لما كانت الليلة الثامنة والعشرون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك يوحنا لما أفاق من {البنج}، وجد ابنته وعلاء الدين راكبين على صدره، فقال لها: يا بنتي أتفعلين معي هذه الفعال؟ فقالت له: إن كنت تريد النجاة فأسلم كما أسلمت، بعدما تبين لي الحق فاتبعته والباطل فاجتنبتُه، فإن لم تسلم، فقتلك أولى من حياتك. ثم نصحه أيضاً علاء الدين فأبى وتمرّد. عندئذ، سحب علاء الدين خنجراً ونحره من الوريد إلى الوريد، وكتب ورقةً بصورة الذي جرى ووضعها على جبهته، ثم أخذ ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وطلعا من القصر وتوجها إلى الكنيسة، فأحضرت {الخرزة} وحطّت يدها على الوجه المنقوش عليه السرير ودعكته، وإذا بسرير وضع قدامها فاعتلته هي وعلاء الدين وزبيدة العودية، وقالت: {بحق ما كُتب على هذه الخرزة من الأسماء والطلاسم، أن ترتفع بنا يا سرير}.

ارتفع بهم السرير، وسار إلى واد لا نبات فيه، فأقامت الأربعة وجوه الباقية من الخرزة إلى السماء وقلبت الوجه المرسوم عليه السرير، فنزل بهم الأرض وقلبت الوجه المرسوم على هيئة صيوان ودعكته، وقالت: لينتصب صيوان في هذا الوادي، فانتصب وجلسوا فيه. وكان ذلك الوادي قفراً لا نبات فيه ولا ماء فقلبت الأربعة وجوه إلى السماء، وقالت: بحق أسماء الله تنبت لنا أشجاراً وتجري بجانبها الأنهار. فتمَّ ذلك فوراً.

Ad

وجرى بجانبها نهر عجاج متلاطم الأمواج فتوضأوا منه وصلوا وشربوا، ثم قلبت الثلاثة وجوه الباقية من الخرزة إلى الوجه الذي على هيئة سفرة الطعام وقالت: بحق أسماء الله يمتد السماط، وإذا بسماط امتد، وفيه من سائر الأطعمة الفاخرة... فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا.

وكان ابن الملك يوحنا قد دخل ينبِّه أباه فوجده قتيلاً، ووجد الورقة التي كتبها علاء الدين فقرأها وعرف ما فيها، ثم بحث عن أخته فلم يجدها، فذهب إلى العجوز في الكنيسة وسألها عنها فقالت: {ما رأيتها}، فعاد إلى العسكر وقال لهم: الخيل يا أربابها، وأخبرهم بالذي جرى. فركبوا الخيل وسافروا حتى قربوا من الصيوان، فالتفتت مريم فرأت الغبار قد سد الأقطار، وبعد أن علا وطار، انكشف فظهر من تحته أخوها والعسكر وهم ينادون، إلى أين تقصدون ونحن وراءكم؟

فسألت الصبية علاء الدين: كيف ثباتك في الحرب والنزال؟ فأجابها: مثل الوتد في النخالة، فإني ما أعرف الحرب والكفاح، ولا السيوف والرماح. فسحبت الخرزة  ودعكت الوجه المرسوم عليه صورة الفرس والفارس وإذا بفارس ظهر من البر ولم يزل يضرب فيهم ضرباً بالسيف إلى أن كسرهم وطردهم.

ثم قالت له: أتسافر إلى مصر أو إلى الإسكندرية؟ فقال: إلى الإسكندرية. فركبوا على السرير وعزمت عليه، فلم تمض لحظة حتى كانوا في الإسكندرية، فأدخلهما علاء الدين في مغارة وذهب فأتاهما بثياب ألبسهما إياها، وتوجَّه بهما إلى الدكان ثم خرج ليجيء لهم بالغداء، وإذا بالمقدم أحمد الدنف قادم من بغداد فرآه في الطريق فقابله بالعناق وسلم عليه ورحب به. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

لما كانت الليلة التاسعة والعشرون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن المقدم أحمد الدنف بشر علاء الدين بولده أصلان وأنه بلغ من العمر عشرين عاماً، وحكى له علاء الدين ما جرى له من البداية إلى النهاية، وأخذه إلى الدكان فتعجب أحمد الدنف من ذلك غاية العجب، وباتوا تلك الليلة. ولما أصبحوا باع علاء الدين الدكان، ثم ركبوا السرير جميعاً وتوجهوا إلى القاهرة السعيدة ونزلوا في الدرب الأصفر، حيث بيت عائلة علاء الدين. فلما طرق الباب، قالت أمه: من بالباب بعد فقد الأحباب؟ فقال لها: أنا علاء الدين.

