ما يتم بخصوص مثل هذا البرنامج يجري وفق منطق توزيع الأدوار، بمعنى أن كل مشارك لديه دور محدد، ونظير قيامه بهذا الدور يحصل على عائد محدد، وهو أمر لا يشمل العاملين في البرنامج فقط، ولكنه يمتد إلى الضيف، وإلى نقاد البرنامج، ومشاهديه.إنه إذاً توزيع أدوار، وهو أمر يجري سنوياً على النحو التالي:أولاً: شركة إنتاج قوية وفاهمة، تنتج البرنامج، وتتحمل تكاليفه.ثانياً: قناة ذكية، تذيعه، وتروج له.ثالثاً: ضيوف براغماتيون، يتنازلون عن جزء من كرامتهم في مقابل مبالغ مالية كبيرة، ويمثلون دوراً باتوا يتقنونه، ويحصدون بسببه الكثير.رابعاً: نجم البرنامج الذكي، الذي يعرف أن تعرضه لقدر كبير من الإهانة والشتائم، وتلقيه لعدد أكبر من الضربات، يعني أن يحصد رواجاً ومشاهدة، وبالتالي يمكنه أن يطلب زيادة أجره في المواسم المقبلة.خامساً: "سوشيال ميديا" تافهة، تشن الحملات على البرنامج، وتتهمه بالتمثيل وإهانة الكرامة الإنسانية، ولا تنسى أن "تُشَيّر" الحلقات، وتذيل روابطها بالتعليقات، فتسهم في بناء مجد البرنامج، والترويج لضيوفه، وتمنحه المزيد من المكاسب المالية.سادساً: صحافيون ينتظرون البرنامج عاماً بعد عام، لكي يبحثوا عن مصادر تتابع البرنامج عاماً بعد عام، ويوجهون لهم السؤال نفسه، ويحصلون على الإجابة ذاتها.سابعاً: جمهور يمارس قدراً من الاحتيال... ينتقد البرنامج، ويلعن المشاركين فيه، لكنه يحبه ويحبهم للغاية، حتى إنه لا يفوت حلقة.إنه تواطؤ جماعي.* كاتب مصري
الأعمال الفنية التي قدمت في رمضان على مدى العقود السابقة تميزت بقدر من الالتزام الفني بات نادراً
في اعتقادي أن جميع ما يتم بخصوص برنامج «رامز بيلعب بالنار» يجري وفق منطق توزيع الأدوار
في اعتقادي أن جميع ما يتم بخصوص برنامج «رامز بيلعب بالنار» يجري وفق منطق توزيع الأدوار