فتح «وليد» عينيه على الدنيا ليجد نفسه بلا أب. أمضى مرحلة الطفولة في كنف أمه السيدة المكافحة الصابرة التي تعمل ليلاً ونهاراً بلا كلل لتكفي متطلبات ابنها الوحيد، الذي لم يعد له أحد في الدنيا سواها. فعلت المستحيل كي لا يشعر ابنها باليتم وفقدان الأب، ورغم أنها نجحت في ذلك إلى حد بعيد، لكن الطفل ظل متعلقاً بذكرى والده الذي لم يره قط.

آنذاك، ارتسم على لسان الصغير سؤال واحد: «كل زملائي في المدرسة لهم أب. اشمعنى أنا لا؟»، وكان جواب الأم الدائم يقتصر على جملة لا تتغير: «أبوك مسافر بعيد... بيشتغل علشان يجيب لنا فلوس كتير».

Ad

جواب الأم كذبة كبيرة، لكنها منطقية بالنسبة إلى طفل في مثل عمر ابنها «وليد»، بالتأكيد لن ينتبه لأسئلة أخرى أهم، فإذا كان والده مسافراً ليعمل ويأتي لهما بالمال لماذا تعمل أمه ساعات طويلة كل يوم؟ وأين هي أموال والده المسافر؟ لماذا يعيش مع أمه في منزل متواضع في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة الإسكندرية؟ ولا يملكان سوى نقود قليلة تكاد تكفي قوتهما اليومي؟

أسئلة كثيرة كان يمكن طرحها وتبديد كذبة الأم، لكن لم تتوافر للطفل بعد إمكانية طرح مثل هذه الأسئلة، لذلك مضت به الحياة ومرت سنوات تجاوز مرحلة الطفولة بسذاجتها، ليدخل مرحلة المراهقة ويبدأ في طرح الأسئلة تباعاً. لكن الأم عاجلته واعترفت له بالحقيقة المرة حول غياب والده من حياتهما. توقع أن تخبره أن والده تُوفي منذ سنوات، لكنها ألقت على مسامعه بقصة مغايرة.

أخبرت الأم وحيدها «وليد» أن والده ليس مسافراً أو ميتاً كما كان يتوهم، بل يعيش في صعيد مصر مع زوجة أخرى وأبناء آخرين بعدما طلقها، وأن الأب لم يرسل لها أموالاً منذ طلاقها، وأنهما ليسا من أهل مدينة الإسكندرية الساحلية أصلاً، بل من الصعيد، ومعروف عن الصعايدة أنهم رجال، والآن أصبح هو رجلاً صغيراً وعليه تحمل جزء من المسؤولية الملقاة على عاتق والدته التي قالت في صرامة أهل الصعيد:

«طول فترة الدراسة مهمتك أن تذاكر دروسك وتنجح. أما في فترة الصيف عليك أن تشتغل أي شغلانة تكسب منها قوت يومك».

كانت الأم تغرس في ابنها بذور الرجولة ليعتاد التعب والشقاء، وجلب المال بعرق جبينه. كان درس العمر من الأم التي تتولى مهمة الأب، في الوقت نفسه، لابنها الوحيد، في المقابل تعلم «وليد» الدرس جيداً، وبعدما كبر ووصل إلى السنة النهائية في الجامعة أدرك أن هذا الدرس من الأم الصعيدية الأهم الذي تلقاه طوال حياته، ودعا الله ألا يحرمه من وجود أمه في حياته، فهي السند والقوة بالنسبة إليه.

قرار صعب

مشهد مرعب استيقظ عليه «وليد»، الطالب في السنة النهائية بكلية الآداب، عندما عثر على والدته ملقاة على الأرض داخل غرفة نومها فاقدة الوعي، وبسرعة حملها إلى أقرب مستشفى في محاولة لإنقاذ حياتها. هناك اكتشف الأطباء إصابة الأم بغيبوبة ناتجة من إصابتها بمرض السكري، ونقلوها إلى غرفة العناية المركزة على الفور.

