«مصطفى» رجل غيور، وغلطة عمره أنه تزوج بامرأة جميلة، بل إن شئت الدقة هي رائعة الجمال، لذلك كان من الطبيعي أن يغار على زوجته «رشا» من كل شخص يقترب منها، حتى نسمات الهواء التي تداعب خصلات شعرها الناعم الطويل. إذا شاهدها تتحدث إلى جيرانها يطير عقله من رأسه، وإذا لمحها تضحك لشخص غريب أو قريب تداهمه الأفكار والظنون، ويصل بتفكيره إلى مناطق بعيدة مظلمة تحدثه بأن زوجته سقطت في غرام هذا الشخص.

على الجانب الآخر، كانت «رشا» فعلاً امرأة جميلة، شابة ممشوقة القوام، متفجرة الأنوثة، تجيد فن مخاطبة الرجال والشبان رغم معرفتها بطبيعة «مصطفى» الحادة وغيرته الشديدة عليها. من هنا، كان طبيعياً أن تهب رياح عاصفة على عش الزوجية الذي يجمع بينهما، رغم أن زواجهما لم يمض عليه سوى بضعة أشهر.

Ad

كانت العاصفة الأولى في الشهر الخامس لزواجهما، يومها لمح «مصطفى» زوجته تتحدث بنعومة مع جارها في الشقة المقابلة لشقتهما. جن جنون الزوج الغيور، انهال على زوجته بالضرب بعدما جذبها من أمام جارها من شعرها وأعادها إلى الشقة بالقوة. ورغم أن «رشا» أقسمت لزوجها بأنها لم ترتكب ذنباً فإن «مصطفى» اتخذ قراره النهائي وقضي الأمر، وألقى الزوج الغيور على زوجته الشابة يمين الطلاق.

لم تصدق «رشا» تلك النهاية السريعة. لملمت ملابسها في حقيبة، وعادت إلى بيت أهلها باكية بعدما حصلت على لقب مطلقة بعد خمسة أشهر فقط من الزواج.

بعد يومين، أفاق «مصطفى» من ثورة شكه على حقيقة واحدة، وهي أنه لا يستطيع الاستمرار في حياته من دون «رشا. هرول الزوج الغيور إلى بيت أسرة طليقته، طلب رد «رشا» في الحال بعدما أبدى ندمه وأسفه على الحماقة التي ارتكبها في حقها. على غرار كل أب في مثل هذه الظروف رأى والد «رشا» أن يعيد ابنته إلى عصمة زوجها كحماية لها، وحتى يسكت ألسنة الناس قبل أن تلوك سيرة ابنته عن أسباب طلاقها بمثل هذه السرعة.

وتكاتف الجميع، سواء والد «رشا» ووالدتها وأخوتها مع طليقها «مصطفى»، وأقنعوها بضرورة عودتها إلى عصمة زوجها، حرصاً على سمعتها قبل أن يكون حرصا على سعادتها، وخضعت المطلقة الشابة لرغبة أهلها وبعد توسلات «مصطفى»، وتكرار آسفه وندمه ووعده الصارم لها بأنه لن يغضبها بعد الآن، وعادت معه إلى عش الزوجية مجدداً.

قرر «مصطفى» و«رشا» طيّ صفحة الماضي بكل آلامه، وبدء صفحة جديدة كلها سعادة وهناء، لكن لم تمض أشهر قليلة حتى هبت عاصفة جديدة عاتية على حياتهما. عاد «مصطفى» من عمله ذات يوم، ليجد ابنة خالة زوجته وابن خالها في زيارة لبيته. ثار ثورة عارمة لوجود ابن خال زوجته في بيته أثناء غيابه. لم يستطع الزوج الغيور تمالك أعصابه فطرد الضيوف شر طرده، ومعهما زوجته بعدما ألقى عليها يمين الطلاق للمرة الثانية.

