لما جاءت الليلة التاسعة والأربعون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن النصراني لما قال لزمرد، التي ترتدي ثياب ملك المدينة: "أنت صادق في ضرب الرمل يا مولاي”، تعجّب الحاضرون من الأمراء وغيرهم من إصابة الملك في ضرب الرمل، وقالوا: هذا الملك منجم ما في الدنيا مثله. ثم أمرت الملكة بأن يُسلخ النصراني ويحشى جلده تبناً ثم يُعلق على باب الميدان، وأن تحفر حفرة يحرق فيها لحمه وعظمه وترمى عليه الأوساخ والأقذار. فقام العساكر بتنفيذ ما أمرت به، فلما نظر الخلق ما حل بالنصراني الماكر قالوا: "جزاؤه ما حلَّ به”.

ولما كان أول الشهر التالي، مدوا السماط، وقعدت الملكة زمرد على الكرسي، وجلس الناس من أهل المدينة حول السماط، ونظروا إلى صحن الأرز الحلو، فقال واحد منهم للآخر: يا حاج خلف تجنّب صحن الأرز الحلو وحذار أن تأكل منه فتصبح مشنوقاً، فقال له: "لا توصِ حريصاً يا حاج خالد”...

Ad

بينما هم يأكلون والملكة زمرد جالسة، حانت منها التفاتة إلى رجل داخل يهرول من باب المدينة، فتأَّمّلته فوجدته "جوان الكردي”، اللص الذي قتل الجندي، وكان ترك أمه ومضى إلى رفقائه وقال لهم: كسبتُ كسباً طيباً وقتلت جندياً وأخذت فرسَه، كما حصلت على خُرج ملآن ذهباً وصبية قيمتها أكثر من الذهب الذي في الخرج، ووضعت جميع ذلك في الغار عند والدتي، ففرحوا بذلك وتوجهوا إلى الغار في آخر النهار، ودخل "جوان الكردي” قدامهم فوجد المكان قفراً، وأخبرته أمه بجميع ما جرى، فعض على كفيه ندما وقال: والله لأبحثن عن هذه الفاجرة وآخذها من المكان الذي هي فيه ولو كانت في قشور "الفستق” كي أشفي غليلي منها.

وخرج يفتش عليها، ولم يزل دائراً في البلاد حتى وصل إلى مدينة الملكة زمرد. لما دخل المدينة لم يجد فيها أحداً، فسأل بعض النساء الناظرات من الشبابيك، فأعلمنه بأن السلطان مَد سماطاً للرجال جميعاً في الميدان، فتوجّه إلى هناك وهو يهرول، ولم يجد مكاناً خالياً يجلس فيها إلا أمام صحن الأرز الحلو المتقدم ذكره، فقعد، ومد إلى الصحن يده، فصاح الناس وقالوا له: يا أخانا لا تأكل من هذا الصحن حتى لا تصبح مشنوقاً، فلم يقتنع بهذا الكلام وأمسك الصحن وجره قدامه، ثم شمّر جوان الكردي عن يده التي تشبه رجل الغراب وغرف بها لقمة كبيرة من الأرز.

لما كانت الليلة الخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن جوان الكردي أخرج يده من الصحن واللقمة في كفه، كأنها النارنجة الكبيرة، ثم رماها في فمه بسرعة، فانحدرت في حلقه ولها قرقعة مثل الرعد، وبان قعر الصحن في موضعها، فقال له الجالس بجانبه: الحمد لله الذي لم يجعلني طعاماً بين يديك لأنك خسفت الصحن بلقمة. فقال الحشاش: «دعوه يأكل فإنه يأكل آخر زاد له قبل شنقه».

ثم التفت إليه وقال له: كل لا هنَّاك الله. فمد يده لأخذ اللقمة الثانية، وإذا بالملكة صاحت ببعض الجند، وقالت لهم: هاتوا ذلك الرجل بسرعة ولا تدعوه يأكل اللقمة التي في يده. همَّ عليه العساكر وهو منكب على الصحن، وقبضوا عليه وأخذوه وأوقفوه قدام الملكة زمرد، فشمت الناس به وقالوا: لقد نصحناه فلم ينتصِح، وهذا المكان موعود بقتل من جلس فيه، لأن ذلك الأرز شؤم على كل من يأكل منه.

ثم قالت له الملكة زمرد: ما اسمك؟ وما صناعتك؟ وما سبب مجيئك مدينتنا؟ فقال: يا مولانا السلطان، اسمي عثمان، وصنعتي خولي بستان، وسبب مجيئي إلى هذه المدينة أني دائر أفتش على شيء ضاع مني. فقالت الملكة: عليّ بتخت الرمل. فأحضروه بين يديها، وأخذت القلم وضربت تخت رمل تأملت فيه ساعة ثم رفعت رأسها وقالت له: ويلك يا خبيث، كيف تكذب عليّ؟ الرمل يخبرني بأن اسمك جوان، وصنعتك لص تأخذ أموال الناس بالباطل، وتقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.

ثم صاحت به: قل الحق وإلا قطعت رأسك. لما سمِع كلامها اصفر لونه وظنَّ أنه إنْ نطق بالحق ينجو، فقال لها: صدقت أيها الملك، ولكني أتوب على يديك من الآن وأرجع إلى الله تعالى. فقالت له الملكة: لا يحل لي أن أترك آفة في طريق المسلمين. ثم قالت لبعض أتباعها: خذوه واسلخوا جلده وافعلوا به مثل ما فعلتم بزميله في الشهر الماضي. ففعلوا ما أمرتهم به، ولما رأى الحشاش أتباع الملكة يقبضون على الرجل، أدار ظهره إلى الصحن وقال: إن استقبالك بوجهي حرام.

صحن الأرز

لما كان أول الشهر التالي نزلوا إلى الميدان على عادتهم، حيث أحضر الطعام وجلس الناس ينتظرون الإذن، وإذا بالملكة أقبلت وجلست على الكرسي وهي تنظر إليهم فوجدت الموضع الذي أمام صحن الأرز خالياً مع أنه يسع أربعة رجال. وبينما هي تجول بنظرها، حانت منها التفاتة فنظرت إنساناً داخلاً من باب الميدان يهرول، ثم وقف على السماط، ولم يجد مكانا خالياً إلا أمام ذلك الصحن، فجلس وشمّر عن ساعده استعداداً لالتهام ما فيه.

ولما كانت الليلة الحادية والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الملعون الذي سمى نفسَه رشيد الدين، لما رجع من سفره، أخبره أهل بيته أن زمرد هربت وأخذت معها خُرج مال، فلما سمع ذلك الخبر، شقّ أثوابه ولطم وجه ونتف لحيته، وأرسل أخاه برسوماً يبحث عنها في البلاد، فلما أبطأ عليه خبره خرج هو بنفسه ليفتش على أخيه وعلى زمرد. ورمته المقادير إلى مدينة زمرد، فدخلها في أول الشهر، حيث وجد شوارعها خالية، والدكاكين مغلقة، وعلم من بعض النساء أن الملك يمد سماطاً لجميع الناس في أول كل شهر ليأكلوا منه، وما يقدر أحد أن يجلس في بيته ولا في دكانه.

توجَّه من فوره إلى الميدان، حيث وجد الناس مزدحمين على الطعام، ولم يجد موضعاً خالياً إلا حيث صحن الأرز المعهود، فجلس ومد يده يأكل، فأشارت الملكة إليه وقالت: هاتوا هذا الرجل عندي. فقبضوا عليه وأوقفوه أمامها، فقالت له: ويلك ما اسمك؟ وما صناعتك؟ وما سبب مجيئك إلى مدينتنا؟ فقال: يا ملك الزمان، اسمي رستم، ولا صنعة لي لأني فقير درويش.

فقالت لجماعتها: هاتوا لي تخت رمل والقلم النحاس. فأتوها بما طلبته، وبعد أن أخذت القلم وخطت به تخت رمل ومكثت تتأمل فيه ساعة، رفعت رأسها وقالت له: كيف تكذب على الملوك؟ أنت اسمك رشيد الدين، وصنعتك أنك تنصب الحيل لجواري المسلمين وتأخذهن، وأنت مسلم في الظاهر ونصراني في الباطن، فانطق بالحق وإلا ضربت عنقك، فتلجلج في كلامه ثم قال صدقت يا ملك الزمان.

فأمرت به أن يمدّ ويُضرب على كل رجل مئة سوط، وعلى جسده ألف سوط، وبعد ذلك يسلخ ويحشى جلده، ثم تحفر له حفرة في خارج المدينة يحرق فيها وتوضع عليه الأوساخ والأقذار. ففعلوا ما أمرتهم به، ثم أذنت للناس في الأكل فأكلوا، وانصرفوا، ورجعت هي إلى قصرها وهي تقول: الحمد لله الذي أراح قلبي ممن أضروا بي.

ثم خطر ببالها سيدها علي شار، فبكت بالدموع الغزار، وبعد ذلك رجعت إلى عقلها وقالت لنفسها: لعل الله الذي مكنني من أعدائي، يمن عليّ برجوع أحبابي. فاستغفرت الله عز وجل.

في انتظار الحبيب

لما كانت الليلة الثانية والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة استغفرت الله عز وجل ووالت الاستغفار، وسلمت أمرها للأقدار، وأيقنت أنه لا بد لكل أول من آخر. ثم مكثت بعد ذلك شهراً كاملاً، وهي بالنهار تحكم بين الناس وتأمر وتنهي، وبالليل تبكي وتنتحب على فراق سيدها علي شار. ولما جاء الشهر الجديد، أمرت بمد السماط في الميدان على العادة، وجلست على رأسه، وجعلت عينها على باب الميدان لتنظر كل من يدخل، وهي تقول في سرها: يا من رد يوسف على يعقوب، وكشف البلاء عن أيوب، أمنن عليّ برد سيدي علي شار، استجب مني يارب العالمين.

وما أتمت دعاءها حتى دخل من باب الميدان شاب كان قوامه غُصن بان، إلا أنه نحيل البدن، يلوح عليه الاصفرار، وإن كان حسن الشباب كامل العقل والآداب، فلما دخل لم يجد موضعاً خالياً إلا الموضع الذي عند صحن الأرز فجلس فيه، فلما رأته زمرد خفق قلبها إذ عرفت أنه سيدها علي شار، فأرادت أن تصرخ من الفرح، لكنها خشيت الفضيحة بين الناس، فكتمت ما بها.

وكان السبب في مجيء علي شار أنه لما رقد على المصطبة ونزلت زمرد وأخذها جوان الكردي، استيقظ بعد ذلك فوجد نفسه مكشوف الرأس، فعرف أن إنساناً تعدى عليه وأخذ عمامته وهو نائم، فقال الكلمة التي لا يخسر قائلها وهي: إنا لله وإنا إليه راجعون...

ثم رجع إلى العجوز التي كانت قد أخبرته بمكان زمرد، فبكى بين يديها حتى وقع مغشياً عليه، فلما أفاق أخبرها بجميع ما حصل له فلامته وعنفته على ما وقع منه وقالت له: إن مصيبتك وداهيتك من نفسك. وما زالت تلومه حتى طفح الدم من منخريه ووقع مغشياً عليه.

لما كانت الليلة الثالثة والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن علي شار لما أفاق قالت له العجوز: انتظر عندي هنا حتى أكشف لك الخبر وأعود بسرعة. ثم تركته وغابت إلى نصف النهار، وعادت تقول: ما أظن إلا أنك ستموت بحسرتك لأنك ما بقيت تنظر محبوبتك. ولما أصبح أهل القصر وجدوا الشباك الذي يطل على البستان مخلوعاً، ووجدوا زمرد قد هربت ومعها خرج ملأته بمال النصراني، ولما وصلت أنا إلى هناك وجدت الوالي واقفاً على باب القصر هو وجماعته للتحقيق .

فلما سمع علي شار منها هذا الكلام، تبدّل الضياء في وجهه فصار كالظلام، ويئس من الحياة، وما زال يبكي حتى وقع مغشياً عليه من ألم العشق والفراق، ثم مرض مرضاً شديداً ولزم داره. وراحت العجوز تأتيه بالأطباء وتسقيه الأشربة وتعمل له المساليق مدة سنة كاملة، حتى ردت روحه إليه، فتذكر ما فات وأنشد هذه الأبيات:

الهم مجتمع والشمل مفتــــرق

والدمع مُستبِق والقلبُ محترق

زاد الغرام على من لا قرار له

وقد براه الهوى الشوق والقلق

يارب إن كان شيء فيه لي فرج

فامْنُن عليّ به ما دام لي رمق

وفي السنة الثانية، قالت له العجوز: يا ولدي هذا الذي أنت فيه من الكآبة والحزن لا يرد عليك محبوبتك، فقم وابحث عنها في البلاد لعلك تقع على خبرها. ثم أدخلته الحمام وسقته الشراب وأطعمته الدجاج مدة شهر حتى تقوى وسافر. ولم يزل مسافراً إلى أن وصل إلى المدينة التي تحكمها زمرد، ودخل الميدان وجلس إلى المائدة ومد يده ليأكل من صحن الأرز، فقال له بعض الحاضرين: لا تأكل من هذا الصحن لأن من أكل منه يحصل له ضرر. فقال لهم: دعوني آكل منه لعلي أستريح من هذه الحياة المتعبة. ثم أكل أول لقمة، وأرادت زمرد أن تحضره بين يديها، فخطر ببالها أنه جائع وقالت لنفسها: ينبغي أن أدعه يأكل حتى يشبع. فصار يأكل، والحاضرون مشفقون عليه من الشنق الذي ينتظره.