ساعات طويلة أمضاها «وليد» واقفاً أمام باب غرفة العناية المركزة والقلق يعتصر قلبه على والدته المريضة، ولم تهدأ ضربات قلب الشاب الجامعي المتسارعة من الخوف إلا عندما خرج الطبيب، وأخبره أن والدته بخير، وأن الخطر قد زال. تنفس «وليد» الصعداء، ودخل إلى والدته وراح يقبل يديها، والدموع تنساب من عينيه، كأنه يناشدها ويتوسل إليها ألا تتركه بمفرده في هذه الدنيا، وربتت الأم على يد ابنها الوحيد في حنان، وقالت بصوت واهن يشبه الهمس:

- اطمئن يا وليد أنا بخير. بس يا ابني المستشفى دي باين عليها غالية وأنت يا حبيبي مش حمل مصاريف علاجي هنا.

قاطع الابن أمه قائلا في أسى:

* فداكِ فلوس الدنيا كلها يا ست الحبايب... ما تحمليش هم أنا هأتصرف... المهم بس تقومي لي بالسلامة.

ارتسمت ابتسامة رضا على شفتي الأم التي قالت بنفس الوهن:

- هتتصرف منين بس؟

وابتلعت الأم ريقها بصعوبة بالغة وأضافت قائلة:

- مافيش بقى غير أنك تروح لأبوك تستلف منه مصاريف العلاج.

اغضبت كلمات الأم المريضة الابن الشاب، الذي شرد بذهنه وراح يسترجع القصة الحزينة ذات التفاصيل المريرة التي تتبادر إلى ذهنه كلما سمع كلمة «أبوك»، فـ «وليد» لا يعرف معنى تلك الكلمة ولا يحبها. عاش حياته يتيماً، مع أن والده التاجر الثري على قيد الحياة. فتح عينيه على الدنيا ليجد نفسه يعيش مع أمه بمفردهما في شقة متواضعة بمدينة الإسكندرية. وفي الرابعة عشرة من عمره أدرك الحقيقة، أمه رفضت زواج والده من أخرى. رفضت أن تصبح لها «ضرة»، فألقى والده عليها يمين الطلاق وطردها وابنها إلى الشارع ليعيش مع زوجته الجديدة على فراش الزوجية القديم.

مرّت الذكريات أمام عيني «وليد» الواحدة تلو الأخرى، أيام الشقاء والفقر والحرمان التي عاناها هو وأمه، وقصة كفاح الأخيرة التي كانت تدبر المال من لا شيء ليظل مستوراً أمام الجميع. كان صعباً عليه أن ينفذ طلب أمه بالذهاب إلى والده الذي لم يره قط، ولا يعرف شكله على وجه اليقين، فكيف سيطلب منه مصاريف العلاج لطليقته؟ ورغم رفضه للفكرة إلا أنه لم يكن يملك خياراً آخر، فكيف سيؤمن مصاريف علاج أمه الحبيبة وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئا؟

سفر طويل

استقل «وليد» القطار المتجه إلى أسيوط بصعيد مصر. كانت المرة الأولى التي يغادر فيها الإسكندرية. لم يكن في رأسه خطة لمواجهة والده، بل انحصر تخطيطه في أن يصل إلى أسيوط ثم يسأل عن عائلته المدون لقبها في بطاقته الشخصية، ومن اسم العائلة سيسأل عن اسم والده التاجر الكبير. كانت رحلة بحث صعبة، فالشاب الجامعي لا يعرف شيئاً عن والده فعلاً. حتى أنه لا يعرف ما هي طبيعة نشاطه التجاري على وجه الدقة، أو شكله من الأساس، فوالدته لم تحتفظ ولو بصورة صغيرة لطليقها حتى يتعرف الابن إلى شكل أبيه.

