في ساعة متأخرة من الليل، انطلقت "زينب” الخادمة الشابة تقفز درجات سلم العمارة الفاخرة بحي المهندسين في محافظة الجيزة المصرية. صعدت من الطابق الأرضي إلى الطابق الأول بأقصى سرعة، وراحت تطرق باب شقة الدكتور "محمود” بقوة، وبمجرد أن فتح لها صاحب الشقة حتى عاجلته قائلة في لهفة: "إلحقنا يا دكتور... أخوك الدكتور محمد تعبان أوي”.

لم تنتظر "زينب” الرد، تابعت القفز على درجات السلم، وصعدت إلى الطابق الثاني حيث شقة أصغر أشقاء مخدومها المحاسب "أحمد”، وراحت تطرق الباب وما إن انفتح حتى كررت الجملة التي تفيد بوصول مخدومها الدكتور "محمد”، الأستاذ بكلية الحقوق، إلى حالة صحية سيئة.

Ad

لم يكذب شقيقا المريض خبراً، هرولا مع زوجتيهما إلى شقة شقيقهما الأكبر بالطابق الأرضي، والتف الجميع حوله، وعلامات الأسى تبدو واضحة على وجوه الجميع. كانت حالة الشقيق الأكبر الصحية بالغة السوء، كان يعاني سكرات الموت بصورة واضحة. فشل الشقيق الأوسط الدكتور "محمود” في إسعاف شقيقه الأكبر. ساد الصمت للحظات وحاول المريض من فوق فراش الموت أن يبوح لهم بأمر مهم، ولكن لم يقو الرجل على الكلام، فشل في استجماع قواه وأغمض عينيه إلى الأبد. مات الدكتور "محمد” قبل أن يقول ما كان يتمناه لشقيقيه الصغيرين ولزوجتيهما.

عند باب غرفة النوم ووسط بكاء الجميع، وقفت الخادمة "زينب” تلطم خديها وتبكي بحرقة مخدومها الذي أسلم الروح. كان حزن الشابة التي لم تكمل الخامسة والعشرين من العمر كبيراً وعميقاً، وفي الوقت نفسه لافتاً للأنظار ومثيراً للشكوك. ولكن صدمة الموت لم تلفت إليها أنظار الموجودين، فقد كان الجميع غارقاً في الأحزان، ويذرف الدمع ويحاول لملمة شتات نفسه.

لحظات ووصلت مدام "هدى” زوجة أستاذ الجامعة الراحل، أسرعت إليها زوجتا شقيقيه، واحتضنتاها بقوة، ذرفت النساء الثلاث دموعهن الحارقة لوداع الرجل الطيب الذي طالما ساعد شقيقيه وأمدهما وزوجتيهما وأولادهما بالمال والعطف والحنان، بعدما حرمه الله من إنجاب الأولاد، لذلك كان الجميع يعتبر الراحل بمثابة الأب الروحي للجميع.

ورغم الخلاف الذي دب أخيراً بينه وبين زوجته "هدى”، وهي الشقيقة الكبرى لزوجتي شقيقيه، وابنة عم زوجها الراحل في ذات الوقت، إلا أن هذا الخلاف لم يؤثر على علاقة "محمد” ببنات عمه وشقيقيه الصغيرين وأبنائهما. ظل الرجل ينفق على الجميع ويمدهم باحتياجاتهم، فقد كان الدكتور "محمد” عن حق كبير العائلة والسند للجميع في مواجهة الدهر، ولذلك كان الحزن على رحيله كبيراً.

تقسيم التركة

بعد انتهاء فترة الحداد، اجتمع أفراد الأسرة داخل شقة شقيقهم الأكبر الراحل، وعقدوا جلسة طويلة مع محامي الأسرة لمعرفة الخطوات المقبلة، التي سيتبعونها ليحصل كل فرد على نصيبه من تركة الدكتور «محمد»، والتي قدرت بأكثر من 20 مليون جنيه. كانت الجلسة هادئة واتفق الجميع على الرأي القائل باتباع الشرع في تقسيم الميراث، لا سيما أن شقيقهما لم ينجب أبناء، لذلك انحصر تقسيم التركة بين شقيقيه «محمود» و«أحمد» وأرملته «هدى»، ولكن فجأة دخلت الخادمة «زينب»، وتقدمت إلى المحامي بخطوات متثاقلة وسلمته ورقة.