العودة إلى الزوج
لما أكل وشبع قالت لبعض الطواشية: امضوا إلى ذلك الشاب الذي يأكل من الأرز وهاتوه برفق، وقولوا له إن الملك يطلبك لحديث لطيف، فقالوا: سمعاً وطاعة. ثم ذهبوا إليه وقالوا له: يا سيدي تفضل كلم الملك وأنت منشرح الصدر. فقال: سمعاً وطاعة. ثم مضى مع الطواشية .

لما كانت الليلة الرابعة والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار لما قام مع الطواشية، قال الحاضرون: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ترى ماذا يصنع معه الملك؟

فقال بعضهم: لا يفعل إلا خيراً، لأنه لو كان يريد ضرره، ما كان تركه يأكل حتى يشبع. فلما وقف قدام زمرد، سلم عليها، وقبل الأرض بين يديها، فردت عليه السلام، وقابلته بالإكرام، وقالت له: ما اسمك؟ وما صناعتك؟ وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟

فقال لها: اسمي علي شار، وأنا من أولاد التجار، وبلدي خراسان وسبب مجيئي إلى هذه المدينة أني أبحث عن جارية فقدتها، وكانت عندي أعز من سمعي وبصري، وروحي متعلقة بها. ثم بكى حتى أغمي عليه، فأمرت أن يرشوا وجهه بماء الورد حتى أفاق.

ثم قالت: عليّ بتخت الرمل والقلم النحاس، وضربت تخت رمل تأملت فيه ساعة ثم قالت له: صدقت في كلامك، وسيجمع الله شملك بمحبوبتك قريبا فلا تقلق.

ثم أمرت الحاجب بأن يمضي به إلى الحمام، ويلبسه بذلة حسنة من ثياب الملوك، ويركبه فرساً من خواص خيل الملك، ثم يحضره إلى القصر آخر النهار. فقال الحاجب: سمعاً وطاعة. وتوجه به لتنفيذ الأمر، فقال بعض الناس: ما بال السلطان لاطف هذا الغلام هذه الملاطفة؟ وقال بعضهم: قد توقعت أنه لا يسيئه لأن شكله حسن، ولذلك صبر عليه لما شبع. وصار كل واحد منهم يقول مقالة.

ثم تفرق الناس وما كاد الليل يقبل حتى أوت زمرد إلى مخدعها متظاهرة بأن النوم غلب عليها، ولم يكن لها عادة أن ينام عندها غير خادمين صغيرين، فلما استقرت في مخدعها أرسلت إلى علي شار، وأجلسته على السرير والشمع يضيء فوق رأسها وتحت رجليها، والتعاليق الذهب مشرقة في مخدعها.

لما سمع الناس بإرسالها إليه، تعجبوا من ذلك، وصار كل واحد منهم يظن ظناً ويقول مقالة، ثم سألته: هل ذهبت إلى الحمام؟ أجاب: نعم يا مولاي. قالت: كل من هذا الدجاج واللحم، واشرب من هذا الشراب الحلو، فإنك تعبان، وبعد ذلك نتحدث. فقال: سمعاً وطاعة... ثم فعل ما أمرته.

ولما كانت الليلة الخامسة والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن زمرد التفتتْ إلى سيدها علي شار وضحكت وقالت له: هل بعد هذا كله ما عرفتني؟ فقال لها: بل أعرف يا مولاي أنك ملك هذه المدينة. فضحكت وقالت له: نعم، ولكني أيضاً جاريتك زمرد. فلما سمع ذلك انقض عليها واحتضنها وأخذ يبكي من الفرح.

ولما أصبحت زمرد، أرسلت إلى قواد العسكر وأرباب الدولة وأحضرتهم وقالت لهم: أريد أن أسافر إلى بلاد هذا الرجل، فاختاروا لكم نائباً يحكم بينكم حتى أعود إليكم، فأجابوا بالسمع والطاعة. ثم خرجت من المدينة، ولم تزل مسافرة إلى أن وصلت مع علي شار إلى منزله، فأعطى وتصدق ووهب، ورزق منها الأولاد، وعاشا في أحسن المسرات، إلى أن أتاهما هازم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان الباقي بلا زوال والحمد لله على كل حال. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد