عندما تدفق... النهر الأسود (1)

كان ظهور النفط في الكويت وتصديره ثورة اقتصادية اجتماعية سياسية، وكان الاقتصاد القديم وما ارتبط به من مهن، أولى ضحايا هذا التحول الشامل، وبخاصة مهنة الغوص الشاقة التي كانت المجال الأبرز للطامحين في الثراء المفاجئ.

نشر في 23-06-2016
آخر تحديث 23-06-2016 | 00:10
 خليل علي حيدر مرت في بداية يونيو الحالي الذكرى السبعون لمناسبة تاريخية كبرى، غيرت واقع الكويت ومكانتها ومستقبلها، ألا وهي بداية تصدير النفط في يونيو 1946.

كان ظهور النفط في الكويت وتصديره ثورة اقتصادية اجتماعية سياسية، وكان الاقتصاد القديم وما ارتبط به من مهن، أولى ضحايا هذا التحول الشامل، وبخاصة مهنة الغوص الشاقة التي كانت المجال الأبرز للطامحين في الثراء المفاجئ، المهنة التي كانت في الواقع تلفظ أنفاسها الأخيرة حتى قبل ظهور النفط، بعد انتشار اللؤلؤ الصناعي في صناعة المجوهرات.

يقول عبد العزيز حسين في كتابه عن تاريخ المجتمع الكويتي: "عند ظهور البترول بالكويت عام 1946 كانت حرفة الغوص باعتبارها عاملاً اقتصاديا له أثره الخطير، قد انتهت مخلفة ما خلفت من آثار، وكنت ترى في هذا التاريخ وبعده بقليل على سيف الكويت العشرات بل المئات من سفن الغواصين تلوحها الشمس المحرقة وتنتظر مصيرها المحتوم. ولم يعد النازحون إلى الكويت للعمل بالغوص أول الموسم يأبهون بالمجيء في ذلك الوقت المحدد، ولكنهم وجدوا كما وجد البحارة الكويتيون، بدلاً من دراري البحر ذهباً أسود تتفجر عنه الصحراء، فاستعاضوا به عن تلك المهنة الشاقة العسيرة غير مأمونة النتائج".

(محاضرات عن المجتمع العربي بالكويت، الكويت 1994، ص59)

مزايا نفط الكويت

لم يكن نفط الكويت غزيراً ومتدفقاً بلا توقف فحسب، بل كان يتم استخراجه كذلك بتكاليف ضئيلة، "تعتبر أقل التكاليف بالنسبة إلى أي حقل بترول في العالم"، يضيف المرجع نفسه، وذلك لعدة أسباب، من بينها وجود النفط على أعماق غير بعيدة في معظم الآبار، وغزارة البترول في الآبار، وضآلة عدد الآبار الجافة، وخروج النفط بقوى الضغط الذاتي، وقرب حقول البترول من موانئ التصدير، وسهولة التنقيب لانبساط الأرض، ثم إن "أكثر آبار النفط مزدوجة الإنتاج، يتسرب النفط خلال جدرانها من طبقتين منفصلتين من الطبقات الرملية المنتجة".

هذه التسهيلات الطبيعية، كما ذكر عبدالعزيز حسين، "جعلت تكاليف الإنتاج لنفط الكويت الخام يصل إلى أميركا بسعر أقل من بترول أميركا نفسه".

رؤية بريطانية

للدبلوماسي البريطاني المعروف "هارولد ديكسون"، الوكيل السياسي لبريطانيا العظمى في الكويت حتى تقاعده عام 1936، كتابان بارزان هما "عرب الصحراء" و"الكويت وجاراتها"، وهما مترجمان للعربية، وقد نشر ديكسون في الكتاب الثاني مقالا للكاتبة "مرغريت كلارك"، كانت قد نشرته على صفحات "بتروليوم تايمز" تقول فيه:

"في شهر يونيو 1946 تم تصدير أول برميل من النفط من الكويت، ففي أوائل ذلك الشهر تجاوز الإنتاج من الخزان شبه الخرافي الكامن تحت "الرمال الملتهبة" في الكويت علامة ألف مليون، وألف مليون برميل من النفط فيما يقل عن ثمانية أعوام رقم قياسي بكل المعايير، وهو بلا شك أكثر الإنجازات الصناعية إثارة في العصر الحديث، وهو إنجاز لم يسبق له مثيل في تاريخ حقول النفط.