فنزلوا وأخذوه بالأحضان، ثم أدخل زوجته {زبيدة} ومريم ابنة الملك يوحنا إلى المقدم أحمد الدنف، وبعد أن استراحوا ثلاثة أيام، طلب السفر إلى بغداد، فقال له أبوه: يا ولدي اجلس عندي. فأجاب: ما أقدر على فراق ولدى أصلان. ثم أخذ أباه وأمه معه، وسافروا جميعاً إلى بغداد، وهناك دخل أحمد الدنف على الخليفة وبشره بقدوم علاء الدين وحكى له حكايته، فطلع الخليفة للقائه، وأخذ معه ولده أصلان، وقابلوه بالأحضان.

وأمر الخليفة بإحضار أحمد قماقم السراق، فلما حضر بين يديه قال: يا علاء الدين، دونك خصمك. فسحب علاء الدين السيف وضرب أحمد قماقم فرمى عنقه. ثم أقام الخليفة لعلاء الدين فرحاً عظيماً بعد أن أحضر القضاة والشهود وعقد قرانه على مريم، وجعل ولده أصلان {رئيس الستين}، وخلع عليهم الخلع السنية، وأقاموا في أرغد عيش وأهنئه، إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

هارون الرشيد والكسلان

لما كانت الليلة الثلاثون بعد المئتين، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أن هارون الرشيد، بينما كان جالساً ذات يوم، دخل عليه غلام ومعه تاج من الذهب الأحمر، مرصّع بالدُر والجوهر، وفيه من سائر اليواقيت والجواهر ما لا يفي به مال. ثم قبَّل الأرض بين يدي الخليفة وقال له: يا أمير المؤمنين، إن السيدة زبيدة تقول لك أنت تعرف أنها عملت هذا التاج، وأنه يحتاج إلى جوهرة كبيرة ليست عندها. فقال الخليفة للحجاب والنواب: ابحثوا عن الجوهرة المطلوبة، فبحثوا طويلاً فلم يجدوا شيئاً يوافقها، وأعلموا الخليفة بذلك فضاق صدره وقال: كيف أكون خليفة وملك ملوك الأرض، وأعجز عن العثور على جوهرة؟ اسألوا التجار جميعاً. فقالوا: لا توجد هذه الجوهرة إلا عند رجل من البصرة يسمى {أبو محمد الكسلان».

أمر الخليفة وزيره جعفر بأن يرسل بطاقة إلى الأمير محمد الزبيدي المتولي على البصرة، كي يجهز أبا محمد الكسلان ويحضره إلى قصر الخلافة، فكتب الوزير بطاقة بمضمون ذلك، وأرسلها مع مسرور السياف إلى الأمير محمد الزبيدي، فلما قرأها قال: سمعاً وطاعة.

ثم أرسل مسروراً مع جماعة من أتباعه إلى أبي محمد الكسلان، فلما حضر قبّل الأرض بين يديه وقال: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ودعا مسروراً السياف إلى داره حتى يتم استعداده للسفر معه. فلما دخل مسرور الدار، رأى في الدهليز ستوراً من الديباج الأزرق المطرز بالذهب الأحمر. ثم أمر أبو محمد الكسلان بعض غلمانه أن يدخلوا مع مسرور الحمام الذي في الدار ففعلوا، فرأى أن حيطانه ورخامه من الغرائب، وهو مزركش بالذهب والفضة، وماؤه ممزوج بماء الورد...

واحتفل الغلمان بمسرور ومن معه وخدموهم أتم الخدمة، ولما خرجوا من الحمام ألبسوهم خلعاً من الديباج منسوجة بالذهب. ثم دخل مسرور وأصحابه على أبي محمد الكسلان فوجده جالساً على سرير مرصّع بالجواهر، وقد علقت على رأسه ستور من الديباج المنسوج بالذهب المرصع بالدر والجوهر، والقصر مفروش بمسائد مزركشة بالذهب الأحمر...