تستغرق رحلة القطار من الإسكندرية إلى أسيوط ما يزيد على ثماني ساعات، أمضاها «وليد» في رسم سيناريوهات عدة للقاء الأول بينه وبين والده. انتهت الرحلة الطويلة، ووضع «وليد» قدمه على أرض مدينة أسيوط، ولأن أهل الصعيد يعرفون بعضهم جيداً لم يستغرق الطالب الجامعي وقتاً للبحث عن منزل عائلته. دله الأهالي بسرعة وسار بخطوات متثاقلة في اتجاه البيت الذي شهد ولادته وطرده مع أمه منذ سنوات طويلة. كان قلبه يخفق بشدة من الرعب، راح يفكر في لقائه بوالده للمرة الأولى بعد 21 عاماً، كيف سيستقبله الأب، بفتور أم ترحاب؟ وزوجة والده المرأة التي حطمت حياة أمه وحرمته من الأب، كيف سيكون رد فعلها على هذه الزيارة المفاجئة؟

جاءت الإجابة عن هذه الأسئلة بمجرد أن انفتح باب البيت واستقبلت زوجة الأب الشاب الغريب في حذر وريبة، سألته في ضيق واضح:

- أنت مين وعاوز إيه؟

أجاب الابن في حرج:

* أنا وليد ابن الحاج (....) جوزك.

ارتسمت علامات الغضب على وجه زوجة الأب، ورفضت استقبال الشاب الجامعي وقالت في حدة:

* أبوك مش موجود.

وهمت بإغلاق الباب في وجه «وليد»، إلا أنه مد يده إلى الباب ليمنع غلقه في وجهه، وقال في خجل:

* طيب ممكن أرجع تاني... إمتى يكون موجود؟

أجابت زوجة الأب في حنق:

- ما ترجعش تاني... لا أنا ولا أبوك عاوزين نشوف وشك هنا!

مرة أخرى حاولت زوجة الأب إغلاق باب البيت في وجه الشاب الجامعي، الذي شعر بإهانة بالغة فغلت الدماء في عروقه، ومن دون أن يتحكم في أعصابه دفع الباب بقوة ليفتحه على مصراعيه ويقول غاضباً:

* إيه قلة الذوق دي. أنا لازم أتكلم مع أبويا. أمي في المستشفى بتموت!

ردت زوجة الأب بكل عنف قائلة في شراسة:

- ما تموت وألا تغور في ستين داهية. حتى يبقى عيب عليك تبقى شحط وطول الباب كده وتيجي تشحت؟!

كانت كلمات زوجة الأب الأخيرة كما يقولون القشة التي قصمت ظهر البعير، اشتعلت نيران الغضب المكتومة سنوات طويلة في صدر «وليد»، لم يدر بنفسه وقتها، انطلق شيطانه من عقاله مدعوماً بسنوات الحرمان والفقر، دفع زوجة أبيه بكل شراسة، فأسقطها على الأرض وراح في لحظة من غياب الوعي ينهال عليها ركلا بقدميه في كل أنحاء جسدها، وكأنه ينتقم منها لحرمانها له من عطف والده طوال 21 عاماً، عاشها من دون أن يعرف معنى كلمة أب.

تعالت صرخات زوجة الأب وهي تفترش الأرض تستغيث بالناس، وتلقي باللعنات على ابن زوجها وتسبه بأمه. وفي لحظة جنون لمح «وليد» عصا غليظة كانت موجودة بجوار الباب، أمسكها وراح ينهال بها على رأس زوجة الأب بضربات سريعة قوية متلاحقة حتى توقف سباب زوجة أبيه تماماً.

أفاق «وليد» من لحظة الجنون، ليجد زوجة والده جثة هامدة سابحة في دمائها، وانتبه لتجمع الجيران حوله يمسكون به، ويكيلون له الضربات المبرحة، وهم يقتادونه إلى مديرية أمن أسيوط، هناك اعترف «وليد» بجريمته، لم يناور أو ينكر شيئاً، فأحيل إلى النيابة ومنها إلى محكمة الجنايات.

حزن أب
طار خبر الجريمة بسرعة البرق إلى والد «وليد». انطلق التاجر الكبير إلى بيته ليجد زوجته فارقت الحياة. أسرع إلى مديرية الأمن ليكتشف أن القاتل هو ابنه «وليد» من زوجته الأولى التي طلقها قبل سنوات طويلة. كاد الرجل يصاب بالجنون بعدما فقد زوجته وابنه في لحظة واحدة، ولكنه تماسك وطلب من مدير أمن أسيوط أن يلتقي بابنه القاتل، ووافق مدير الأمن شرط موافقة المتهم نفسه.

عندما عرض الأمر على «وليد» احتار في الأمر وعجز عن إعطاء إجابة، هل يوافق على لقاء والده الذي لم يفكر مرة في حياته أن يرسل له جواباً أو أموالا تساعده على ظروفه الصعبة؟ أم يرفض لقاء هذا الرجل الغريب والذي لا يعرف حتى شكله وكل ما يربطه به أن اسميهما يتجاوران في البطاقة الشخصية لـ «وليد»؟

رفض «وليد» لقاء الأب، وخرج التاجر الكبير من مكتب مدير الأمن مكسور الخاطر، يشعر بأنه يجني ثمار ما زرع من تجاهل لابنه طوال سنوات، شعر بألم الأب ولكن متأخراً. ورغم رفض ابنه اللقاء فإنه قرّر بذل قصارى جهده لفعل أي شيء يخفف وطأة مصيبته، فاجتمع بأهل زوجته وطلب منهم أن يساعدوه، ويقفوا إلى جواره في الكارثة التي حلت به. ولأن التاجر الكبير كانت له أفضال كثيرة على أهل زوجته لم يعارضوه في ما أراد، وأكدوا له أنهم على استعداد لتنفيذ كل ما يطلبه منهم.

وجاء موعد المحاكمة. في قاعة المحكمة، وقف «وليد» داخل قفص الاتهام، كانت نظراته زائغة يبحث بين الحاضرين عن أمه، ليكتشف أنها لم تحضر الجلسة، وانتبه المتهم إلى نظرة ترمقه عن بعد لرجل مسن، كان والده الذي لم يشاهده طوال حياته، ولكنه تعرف إليه بإحساسه لا سيما أن الشبه بينهما كان كبيراً. كانت نظرة الأب تحمل معاني كثيرة، نظرة حانية وحزينة على مستقبل ابنه الذي ضاع في لحظة تهوّر.

بدأت المحاكمة، وروى «وليد» ما جرى من دون كلمة زائدة، واعترف أنه قتل زوجة والده لأجل أمه ودفاعاً عن شرفها. هنا انتفض الأب ليطلب من المحكمة التنازل عن القضية حرصاً على مستقبل ابنه، وقدم الأب مفاجأة للابن القاتل، إقراراً وقع عليه أقارب زوجته القتيلة يفيد بتنازلهم عن القضية. وأكد الأب أن ابنه صادق في كل كلمة قالها، فهو يعلم جيداً أن زوجته القتيلة كانت سليطة اللسان، والمؤكد أنها استفزت ابنه بقوة وأخرجته عن شعوره.

كان «وليد» يقف داخل القفص لا يصدق كلمات والده، ومحاولته إنقاذ رقبته من حبل المشنقة. كانت سعادة الابن بالغة، وكأنه يتلقى اعتذاراً رسمياً من والده بعد كل هذه السنوات. شعر بأن والده يعترف به ابنا على رؤوس الأشهاد، والحصول على الغفران من ابنه على تجاهله لسنوات، لكن تحركه جاء متأخراً، فالمحكمة رفضت تنازل الأب وأقارب القتيلة عن القضية، وقررت أن القصاص حق أصيل للمجتمع، ولا يجوز التنازل عنه، وقضت بمعاقبة الابن القاتل بالسجن المشدد 10 سنوات، لعدم وجود سبق إصرار وترصد في ارتكاب جريمة القتل واعتبرتها المحكمة قضية ضرب أفضى إلى الموت.

فور صدور الحكم، سقط الأب مغشياً عليه، ونجح من حوله في إسعافه، غالب شعوره بالدوار واتكأ على اثنين من مرافقيه حتى وصل إلى قفص الاتهام، واجه ولده وقال له بلهجة أبوية مسكونة بالحزن: «ما تخافش يا وليدي... الست أمك في رقبتي».

رد «وليد» الذي اختلطت في نفسه مشاعر الفرحة بحديث والده بألم السجن: «ده العشم فيك يا أبا».