ولم يحدث من قبل أن تطور حقل كبير للنفط بمثل هذه السرعة، وسوف تظل النجاحات التي يؤكدها هذا الرقم القياسي مثالاً لأرقى أشكال التعاون الأنجلو- أميركي، وقبل هذا الإنجاز كانت ثمانية من بلدان العالم فقط هي التي تجاوز الإنتاج فيها الألف مليون برميل من النفط الخام، وهي الولايات المتحدة الأميركية، والمكسيك، وفنزويلا، ورومانيا، وروسيا، وإيران، والمملكة العربية السعودية، وإندونيسيا، أما الآن فإن مشيخة الكويت هي من أصغر بلدان العالم، تأخذ مكانها بين عمالقة النفط هؤلاء، والجدير بالذكر أن الكويت حققت هذه المكانة خلال فترة زمنية أقل كثيراً مما استغرقته البلدان الثمانية التي سبقتها".

وعن الصورة الواسعة الانتشار للأمير الأسبق أحمد الجابر وهو يدشن المرحلة الجديدة في حياة الكويت والتي لم يمتد به العمر ليعيشها، تقول الكاتبة "مرغريت كلارك": "يمكن القول بأن عمليات الإنتاج بدأت في أول يونيو (حزيران) 1946 عندما أدار فخامة الشيخ أحمد الجابر الصباح صماماً في ميناء الأحمدي لشحن أول ناقلة، هي بريتش فوزلييه fusilier بحمولة من النفط الخام توجهت بها إلى جرانجماوث (grangemouth)، لتكون مؤشرا لما ستكون عليه الحال في المستقبل، لأن بريطانيا ظلت منذ ذلك الوقت هي المستهلك الرئيس للنفط الخام الكويتي". (ص ٦١٥).

صعوبات تقنية... واجتماعية

كانت اتفاقية التنقيب عن النفط قد عقدت في الكويت يوم 23/ 12/ 1934 بين سمو أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر من جانب وشركة نفط الكويت المحدودة، وهي شركة مسجلة في بريطانيا العظمى من جانب آخر.

وما إن بدأ تصوير النفط حتى اتسعت البنية التحتية لإنتاجه، وتقول كلارك: "وفي شهر واحد، فبراير 1948، تم تفريغ 25.000 طن من المعدات على الشاطئ بهذه الطريقة وبلغ الحجم الإجمالي للمعدات الواردة في ذلك العام رقما قياسيا هو 190.000 طن، وكان هذا في حد ذاته أحد العراقيل التي كان لا بد من تخطيها قبل تطوير الحقل وبالإضافة إلى ذلك، كان لا بد من تدريب العمال المحليين، الذين لم يألفوا الخضوع لأي نوع من أنواع التنظيم، وتعليمهم كيفية استخدام الوسائل والأساليب الغربية للعمل. وكان لا بد أيضاً من جلب الأعداد المناسبة من الاختصاصيين الفنيين من الخارج ومع كل منهم ما يلزمه لممارسة العمل والحياة في الصحراء".

وتضيف الكاتبة: "بدأت العمليات في مواجهة العديد من المصاعب الناجمة عن ضرورة القيام بها في أراض بعيدة كل البعد عن أي نشاط صناعي، وفي بلاد يسودها مناخ يحمل في طياته تعقيدات غير مألوفة، فقبل اكتشاف النفط في الكويت بأراضيها التي لا تتجاوز مساحتها الستة آلاف ميل مربع على رأس الخيلج، كان أهلها يعيشون على صيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ وصناعة السفن والتجارة، وبذلك لم يكن هناك أي تقاليد صناعية وفقا للنمط الأوروبي يمكن أن تستند إليها الصناعة الجديدة، ولا عمال مهرة، ولا مواد، ولا مواصلات، وبالإضافة إلى كل ذلك لم تكن هناك الأسواق الملائمة لاستيعاب النفط حتى لو أمكن التغلب على كل النواقص التي ذكرناها".

«يتبع غداً»

مهنة الغوص كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة قبل ظهور النفط بسبب انتشار اللؤلؤ الصناعي

نفط الكويت لم يكن غزيراً ومتدفقاً بلا توقف فحسب بل كان يتم استخراجه كذلك بتكاليف ضئيلة
back to top