لما دخل عليه مسرور، رحب به وأجلسه بجانبه، ثم أمر بإحضار السماط، فلما رأى مسرور ذلك السماط قال: والله ما رأيت عند أمير المؤمنين مثل هذه الأطعمة، ولا الأطباق المُذهّبة. ثم أكلوا وشربوا وطربوا إلى آخر النهار، وأعطى كل واحد منهم خمسة آلاف دينار. ولما كان اليوم الثاني ألبسوهم خلعا خضراء مذهبة، وأكرموهم غاية الإكرام، وقال له مسرور: لا يمكننا أن نبقى أكثر من هذه المدة هنا خوفاً من الخليفة، فقال له أبو محمد الكسلان: اصبر إلى غدٍ حتى نتجهّز ونسير معكم، فبقوا عنده ذلك اليوم وباتوا إلى الصباح. ثم إن الغلمان أعدوا لأبي محمد الكسلان بغلة بسرج من الذهب مرصع بأنواع الدر والجواهر.

أشجار من ذهب

قال مسرور لنفسه: إذا حضر أبو محمد بين يدي الخليفة بهذه الصفة، فهل ترى يسأله من أين له تلك الأموال؟ ثم بعد ذلك ودعوا أبا محمد الزبيدي وغادروا البصرة، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى مدينة بغداد فلما دخلوا على الخليفة ووقفوا بين يديه، أمره بالجلوس فجلس، ثم تكلم بأدب وقال: يا أمير المؤمنين إني جئت معي بهدية فهل أحضرها؟ فقال الرشيد: لا بأس بذلك. ففتح صندوقاً معه وأخرج منه تحفاً من جملتها أشجار من الذهب، أوراقها من الزمرد الأبيض، وثمارها ياقوت أحمر وأصفر ولؤلؤ أبيض. فتعجب الخليفة من ذلك...

ثم أحضر صندوقاً ثانياً، وأخرج منه خيمة من الديباج مكللة باللؤلؤ والياقوت والزمرد والزبرجد وأنواع الجواهر، وقوائمها من عود هندي وطيب، وأذيال تلك الخيمة مرصعة بالزمرد الأخضر، وفيها صور لسائر الحيوانات والطيور والوحوش مكللة بالجواهر واليواقيت والزمرد والزبرجد وسائر المعادن، فلما رأى الرشيد ذلك فرح فرحاً شديداً.

ثم قال أبو محمد الكسلان: يا أمير المؤمنين، لا تظن أني حملت لك هذا فزعاً من شيء أو طمعاً في شيء، وإنما رأيت نفسي رجلاً عامياً، ورأيت هذا لا يصلح إلا لأمير المؤمنين، وإن أذنت لي فرجتك على بعض ما أقدر عليه، فقال الرشيد: افعل ما شئت حتى ننظر، فقال: سمعاً وطاعة...

ثم حرك شفتيه وأومأ إلى شرفات القصر فمالت إليه، ثم أشار إليها فرجعت إلى موضعها، ثم أشار بعينه فظهرت مقاصير مقفلة الأبواب، ثم تكلم عليها وإذا بأصوات طيور تجاوبه. فتعجب الرشيد من ذلك غاية العجب، وسأله: من أين لك هذا كله وأنت لا تُعرف إلا بأبي محمد الكسلان، وأخبروني أن أباك كان حجاماً يخدم في حمام وما خلف لك شيئاً، فقال: يا أمير المؤمنين اسمع حديثي.

لما كانت الليلة الحادية والثلاثون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا محمد الكسلان قال للخليفة: حديثي عجيب، وأمري غريب. لو كتب بالإبر على آماق البصر، لكان عبرة لمن اعتبر، وقد صدق ما رواه عني الناس من أني أُعرف بالكسلان، وأن أبي لم يخلف لي مالاً، ولم يكن إلا حجاماً في حمام، وقد كنت في صغري أكسل من يوجد على وجه الأرض، وبلغ من كسلي أني إذا كنت نائماً في أيام الحر وطلعت على الشمس أكسل عن أن أقوم وأنتقل من الشمس إلى الظل، وأقمت على ذلك خمسة عشر عاماً.

ثم إن أبي تٌوفي إلى رحمة الله، ولم يخلف لي شيئاً، وكانت أمي تخدم الناس وتطعمني وتسقيني، فاتفق أنها دخلت عليّ في أحد الأيام ومعها خمسة دراهم من الفضة، وقالت لي: يا ولدي بلغني أن الشيخ أبا مظفر عزم على أن يسافر إلى الصين، وهو يحب الفقراء ومن أهل الخير، فخذ هذه الخمسة دراهم وامض إليه فاسأله أن يشتري لك بها شيئاً من بلاد الصين، عسى أن يحصل لك فيه ربح من فضل الله تعالى.