ما إن قرأ المحامي ورقة «زينب» حتى تبدلت ملامح وجهه وقال للجميع: «هناك طرف رابع سيشارك في الميراث». التفت الجميع إلى المحامي وسألوه في دهشة عن هذا الشخص وعلاقته بالتركة، فأجاب وهو ينظر إلى الشغالة، وقال كلمة واحدة: «زينب».

ولطمت المفاجأة وجوه الجميع، وقبل أن ينطق أي منهم بكلمة، قالت «زينب»، والدموع تترقرق في عينيها: «أنا زوجة الدكتور محمد ربنا يرحمه... زوجته أمام الله ورسوله».

كادت عقول الحاضرين تطير من رؤوسهم، لم يصدق أحد ما سمعه بأذنيه. انهارت مدام «هدى» باكية، وهي تشعر بخيانة زوجها، وراحت تصرخ في الشغالة قائلة في عصبية شديدة: «بتقولي إيه يا مجنونة. محمد اتجوزك أنتِ. أنتِ في وعيك يا بت؟».

ولم ترد الخادمة الشابة الإهانة الموجهة لها من ضرتها، وقفت تفجر مفاجأة أخرى عندما قال لها المحامي إن زواجها من الدكتور «محمد» كان زواجاً عرفياً، إذ أكدت الشغالة في ثقة أنها أقامت دعوى قضائية لإثبات الزواج والتصديق عليه، وقضت لها المحكمة بصحة زواجها من أستاذ الجامعة الراحل.

كلمات الشغالة الشابة الواثقة والمرتبة والقانونية أشارت إلى أن ثمة شخصاً يخطط لها الأمر بدقة وحرفية، وهو الاتهام الذي وجهه إليها أفراد أسرة الزوج الراحل الحاضرين، واتهموا الخادمة بالنصب والاحتيال وحاولوا الفتك بها.

هربت الشغالة «زينب» في اللحظة الأخيرة. أفلتت بجلدها قبل أن تنال جزاءها على يد أفراد أسرة زوجها الراحل. تركتهم والدماء تغلي في عروقهم، والحسرة تكاد تفتك بهم. وبعدما أفاقوا من الصدمة راحوا يبحثون عن سبب يجعل شقيقهم الأكبر يتزوج من الخادمة، وتبادل جميعهم الاتهامات في ما بينهم لإحساسهم بأن جزءاً من ميراث شقيقهم الكبير سيطير من أيديهم.

اتهم «محمود»، الشقيق الأوسط للدكتور الراحل، مدام «هدى» بأنها السبب في تلك الزيجة بإهمالها شقيقه أثناء فترة مرضه، وإصرارها على ترك المنزل للشغالة «زينب» لتنفرد به حتى نجحت في الزواج منه. دافعت «هدى» عن نفسها، وأكدت أن الجميع تخلى عن زوجها الراحل في فترة مرضه. الكل انشغل بحياته وتركوا الرجل المريض فريسة سهلة بين يدي الخادمة التي فازت به في النهاية.

وقبل أن يتطور الشجار بين أفراد الأسرة، ويتحول إلى خلاف عنيف يصعب احتواؤه، قفز «أحمد» الشقيق الأصغر من مكانه وقال صارخاً: «يا جماعة اهدوا... إحنا كلنا في مركب واحد... كلنا أسرة واحدة. أنتوا قبل ما تكونوا زوجاتنا أنتوا بنات عمنا... لازم نواجه الكارثة اللي حطت علينا دلوقتي بهدوء ونشوف هنتصرف إزاي». وانتبه الجميع لصوت الحكمة، واتخذ الجميع قراراً واحداً بضرورة وحدة الصف لمواجهة الشغالة «زينب».

كان قرار «هدى» إثبات تزوير الخادمة «زينب» في أوراق ارتباطها بالدكتور «محمد»، ولا يمكن أن يكون زوجها ارتبط بامرأة أخرى غيرها. كانت ترى أن حرمان «زينب» من الميراث أقل ما يمكن لتستعيد ولو جزءاً بسيطاً من كرامتها وصورتها في المجتمع، لذلك استخدمت الأسلحة القانونية لنسف أدلة الخادمة بأي شكل كان، ونفي صحة ارتباطها بالدكتور «محمد».

ذكريات

في شقتها المتواضعة بالحي الشعبي، جلست «زينب» تستعيد ذكرياتها مع زوجها أستاذ الجامعة الراحل. تسترجع نصائحه القانونية لها لمواجهة الموقف العصيب الذي تمرّ به الآن. استرجعت أصل حكايتها مع أستاذ القانون التي بدأت العام الماضي، تحديداً بعد أسبوع من اندلاع خلاف كبير بين الدكتور «محمد» وزوجته مدام «هدى» بسبب إهمالها له وقضاء معظم أوقاتها خارج المنزل. كان صداماً فاصلاً وحاسماً في علاقتهما الزوجية. قررا الانفصال عن بعضهما البعض من دون طلاق حفاظاً على صورتهما أمام الناس.

منذ ذاك اليوم، تولت «زينب» أمور الدكتور «محمد»، أو الزوج العازب كما كان يطلق على نفسه. كانت تطبخ الطعام لمخدومها يومياً، بالإضافة إلى غسل ملابسه وكيها بنفسها، ولأنها كانت تجيد القراءة والكتابة امتدت خدماتها لتتولى ترتيب أوراق الدكتور الجامعية، وتنسيق المحاضرات التي يلقيها على طلاب كلية الحقوق في مكانها الصحيح.

ويوماً بعد آخر، أدرك الدكتور أنه لا يستطيع الاستغناء ولو ليوم عن «زينب»، فاتخذ القرار المفاجئ الذي لم يتصوره أحد، مكافاة المخلصة «زينب» على رعايتها له في أصعب فترات حياته، لا سيما أن المرض أصابه في الفترة ذاتها، فقرر الزواج منها ومنحها ثلث ثروته أيضاً.

لم تصدق «زينب» مخدومها وهو يطلب منها الزواج، لذلك رفضت في البداية، لكنه أقنعها قائلاً: «أنا مش عاوز أتجوزك بغرض الجواز نفسه... يا بنتي أنا راجل عجوز وكبرت خلاص على الحاجات دي وأنتِ شابة وصغيرة وعملتِ فيا جميل مش هأقدر أنساه. باختصار، يا زينب يا بنتي أنا عاوز أكافئك على تعبك معايا بعد مراتي ما تخلت عني. أنا ما خلفتش أولاد لحكمة يعلمها ربنا. وأنا عاوزك تبقي بنتي اللي القدر حرمني منها. وبما أن التبني حرام أنا فكرت أتجوزك على سنة الله ورسوله علشان أورثك جزءا من ثروتي ولما أموت ماحدش يقول إداها فلوس زكاة أو عطف لكن الفلوس تبقى حقك الشرعي».

وافقت «زينب» وتزوجت من أستاذ القانون الذي ما إن شعر باقتراب أجله حتى راح يشرح لزوجته كل الخطوات القانونية التي عليها اتباعها في أعقاب وفاته، حتى تضمن حقها في التركة والوصية كاملا. كان الدكتور «محمد» يعلم جيداً أن زوجته الشابة «زينب» ستواجه حرباً شرسة عقب رحيله عن الدنيا، واكتشاف أخويه وزوجته الأولى أمر زواجها منه، ولذلك وضع الزوج خبرته القانونية لخدمة زوجته «زينب»، وخطوات مرسومة بعناية عليها تنفيذها بكل دقة لتنتصر وتحصل على حقها في النهاية.

مخطط دقيق
نفذت الزوجة الشابة كل ما طلبه منها زوجها الراحل بالحرف الواحد، وها هي الآن تنتظر خطوة إعلان الحرب عليها من أشقاء وزوجة أستاذ القانون الراحل، الحرب التي توقعها الدكتور «محمد» قبل عام من وفاته، وأقنعها أنها ستحدث في أسرع وقت عقب وفاته مباشرة.

صدق توقع أستاذ القانون، فبعد رحيله كان أول ما قام به أفراد أسرته أن عقدوا مجلس حرب ضد «زينب».

قال الدكتور «محمود» غاضباً:

- أكيد البنت الشغالة دي وراها حد... واحدة ما تعرفش حاجة في القانون زي دي تعرف منين طريق المحاكم وتوثيق الزواج وإثباته. لا لا البنت دي مش سهلة!

ورد المحامي الخاص بالعائلة:

* تلاقي محامي جارها عرفها تعمل إيه. مش دي المشكلة... المشكلة الحقيقية دلوقت أنها تكون معاها أوراق تانية شايلاها للوقت المناسب.

وفي حسرة قالت مدام «هدى»:

- كمان... الله يسامحك يا محمد. كده تعمل فينا كده. تتجوز عليا بعد العمر ده كله. ومين؟! الشغالة!

ويقاطعها «أحمد» قائلاً:

- مش عاوزين ولوله والنبي. عاوزين حل يا جماعة.

وقال المحامي في هدوء:

* مافيش حل قدامنا دلوقت غير إننا نقيم دعوى بطلان زواج دكتور محمد الله يرحمه من الشغالة... ونقول إن الزواج تم في فترة المرض الذي أودى بحياة الزوج. وبكده يكون الزوج في مرض الموت وتحكم المحكمة ببطلان الزواج.

وقال الشقيقان «محمود» و{أحمد» في نفس واحد:

- تمام كده يا متر... توكل على الله وارفع الدعوى.

انتهى مجلس الحرب... وانتظر الجميع لحظة الحسم لكسب القضية.

أمام محكمة الأسرة بمحافظة الجيزة، قدم المحامي أوراق الدعوى، واتخذ الجميع أماكنهم في قاعة المحكمة، ونادى الحاجب على «زينب» الزوجة الثانية، فتقدمت من المنصة بخطوات واثقة، وقدمت وثيقة زواجها من أستاذ الجامعة الراحل، ووصية بخط يد زوجها يؤكد خلالها أنه بكامل قواه العقلية قرر أن يمنح زوجته «زينب» ثلث تركته.

وقع كلام الخادمة على أسماع أفراد أسرة الزوج الراحل داخل قاعة المحكمة كالصاعقة. لم يصدق أحد تلك الوصية، وتقدم محامي الأسرة بطلب للمحكمة للكشف عن صحة الوصية من خلال عرضها على قسم التزييف والتزوير بالطب الشرعي. لم ترد «زينب» على تلك الاتهامات سوى بتقديم ورقة جديدة، كانت عبارة عن شهادة من الجامعة تؤكد من خلالها أن زوجها الأستاذ بكلية الحقوق بعد زواجهما كان يمارس التدريس في الجامعة، ما يعني أن زوجها الراحل تزوجها في كامل قواه العقلية والذهنية، ولم يكن زواجه منها في فترة المرض كما يدّعي أفراد أسرته.

مفاجآت الخادمة الشابة أمام هيئة المحكمة منطقية وحاسمة، نسفت خطط أهل زوجها تباعاً، ولكن بقي طلب محامي أسرة الزوج الراحل بتحويل الوصية إلى الطب الشرعي لبيان مدى صحتها، وهو ما وافقت عليه هيئة المحكمة، وقررت تأجيل النظر في الدعوى لمدة أسبوع إلى حين ورود تقرير الطب الشرعي حول وصية الزوج الراحل.

وفعلاً بعد أسبوع، عقدت هيئة محكمة الأسرة آخر جلسات القضية، ووصل تقرير خبير التزييف والتزوير بمصلحة الطب الشرعي ليؤكد صحة الوصية التي حررها أستاذ كلية الحقوق الراحل بخط يده، واكفهرت وجوه أفراد أسرة دكتور الجامعة المتوفى، عندما أعلنت هيئة المحكمة قرارها الحاسم برفض دعواهم وتغريمهم مبلغ ألفي جنيه.

خرجت «زينب» من قاعة المحكمة بسرعة حتى لا يلحق بها أفراد أسرة زوجها الراحل، الذين غادروا، وهم يتبادلون الاتهامات حول ضياع ثلث التركة من بين أيديهم، ويقول أحدهما للآخر: «أنت السبب في ضياع ثلث الثروة»، وحدها مدام «هدى» كانت متأكدة أنها أضاعت زوجها أولا وثلث التركة ثانية.