وعود أخرى

كالعادة، لملمت «رشا» ملابسها، وحملت حقيبتها عائدة إلى منزل أسرتها والحزن يعتصر قلبها على الإهانات التي تصب على رأسها. وكالعادة هدأ «مصطفى» بعد أيام، وتوجه إلى منزل أسرة طليقته ليردها إلى عصمته للمرة الثانية. بكى أمام الجميع وطلب منهم ومن طليقته أن يقدروا مشاعره الفياضة، وغيرته الشديدة على زوجته، خصوصاً أنه يعرف جيدا أن ابن خال «رشا» سبق أن تقدم لخطبتها قبله، منطقية حجج «مصطفى» جعلت الجميع يقبل اعتذاره.

عادت «رشا» إلى بيت زوجها بعدما تلقت منه وعداً جديداً بعدم تكرار إلقاء يمين الطلاق عليها لأنها ستكون الثالثة، ولن يستطيع ردها إلى عصمته إلا بعد زواجها برجل آخر، وطلاقها من زوجها الجديد لتعود للارتباط به مجدداً. وأقسم «مصطفى» بأغلظ الإيمان بأن يمسك لسانه المنطلق دوما مع كل خلاف بينهما، وتعهد لها بحسن معاملتها طوال العمر.

لم يستطع «مصطفى» الحفاظ على عهوده أكثر من عام، عاد بعدها وألقى بجملة «أنتِ طالق» في وجه زوجته بعدما لمحها تبتسم لأحد أصدقائه الذي جاء لزيارتهما ذات ليلة. كان الموقف عابراً ويمكن التغاضي عنه، لكن الغضب الذي سيطر على «مصطفى» انفجر في وجه زوجته كقنبلة شديدة الانفجار، لا سيما أنها كانت المرة الثالثة، وكما يقولون «الثالثة ثابتة»، انقطع كل شيء بين الزوجين، لم يعد يستطيع استعادتها إلى عصمته مرة أخرى، ومثل كل مرة عادت «رشا» إلى بيت أهلها حاملة أحزانها وهمومها وتندب حظها العاثر الذي أوقعها في شباك رجل مريض بالغيرة لا تطاق عشرته.

ألم الفراق

بعد شهر، نهشت آلام فراق «رشا» جسد «مصطفى» وعقله، بكى مثل الأطفال، وعض أصابعه ندماً بعدما أضاع زوجته من بين يديه بسبب عصبيته العمياء وغيرته الحمقاء. انزوى في أحد أركان العش الذي كان سعيدا ذات يوم، وراح يفكر في حل يستعيد به محبوبته «رشا»، وهو إحضار «محلل» يتزوج من «رشا»، ثم يطلقها فتعود زوجته ومحبوبته إلى عصمته من جديد.

كان مجرد التفكير في إحضار رجل لأداء دور «المحلل» ليتزوج من «رشا»، يقتل «مصطفى» ويعذبه ببطء، ولكن لم يكن من حل آخر للأزمة التي أوقع فيها نفسه، لذلك بدأ مهمة البحث عن هذا الرجل الذي يؤدي دور «المحلل»، وبعد أشهر عثر على ضالته المنشودة. وافق «حامد» العامل البسيط على أداء الدور، واشترط عليه «مصطفى» الزواج من مطلقته «رشا» في يوم، وفي اليوم التالي يطلقها من دون أن يراها أو يلمسها، وذلك كله مقابل مبلغ محترم.

وبعد جهود كبيرة لإقناع «رشا» وأسرتها بخطة طليقها، وعلى مضض وافقت المطلقة الشابة أن تتزوج بعامل بسيط، لتعود إلى زوجها الأول «مصطفى»، الذي هدد بالانتحار إذا لم ينفذ الجميع خطته.

في بيت أسرة «رشا»، أحضر «مصطفى» المأذون بنفسه ليعقد قران مطلقته على «حامد» المحلل، وتم الزواج ودخلت «رشا» إلى غرفة نومها باكية بينما اصطحب «مصطفى» زوج طليقته إلى أحد الأماكن ليقضيا السهرة سوياً، حتى يطمئن أن «حامد» لن يلمس مطلقته، وفي الصباح توجها سويا إلى المأذون وطلق «حامد» «رشا»، وأخذ باقي حسابه ومضى في حال سبيله.