فكسلت عن القيام بهذه المهمة، ولكنها أقسمت بالله إن لم أقم معها لا تطعمني ولا تسقيني بل تتركني أموت جوعاً وعطشاً. لما سمعت كلامها يا أمير المؤمنين، قلت لها: أقعديني فأقعدتني وأنا باكي العين... وقلت: أئتيني بمداسي. فأتتني به، فقلت: ضعيه في قدمي. فوضعته فيهما، فقلت لها: احمليني حتى ترفعيني عن الأرض. ففعلت ذلك، فقلت: أسنديني حتى أمشي. فصارت تسندني، وما زلت أمشي وأتعثر في أذيالي، إلى أن وصلنا إلى الشيخ عند ساحل البحر، فسلمنا عليه وقلت له: خذ هذه الدراهم واشتر لي بها شيئاً من بلاد الصين عسى الله أن يربحني فيه. فسأل الشيخ أبو المظفر أصحابه: أتعرفون هذا الشاب؟ فأجابوا: نعم هذا يعرف بأبي محمد الكسلان، ما رأيناه قط خرج من داره إلا في هذا الوقت.

فقال لي الشيخ أبو المظفر: يا ولدي هات الدراهم على بركة الله تعالى. ثم أخذ مني الدراهم ورجعت مع أمي إلى البيت، وبعد ذلك سافر الشيخ أبو المظفر ومعه جماعة من التجار، ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى بلاد الصين، وهناك باع الشيخ واشترى، وبعد ذلك ركب ومن معه السفينة راجعين، وبعد أن ساروا في البحر ثلاثة أيام، قال الشيخ لأصحابه: الرسالة التي معي لأبي محمد الكسلان قد نسيتها، فارجعوا بنا حتى نشتري له بها شيئاً ينتفع به، فقالوا له: سألناك بالله ألا تردنا، فإننا قطعنا مسافة طويلة، وقاسينا من السفر أهوالاً عظيمة، وتعهدوا له بأضعاف ربح الخمسة دراهم لي، فجمع منهم مالاً جزيلاً.

ثم ساروا حتى أشرفوا على جزيرة فيها خلق كثير، فأرسوا عليها سفينتهم، وأخذوا يشترون من هناك معادن وجواهر وغيرها، ثم رأى أبو مظفر رجلاً جالساً وبين يديه قرود كثيرة، بينها قرد منتوف الشعر، وكانت تلك القرود كلما غفل بضربها من أجله، فأشفق الشيخ أبو المظفر على ذلك القرد، وسأل صاحبه: أتبيعني هذا القرد لصبي يتيم بخمسة دراهم؟ فقال له: بعتك إياه بها، بارك الله فيه لشاريه.

القرد
تسلم الشيخ أبو المظفر ذلك القرد، وربطه عبيده في المركب، ثم حلوا القلاع وسافروا إلى جزيرة أخرى، وهناك استأجروا رجالاً يغطسون لإخراج المعادن واللؤلؤ والجوهر من قاع البحر، لقاء دراهم معدودة، وما رأى القرد الغطاسين يفعلون ذلك حتى تخلص من رباطه وقفز من المركب وغطس معهم، فقال أبو المظفر: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد فقدنا القرد الذي اشتريناه لأبي محمد الكسلان. ثم طلع جماعة من الغطاسين وإذا بالقرد معهم وفي يديه نفائس الجواهر، فرماها بين يدي أبي المظفر، فتعجب من ذلك وقال: إن هذا القرد له سر عظيم.

ثم حلوا القلاع وساروا إلى أن وصلوا إلى جزيرة تسمى جزيرة الزنوج، أهلها قوم متوحشون يأكلون لحم بني آدم، فلما رآهم الزنوج ركبوا القوارب إليهم، وأخذوهم أسرى، ثم عرضوهم على ملكهم، فأمر بذبح جماعة منهم... فذبحوهم وأكلوا لحومهم، وبات بقية التجار محبوسين وهم في نكد عظيم. فلما كان وقت الليل قام القرد إلى أبي المظفر وحل قيده، فلما رأى التجار أبا المظفر قد تحرر من قيده، قالوا له: عسى أن يكون خلاصنا على يديك يا أبا المظفر. فقال لهم: اعلموا أنه ما خلصني بإرادة الله تعالى ألا هذا القرد. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد