منذ تخرجه في كلية التجارة بجامعة القاهرة، راح «هشام» يبحث عن وظيفة، داخ الشاب المكافح «السبع دوخات»، لم يترك إعلاناً عن وظيفة خالية إلا وتقدم إليها. لكن طلبه كان يواجه بالرفض، فيعود إلى منزل أسرته مهموماً حزيناً يلعن الأحوال الاقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد، وأمضى معظم أوقاته في لعب الطاولة في المقهى بانتظار فرصة عمل أو ضربة حظ.

كانت متعة «هشام» أن يمضي الساعات في تأمل وجوه زبائن المقهى، كانوا في غالبيتهم من الشباب العاطلين عن العمل مثله، أدرك أن أزمته ليست حالة فردية، وأن الجميع يعاني. ورغم عدم اهتمامه بالأوضاع السياسية، فإنه نقم على أحوال البلد وحلم بمغادرته إلى أي مكان آخر، ولكن إمكاناته المادية المحدودة حالت دون تحقيق حلمه، فضلاً عن عدم امتلاكه الجرأة في اتخاذ القرار بمغادرة البلاد عن طريق الهجرة غير الشرعية، لا سيما بعد حوادث الغرق المتعددة التي ملأت الصحف.

Ad

رغم صعوبة الفكرة حاول بعض الأصدقاء إقناعه بالمشاركة معهم في السفر عن طريق الهجرة غير الشرعية، مركب صغير وساعات قليلة في عرض البحر وبعدها تستقبلك أوروبا استقبال الفاتحين، كان صعباً على «هشام» أن يدفع كل ما يملك وتملك أسرته ليلقى حتفه غرقاً في عرض البحر مثلما حدث مع آلاف الشباب، رأى أن يحتفظ بحياته أفضل، ظل جالساً في مكانه داخل مقهى العاطلين، حتى جاء اليوم الذي غير مجرى حياة الشاب تماماً.

عروس جميلة ووظيفة محترمة براتب كبير، هكذا كان العرض الذي تلقاه «هشام» من أحد معارفه. لم يصدق نفسه، لم يكن العرض مغرياً فحسب بل حلم وفرصة يستحيل أن تتكرر لشاب حديث التخرج لا يملك إلا شهادته. جلس وعلامات الدهشة ترتسم على وجهه، وراح يستمع إلى هذا العرض الخيالي.

في تفاصيل العرض، أن العروس «ريم» تعمل في إحدى شركات الطيران العربية، كمضيفة جوية وتقيم مع والديها في إحدى دول الخليج. أما الوظيفة فهي العمل كمحاسب في أحد البنوك الشهيرة في الدولة الخليجية نفسها، والراتب مغر جداً، ربما يصل إلى 20 ألف جنيه شهرياً، الشرط الوحيد في هذا العرض الزواج والسفر خلال أسبوع لتتسلم «ريم» وظيفتها في شركة الطيران، ويستلم العريس وظيفته في البنك.

لم يفكر «هشام»، صاح في فرحة قائلاً: «هي دي عاوزة تفكير... موافق طبعاً وبالثلاثة». وقبل أن يمر الأسبوع كان «هشام» قد عقد قرانه على «ريم»، وطار معها على أول طائرة ليتسلم كل منهما وظيفته الجديدة، ويبدأ الحياة الجديدة. ودّع أيام البطالة وطوى صفحتها مستعداً للمرحلة الجديدة من حياته.

حياة جديدة

كانت السعادة عنواناً عريضاً لحياة «هشام» وعروسه الجميلة «ريم» في الغربة، في البيت السعيد الذي جمعهما لم تكن ثمة خلافات أو حتى اختلافات تذكر بين الزوجين، بل عاملت «ريم» زوجها بودّ وكذلك عامله والداها اللذان كانا يقيمان معهما برقّة واحترام.

وفي عمله، عرف «هشام» النجاح بين زملائه، الذين كانوا يحبونه ويحترمونه، وبسرعة كون مع غالبيتهم صداقات متينة على المستوى الشخصي والعائلي. باختصار، كانت بدايات «هشام» في الدولة الخليجية أشبه بحلم جميل لا يريد أن يستيقظ منه، لدرجة أنه لم يعد يذكر حياته السابقة.

راح المحاسب الشاب يجتهد أكثر وأكثر في عمله، يجمع المال ويغدق به على زوجته الرقيقة، ويرسل الباقي إلى أهله في مصر، حتى أن كل قرش كسبه كان ينفقه بطيب خاطر، ما دفع زوجته «ريم» إلى تنبيهه بأن يمسك يده في المصاريف، ويوفر للمستقبل فلا أحد يستطيع أن يأمن مكر الأيام وغدرها. لكن «هشام» لم يستمع إلى كلام العقل ولم ينفذ نصيحة زوجته، فرغم عدم ثرائه في طفولته وصباه، فإنه كره جمع الأموال وكنزها. كان طفلا فريداً من نوعه يكره الحصالات على عكس أقرانه، وآمن بالمقولة الشعبية الخالدة: «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب».

مضت أشهر وتلقى «هشام» أسعد خبر في حياته، ثمة جنين يتحرك في أحشاء زوجته، وسيصبح أباً. طار من الفرحة، وليعبر لزوجته الجميلة عن شكره وامتنانه أهداها شقة باسمها في القاهرة. أرسل كل ما جمعه من مال إلى شقيقه الأكبر حتى يدفعه كمقدم لهذه الشقة، وأوصى بكتابة اسم زوجته في العقد كمالكة للشقة.

وفيما كان «هشام» ينتظر قدوم ابنه الأول على أحر من الجمر، وقبل موعد الولادة بشهر فوجئ بوالد زوجته يطلب منه الاستعداد للسفر مع «ريم» إلى الولايات المتحدة الأميركية. وعندما سأل حماه عن سر هذه الرحلة المفاجئة أخبره أن من الأفضل أن تضع «ريم» المولود هناك ليحصل الطفل على الجنسية الأميركية. لم يجادل «هشام» أو يناقش كثيراً، بعدما علم أن لزوجته الرأي نفسه، وتفضل أن يحصل وليدهما على جنسية الدولة الأعظم في وقتنا الحالي.

لم تستغرق رحلة الولايات المتحدة الأميركية سوى ثلاثة أسابيع، وضعت «ريم» طفلاً جميلاً يشبه القمر، ودفع «هشام» تكاليف الرحلة وتكاليف الولادة في كبرى المستشفيات الأميركية، وبعدها عاد الزوجان ووالدا الزوجة إلى الدولة الخليجية. نال الضيف الجديد على الأسرة اهتمام والده، الذي خصص معظم راتبه لشراء ملابس ولعب له، بينما احتفظت «ريم» براتبها الكبير من دون أن تمسه أو تساهم في مصروف البيت. كانت تودعه في رصيدها بالبنك أولا بأول.

تغير مفاجئ

مع الأيام انسحبت السعادة من حياة «هشام» وزوجته «ريم»، لا سيما بعدما لاحظ الزوج أن اهتمام زوجته بصغيرهما بدأ يقل، وسلمت أمر تربيته إلى أمها المسنة، وراحت تعطي كل وقتها لعملها. أهملت بيتها وزوجها ورضيعها. أصبحت تغيب لفترات طويلة خارج المنزل من دون إذن زوجها، الذي اعتاد أن يعود إلى المنزل فلا يجدها.

في البداية، تحمل «هشام» إهمال زوجته له ولرضيعهما، تسلل بعض الأفكار السوداء إلى رأسه، لكنه سرعان ما أبعدها. تقرّب من زوجته أكثر ليعيدها إليه كسابق عهدهما، ولكن «ريم» لم تستجب لرغبة زوجها، واستمرت في إهماله ووليدها. هنا شعر «هشام» بأنه أصبح بالنسبة إلى زوجته وأهلها مجرد حافظة نقود لا أكثر ولا أقل، فلم تكن «ريم» تتحدث إليه إلا عندما تحتاج إلى المال. رفض أسلوب زوجته، وقرر أن يجاهر بالحزن والغضب تجاه تصرفاتها وأسرتها.

ذات يوم فوجئ «هشام» بزوجته تستعد لمغادرة المنزل في ساعة متأخرة، استوقفها وسألها في غضب:

- على فين يا هانم؟

جاء رد «ريم» جافاً وحاسماً، قالت في حدة:

* وأنت مالك؟

فوجئ «هشام» بالردّ وتشاجر معها للمرة الأولى، فغضبت «ريم» وراحت تشكو لوالديها اللذين حضرا بسرعة البرق وجلس والد «ريم» الغاضب مع «هشام»، وراح يوبخه ويعنفه ويسأل كيف تجرأ وأغضب ابنته الوحيدة؟

رد «هشام» منفعلاً:

- دي مراتي وأنا حرّ. أكلمها بالطريقة اللي تعجبني.

كانت هذه الجملة التي خرجت من فم «هشام» في لحظة غضب بمثابة «القشة التي قصمت ظهر البعير»، إذ فتح والد «ريم» عليه أبواب الجحيم، وراح يعنفه بشدة ويذكره بأفضاله وأفضال ابنته عليه، وكيف أن هذه الزيجة التي لم يكن يحلم بها انتشلته من الحضيض والفقر والضياع وجعلت منه رجلاً محترماً يكسب آلاف الجنيهات شهرياً.

كانت ليلة عاصفة بحق جلس «هشام» يستمع مذهولاً إلى إهانته على يد حماه. لم يصدق أن هذا الرجل هو حماه الطيب الذي كان يعامله كوالده، ولا هذه زوجته الرقيقة التي كانت تخاف عليه، ودائماً تنصحه في أمور حياته.

قضايا متبادلة
لم يحتمل «هشام» سماع المزيد من الإهانات الموجهة إليه، غلت الدماء في عروقه، قال في نفسه ما قيمة الحياة من دون عزة نفس وكرامة، اتخذ قراراً حاسماً بينه وبين نفسه، ونفذه على الفور. قفز من مكانه وانطلق إلى غرفة نومه، حزم حقائبه وقرر الهروب من زوجته ووالديها الذين انقلبوا عليه وسقطت أقنعتهم ليظهروا على حقيقتهم، والعودة إلى مصر مضحياً بكل شيء، الولد والزوجة والوظيفة لأجل كرامته.

لم يكن «هشام» ينوي الهروب إلى الأبد. كل ما جال بخاطره وقتها أن يؤدب زوجته ووالديها، ويحرمهم من نهر المال الذي يغدق به عليهم حتى يعرفوا قيمة وجوده معهم. كم كانت حساباته خاطئة، لم يتوقع ردة الفعل العنيفة من زوجته ووالديها، لم يسألا عليه حتى بالهاتف، أهملوه تماماً وكان مستحيلاً أن يعود إليهم مجدداً. منعته كرامته من العودة، لأن رجوعه يعني انكساره أمام زوجته وأهلها.

بعد سنوات من الابتعاد، تلقى «هشام» اتصالاً هاتفياً من أحد أصدقائه في الدولة الخليجية، يخبره أن زوجته «ريم» أقامت دعوى قضائية تطلب فيها «الطلاق» أمام إحدى المحاكم الابتدائية في الدولة الخليجية، وقضت المحكمة بتطليقها فعلاً. عقدت المفاجأة لسان «هشام». كانت الصدمة قاسية عليه لذلك وجه إنذاراً بالطاعة لزوجته أمام محكمة الجيزة للأحوال الشخصية، فما كان من «ريم» إلا أن أرسلت نص حكم التطليق الذي صدر لصالحها في الدولة الخليجية حتى يتم توثيقه بالمحاكم المصرية، واستأنف «هشام» ضد حكم التطليق، وقضت محكمة الاستئناف برفض الطلاق.

كانت الحرب التي دارت بين «هشام» و«ريم» في ساحات المحاكم المصرية والخليجية طويلة ومريرة، وعندما كسب «هشام» جولة رفض الطلاق اعتقد أنها ستكون الجولة الأخيرة، وأن زوجته سترضخ له، ولكن «ريم» رفضت رفع الراية البيضاء والاستسلام، بل على العكس عاندت أكثر وأقامت دعوى «خلع» أمام محكمة الجيزة للأسرة، وألحقت بها دعوى نفقة لصغيرها عن سنوات دراسته في إحدى المدارس في الدولة الخليجية، وطالبت «هشام» بدفع مبلغ 100 ألف جنيه عن ثلاث سنوات دراسية.

وأمام المحكمة قدمت «ريم» ما يفيد بأن زوجها لم يدفع لها سوى جنيه عند زواجهما كمقدم صداق، وأضافت في دعواها أن «هشام» ميسور الحال ويملك مع أقاربه في القاهرة محلين لبيع الحلوى، لتقضي المحكمة بتطليق الزوجة خلعا، وإلزام الزوج بدفع نفقة شهرية لابنه قدرها ألف جنيه، ودفع متجمد نفقة 50 ألف جنيه عن سنوات دراسة الصغير في المدرسة. كانت تريد بعدما طردته من جنة حياته في الدولة الخليجية، أن تدمره وتجعله حطام رجل.

يوم صدور الحكم، تلقى «هشام» ضربة أخرى، اتصلت به «ريم» وأخبرته أن الحرب لم تنته عند هذا الحد، وأنها لن ترتاح إلا عندما تراه سجينا خلف القضبان، وعليه أن ينسى ابنه مدى الحياة لأنها أخبرت صغيرهما أن والده مات، وأغلقت الخط وضحكاتها الساخرة ترن في أذن طليقها الذي وجد نفسه مهزوما هزيمة ساحقة، ومطالباً بدفع مبالغ طائلة لا طاقة له بها، بعد عجزه عن كسب المال إثر مغادرته الدولة الخليجية، وتركه وظيفته التي كانت تدر عليه دخلا كبيرا منذ سنوات.

لم يكن أمام «هشام» سوى أن يستأنف الحكم، عله يخفف المستحقات المالية لصالح طليقته، قدم للمحكمة مستندات تفيد بأن دخله الشهري لا يتجاوز ألف جنيه، وأنه أصبح عاطلاً عن العمل الآن، وأن هذا المبلغ نظير حصته في محلي الحلويات كونه شريكاً مع سبعة أشقاء، ولا يملك أي عقارات أو ممتلكات أخرى.

أعتقد «هشام» أن المحكمة ستقف إلى صفه، وتنظر بعين العطف إلى ظروفه، لكنه لم يعلم أن طليقته «ريم» تعد له الضربة القاضية في مفاجأة غير متوقعة، إذ قدم محاميها صورة من عقد الوظيفة التي كان يشغلها «هشام» في الدولة الخليجية براتب يصل إلى 20 ألف جنيه شهرياً، لتقضي المحكمة برفض الاستئناف الذي قدمه المحاسب «هشام»، وتأييد حكم محكمة أول درجة.

خرج «هشام» من قاعة المحكمة يجر أذيال الخيبة والحسرة، والدموع تملأ عينيه، بعدما طردته مطلقته «ريم» من جنتها، ليصبح مطارداً وينتظر بين لحظة وأخرى إلقاء القبض عليه ليمضي ما تبقى له من عمر خلف القضبان، لأنه لن يقوى على دفع المبلغ المطلوب منه. حتى الشقة التي اشتراها بماله الخاص وقع في خطأ قاتل وكتبها باسم من حطمت حياته. أما الألم الأكبر الذي لن تداويه الأيام فهو فقدانه أي أمل في رؤية ابنه الوحيد، بعدما قررت «ريم» حرمانه منه عقاباً له على رفع راية العصيان في وجهها وأسرتها من خلفها.