مرت الزيجة بسلام، ونام «مصطفى» مرتاح البال للمرة الأولى منذ أشهر، وبمجرد أن استيقظ أسرع إلى بيت أهل «رشا»، والفرحة تملأ قلبه لأنه بعد ثلاثة أشهر سيستعيد زوجته التي أحبها بجنون، لكن كانت في انتظاره مفاجأة من العيار الثقيل، ما إن دخل منزل أهل طليقته حتى وجد الجميع في حالة ذهول وصدمة، قالوا له إن «رشا» هربت!

سقط «مصطفى» مغشيا عليه ما إن سمع الخبر، وعندما أفاق طار كالمجنون يبحث عن محبوته في كل مكان. لكن مرت الأيام ثقيلة ولم يعثر لها على أثر، بذل كل ما في وسعه، سأل جميع معارفهما المشتركين، سافر إلى أماكن بعيدة وعاد بخفي حنين مصاباً بالحسرة والندم لضياع الإنسانة التي أحبها بجنون، ولم يستطع الحفاظ عليها.

حياة جديدة

في مدينة المنصورة بدلتا مصر، ظهرت «رشا». لم يكن معها سوى حقيبة ملابسها، ومبلغ قليل من المال، وما استطاعت حمله من حليها الذهبي. أول ما فعلته في المدينة الغريبة استئجار شقة صغيرة لتقيم فيها، وفي اليوم التالي راحت تبحث عن عمل يساعدها على الهروب أطول فترة ممكنة. لم تستغرق رحلة بحثها عن عمل وقتاً، شفع جمالها بها وحصلت على وظيفة سكرتيرة في إحدى الشركات الخاصة.

في هذه الشركة تعرفت إلى زميلها «عمر»، ارتاحت له، وصار صديقها المقرب بعد شهر، وكان طبيعيا أن يحكي كل منهما للآخر حكايته. تبين أن «عمر» كان متزوجاً من ابنة خالته، لكنه طلقها بعد خلافات أسرية، وروت «رشا» بدورها حكاية زواجها من «مصطفى» وطلاقها منه ثلاث مرات لغيرته المرضية، ثم هروبها منه ومن أسرتها لرفضها قرار العودة إليه مجدداً.

مست حكاية «رشا» قلب «عمر» الذي عرض عليها الزواج فوراً، لبدء حياتهما مجدداً في مدينة المنصورة. ولأنها كانت تشعر بانجذاب ناحيته وافقت، وبدأت معه حكاية جديدة وكلها أمل في طي صفحة الماضي، لكن الماضي قرر ألا يتركهما.

ذات يوم، وبينما كان «مصطفى» جالسا بأحد المقاهي في مدينة المنصورة ينتظر قدوم صديق له لإنهاء بعض المعاملات المالية بينهما، لمح «رشا» تسير في الشارع متأبطة يد شاب غريب. لم يصدق عينيه! هبّ واقفاً وأسرع وراء «رشا» ينادي عليها بأعلى صوته، تسمرت قدماها والشاب الذي يسير معها في مكانهما، سألها «مصطفى» في حدة عن الشاب الذي تقف معه:

- مين ده يا رشا؟

لم ترد... فراح يكرر السؤال صارخا بأعلى صوته:

- مين ده انطقي؟

ومرة أخرى لم ترد «رشا»، بينما تولى زوجها «عمر» الأمر، وقال في حنق:

* وأنت مالك يا بارد... أنا جوزها. أنت اللي مين؟

وكان رد «عمر» كفيلا بنشوب معركة بينه وبين «مصطفى»، معركة لم تتوقف إلا بعد حضور رجال الشرطة الذين اقتادوا الجميع إلى قسم الشرطة، وهناك تكشفت الحقائق كلها.

في البداية، انكرت «رشا» معرفتها بـ «مصطفى» أمام النيابة، ولكنه قدم ما يثبت أنها طليقته، فعادت تعترف بالحقيقة، وأكدت أنها هربت من «المحلل» الذي أحضره لها طليقها، وأضافت أنها كرهت «مصطفى»، ولا تريد العودة إلى عصمته إلا أنها وافقت على قبول المحلل بعدما هدد «مصطفى» بالانتحار إذا لم توافق، وأضافت أنها بعد هروبها من منزل أهلها، تعرفت إلى زميلها «عمر»، وتزوجته بعدما قصت عليه حكايتها.

الانتقام
استغل «مصطفى» المعلومات الجديدة أسوأ استخدام، تملكته رغبة مجنونة في الانتقام من «رشا»، كان لسان حاله «إذا لم تكن رشا من نصيبي فلن تكون من نصيب أحد آخر»، لذلك قدم إلى النيابة عقد زواج «رشا» من المحلل «حامد»، والذي أثبت من خلاله أن «رشا» تزوجت من «عمر» قبل أن تنتهي عدتها من طليقها الثاني «حامد»، ما يعني أن «رشا» جمعت بين زوجين في وقت واحد، فقرر وكيل النائب العام إحالة الزوجة الشابة «رشا» وزوجها الأخير «عمر» لمحاكمة عاجلة بتهمة الجمع بين أكثر من زوج في وقت واحد.

أمام محكمة جنايات المنصورة، قال المحامي المكلف بالدفاع عن «رشا» إن زواجها من المحلل كان باطلاً، كذلك طلاقها منه صباح اليوم التالي للزواج، فقد أجبر الزوج الأول «مصطفى» الزوج الثاني المحلل «حامد» على تطليق «رشا» من دون أن يدخل بها، وأن زواج المحلل لا بد من أن تتوافر له الخلوة الشرعية بين الزوجين، وهو ما لم يحدث وبذلك يكون زواجها من «عمر» زوجها الثالث صحيحاً.

أما محامي المحلل «حامد» الذي لم يكن في الحقيقة إلا المحامي الخاص لـ «مصطفى»، فألقى بقنبلة قانونية مفجراً مفاجأة مذهلة، إذ قدم ما يفيد أنه بعد مضي ثلاثة أشهر من طلاق «رشا» من المحلل، عقد «مصطفى» قرانه بها مرة أخرى، ذلك بالاتفاق مع والدها الذي يملك توكيلا عاماً عنها. كان غرض والدها استعادة ابنته عبر «مصطفى»، الذي تعهد أمام والد «رشا» بالبحث عنها وإعادتها إلى بيتها مرة، وهنا أسقط في يد «رشا» إذ اكتشفت أنها زوجة لطليقها الأول من دون أن تعلم لتقضي المحكمة بمعاقبة الزوجة «رشا» وزوجها الثالث «عمر» بالحبس سنة لكل منهما.

عقب صدور حكم المحكمة، اقترب «مصطفى» من قفص الاتهام حيث تقف طليقته «رشا» ممسكة بيد زوجها «عمر» بقوة، وعلى وجهها ابتسامة وهي تقول له في حنان: «سنة وهتعدي بسرعة .. ونرجع لحياتنا ونبدأ من أول وجديد»، ثم التفتت ووجهت نظرات التحدي والإصرار صوب «مصطفى»، كانت نظراتها تعني معنى واحداً لا يقبل التأويل، قالت عيونها: الشك يا عزيزي مرض لا يمكن علاجه.

وقف «مصطفى» في مكانه وقد استولت عليه الدهشة واستيقظ من أوهامه على واقع جديد، فحبيبة عمره التي أرادها بجواره حتى آخر العمر ضاعت منه إلى الأبد، بسبب قلة حكمته وسيطرة ثورة الشك عليه، ثم غشت عينه الرغبة المدمرة في الانتقام فلم يحصد في النهاية سوى الندم.