قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أنه يحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرّق ليلة من الليالي، وتعذر عليه النوم، ولم يزل ينقلب من جنب إلى جنب لشدة أرقه، فلما أعياه ذلك أحضر مسروراً، وقال له: انظر لي من يسليني. فقال له: يا مولاي هل لك أن تدخل البستان الذي في الدار، وتتفرج على ما فيه من الأزهار، وتنظر إلى الكواكب وحسن ترصيعها، والقمر بينها مشرق على المياه؟ فقال له: إن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك.

فقال مسرور: يا مولاي إن في قصرك ثلاثمئة سريّة، ولكل سرية مقصورة، فأمر كل واحدة أن تختلي في مقصورتها، ثم اختر من شئت للسهر عندها. فردّ الخليفة: القصر قصري، والجواري ملكي، غير أن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك. فقال مسرور: إذن يا مولاي مر العلماء والحكماء والشعراء أن يحضروا بين يديك، ويفيضوا في المباحث وينشدوا لك الأشعار، ويقصوا عليك الحكايات والأخبار.

Ad

فقال: لا تهفو نفسي إلى شيء من ذلك. قال: مر الغلمان والندماء والظرفاء أن يحضروا بين يديك ويتحفوك بغريب النكات. قال: ما تهفو نفسي إلى شيء من ذلك. فقال مسرور: لم يبق يا مولاي إلا أن تضرب عنقي.

لما كانت الليلة السادسة والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن مسروراً لما قال للخليفة، إنه لم يبق إلا أن تضرب عنقي ليزول أرقك ويذهب القلق عنك، ضحك الرشيد من قوله وقال له: يا مسرور انظر مَن بالباب من الندماء. فخرج مسرور ثم عاد وقال: يا مولاي بالباب علي بن منصور الخليع الدمشقي. فقال: عليّ به، فذهب وأتى به، فلما دخل وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. رد عليه السلام وقال: يا ابن منصور، عليّ بشيء من أخبارك. فقال: يا أمير المؤمنين هل أحدثك بشيء رأيته عياناً أو سمعت به؟ فقال: إن كنت عاينت شيئاً غريباً فحدثنا به، فإنه ليس الخبر كالعيان. فقال: سمعاً وطاعة...

كان لي في كل سنة مال آخذه من الأمير محمد بن سليمان الهاشمي، "والي البصرة”، فمضيتُ إليه على عادتي لآخذ ذلك المال، فلما وصلتُ إليه وجدته متهيئاً للركوب إلى الصيد والقنص، فسلمت عليه وسلم عليّ وقال: يا ابن منصور اركب معنا إلى الصيد. فقلت له: مالي قدرة على الركوب، فأجلسني في دار الضيافة وأوصى بي الحُجّاب والنواب، ثم توجّه إلى الصيد فأكرموني غاية الإكرام.

ثم قلت لنفسي: لي مدة أحضر من بغداد إلى البصرة، ولم أتفرّج على أسواقها، فلماذا لا أنتهز هذه الفرصة للفرجة على جهاتها، فأقوم في هذه الساعة وأتمشى وحدي حتى يُهضم الأكل. ثم لبستُ أفخر ثيابي، وتمشيت في جهات البصرة، وأنت تعلم يا أمير المؤمنين أن فيها سبعين درباً، طول كل درب سبعون فرسخاً، فتهت في أزقتها، وشعرت بالعطش، ونظرت أمامي فوجدت باباً كبيراً له حلقتان من نحاس أصفر، عليه ستور من الديباج الأحمر، وفي جانبيه مصطبتان، وفوقه مكعب لدوالي العنب، وفيما أنا أتفرّج عليه، سمعت صوتَ أنين، صادر عن قلبٍ حَزين، يقلب النغمات، وينشد هذه الأبيات:

بالله ربكما عوجا على سكني

وعاتباه لعل العتب يعطــــــــــفه

وعرضا بي وقولا في حديثكما:

ما بال عبدك بالهجران تتلفــــــه؟

فإن تبسم قولاً في ملاطــــــفة:

ما ضرّ لو بوصال منك تســعفه؟

وإن بدا لكما في وجهه عبس

فغالطاه وقولا: ليس نعـــــــرفه

فقلت في نفسي: إن كان صاحب هذه النغمة مليحاً، فقد جمع بين الملاحة والفصاحة وحسن الصوت، ثم دنوت من الباب وجعلت أرفع الستر قليلا قليلاً، وإذا بجارية بيضاء كأنها البدر ليلة 14، بحاجبين مقرونين، وجفنين ناعسين، ونهدين كرمانتين، ولها شفتان رقيقتان كأنهما أقحوانتان، وفم كأنه خاتم سليمان ونضيد أسنان يلعب بعقل الناظم والناثر، كما قال فيه الشاعر:

يا در ثغر حبيبي

كُن بالعقيقِ رحيمــاً

ولا تعض عليـه

ألم يجدك يتيمـــــاً؟

وبينما أنا أنظر من خلال الستار، حانت منها التفاتة فرأتني واقفاً على الباب، فقالت لجاريتها: انظري مَن بالباب. فقامت الجارية وأتت إليّ وقالت: يا شيخ أليس عندك حياء؟ وكيف تجمع بين شيب وعيب؟ فقلت لها: يا سيدتي أما الشيب فقد عرفناه، وأما العيب فما أظن أني أتيت بعيب. فقالت لي سيدتها: أي عيب أكثر من تهجمك على دار غير دارك، ونظرك إلى حريم غير حريمك؟ فقلت لها: يا سيدتي إن لي عذراً في ذلك، فقالت: وما عذرك؟ فقلت لها: أنا رجل غريب عطشان وقد قتلني العطش. فقالت: قبلنا عذرك.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

عاشقة مفارقة

لما كانت الليلة السابعة والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية صاحبة الدار، نادت إحدى جواريها وقالت لها: يا لطف، اسقيه شربة بالكوز الذهب، فجاءته الجارية لطف بكوز من الذهب الأحمر، مرصَّع بالدر والجوهر، وفيه ماء ممزوج بالمسك الأذفر، وهو مغطى بمنديلٍ من الحرير الأخضر.

قال الخليع الدمشقي: جعلت أشرب وأطيل في شربي، وأنا أسرق النظر إلى الجارية صاحبة الدار، فلما طال وقوفي، قالت لي: يا شيخ امض إلى سبيلك. فقلت لها: يا سيدتي أنا مشغول الفكر بتقلب الزمان وما رأيت من عجائبه، وقد كان صاحب هذه الدار صديقي في حياته، واسمه محمد بن علي الجوهري، وكان ذا مال جزيل، فهل خلف أولاداً؟ قالت: نعم خلف بنتاً يقال لها بدور، وقد ورثت أمواله جميعاً، فقلت لها: كأنك ابنته؟ قالت: نعم، وضحكت ثم قالت: يا شيخ قد أطلت الخطاب فاذهب، فقلت لها: لا بد من الذهاب، ولكني أرى محاسنك متغيرة فأخبريني بسرّك لعل الله يجعل على يدي فرجاً.

 فقالت لي: يا شيخ إن كنتَ من أهل الأسرار كشفنا لك سرّنا، فأخبرني من تكون حتى أعرف أأنت محل للسر أم لا؟ فقلت لها: يا سيدتي، أنا علي بن منصور الخليع الدمشقي، نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد.

لما سمعَت باسمي، قامت عن كرسّيها وسلمت عليّ وقالت لي: مرحباً يا ابن منصور، الآن أخبرك بحالي، وأستأمنك على سري، أنا عاشقة مفارقة، فقلت لها: يا سيدتي أنت مليحة، وما تعشقين إلا كل مليح، فمن الذي تعشقينه؟ قالت: "أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان”. فقلت لها: أنعم به من شاب ليس بالبصرة أحسن منه، وهل جرت بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم... إلا أنه قد عشقنا باللسان لا بالقلب والجنان، لأنه لم يف بوعد، ولم يُحافظ على عهد. فقلت لها: ما سبب الفراق؟ قالت: سببه أنني كنت يوماً جالسة، وجاريتي هذه تسرّح شعري، فلما فرغت من تسريحهِ جدلتُ ذوائبي فأعجبَها حسني وجمالي فطأطأت وقبلت خدي.

واتفق أن دخل جبير في تلك اللحظة على غفلة، فلما رأى الجارية تقبل خدي غضب، عازماً على دوام البين، ومنذ ذلك الحين لم يأتنا من عنده خبر، فقلت لها: فما تريدين؟ قالت: أريد أن أرسل معك كتاباً، فإن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمئة دينار.

وإن لم تأتني بجوابه فلك حق مشيك مئة دينار، فقلت لها: افعلي ما بدا لك، ثم قالت لإحدى جواريها: أئتني بدواة وقرطاس، ثم كتبت هذه الأبيات:

حبيب ما هذا التباعد والقلـــى

فأين التغاضي بيننا والتعــــــــطُفُ

ومالك بالهجران عني معرضاً  

فما وجهك الوجه الذي كنتُ أعرفُ

نعم نقل الواشون عني باطــلاً  

فملتَ لما قالوا فزادوا وأســـــــرفوا

فإن كان قولاً صحَّ أنّي قلتـــه

فحاشاكَ من هذا ورأيُــــــك أعرفُ

بعيشك قل لي: ما الذي قد سمـعته

فإنك تدري ما يقال وتنصــــفُ

فإن كان قولا صح أني قلته

فللقول تأويل وللقيل مصرف

وهَبْ أنه قول من الله منزّل  

فقد بدّل التوراة قومٌ وحرّفوا

وها أنا والواشي وأنت جميعنا  

يكون لنا يومٌ عظيمٌ وموقفُ

ثم بعد ذلك ختمت الكتاب وناولتني إياه، فأخذته ومضيتُ إلى دار جبير بن عمير الشيباني، فوجدته في الصيد، فجلستُ أنتظره حتى أقبل، فلما رأيته على فرسه ذُهل عقلي من حسنه وجماله، ورآني هو جالسا بباب داره فنزل عن جواده وأتى إليّ وعانقني وسلم عليّ، فخيل لي أني عانقت الدنيا وما فيها، ثم دخل بي إلى داره وأجلسني على فراشه، وأمر بتقديم المائدة، فقدموا مائدة من الخولنج الخراساني، قوائمها من الذهب، وعليها من جميع الأطعمة وأنواع اللحم من المقلي والمشوي وغيرهما.

قلوب العاشقين

لما كانت الليلة الثامنة والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن علي بن منصور قال: لما جلست على مائدة جبير بن عمير الشيباني، أمعنت إليها الالتفات، فوجدت مكتوباً عليها هذين البيتين:

عج بالغرانيق في ربع الصكاريج  

وانزل بحي القلايا والسكابيج

واندب بنات القطا ما زلت أندبها  

مع المحمر في وسط الفراريج

ثم إن جبير بن عمير قال لي: مد يدك إلى طعامنا وأجبر خاطرنا بأكل زادنا، فقلت له: والله ما آكل من طعامك لقمة حتى تقضي حاجتي، قال: فما حاجتك؟ فأخرجت له الكتاب، فلما قرأه وفهم ما فيه، مزقه ورماه على الأرض وقال لي: يا ابن منصور مهما كان لك من الحوائج قضيناه إلا هذه الحاجة التي تتعلق بصاحبة هذا الكتاب، فإن كتابها ليس له عندي جواب.

فقمتُ من عنده غضبان، فتعلق بأذيالي وقال لي: يا ابن منصور أنا أخبرك بالذي قالته لك، وإن لم أكن حاضراً معكما. فقلت له: ما الذي قالته لي؟ قال: قالت لك إن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمئة دينار، وإن لم تأتني بجوابه فلك عندي حق مشيك مئة دينار. قلت: نعم هذا ما قالته. فقال لي: اجلس عندي اليوم، كل واشرب، وتلذذ واطرب، ثم خذ خمسمئة دينار. فجلست عنده وأكلت وشربت، ثم سألته: يا سيدي أما في دارك سماع؟ قال لي: إن لنا مدة نشرب من غير سماع، ثم نادى إحدى جواريه وقال: يا شجرة الدر، فأجابته جارية من مقصورتها، في يدها عود من صنع الهنود، ملفوف في كيس الأبرسيم، ثم جاءت وجلست ووضعت العود في حجرها وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة، ثم عادت إلى الطريقة الأولى فأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:

من لم يذق حلو الغرام ومرّه    

لم يدر وصل حبيبه من هجره

ما زلت معترضاً على أهل الـ

... هوى حتى بُليت بحلوه وبمُــرّهِ

وشربتُ كأسَ مراره مُتجرّعاً

وخضعتُ فيه لعبــدِهِ ولحُــــرّهِ

كم ليلة باتَ الحبيبُ منادمــي

ورَشَفتُ حُلو رضابِهِ من ثَغرهِ

ما كان أقْصِرَ عُمر ليلِ وصالنا

قد جاء وقتُ عشائـــــــــــهِ مع فَجرِهِ

نذر الزمان بأن يفرِّق شملنـــــا

والآن قد أوفــــى الزمـــــانُ بنــــذرِهِ

حكم الزمان فلا مَردّ لحكمــــهِ

من ذا يُعارض سيّداً في أمـــــــــــرِهِ؟

لما فرغت الجارية من شعرِها، صرخَ سيدُها صرخةً عظيمةً ووقع مغشياً عليه، فقالت لي الجارية: أيها الشيخ إن لنا مدَّة ونحن نشرب من غير سماع، مخافة على سيدنا من مثل هذه الصرخة، ولكن اذهب إلى تلك المقصورة ونَم فيها. فتوجّهت إلى المقصورة التي أشارت إليها، ونمت فيها إلى الصباح، وإذا بغُلام أتى بكيسٍ فيه خمسمئة دينار، وقال: هذا الذي وعدك به سيدي، فلا تعد إلى الجارية التي أرسلتك. فقلت: سمعاً وطاعة. ثم أخذت الكيس ومضيت في سبيلي، وقلت لنفسي: إن الجارية في انتظاري منذ أمس، ولا بد لي من الرجوع إليها وأخبرها بما جرى بيني وبينه، لأنني إن لم أعد إليها ربما تشتمني وتشتم كل أهل بلادي.

مضيت إليها ووجدتها واقفة خلف الباب، فقالت لي: يا ابن منصور إنك ما قضيت لي حاجة. فقلت لها: من أعلمك بهذا. فقالت: إن معي مكاشفة أخرى، وهي أنك لما ناولته الورقة مزقها ورماها، وقال لك: مهما كان لك من الحوائج قضيناه لك إلا حاجة صاحبة هذه الورقة، فإنها ليس لها عندي جواب. وروت لي كل ما وقع لي عنده من أوله إلى آخره، فقلت لها: كأنك والله كنت معناً؟ فقالت لي: يا ابن منصور أما سمعت قول الشاعر:

قلوب العاشقين لها عيون

ترى ما لا يراه الناظرون

محبة «بدور»
لما كانت الليلة التاسعة والخمسون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أنّ علي بن منصور قال للرشيد: ثم قالت لي الجارية: ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلا غيَّراه. ثم رفعت طرفها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي ومولاي، كما ابتليتني بمحبة جبير بن عمير أسألك أن تبتليه بمحبتي، وأن تنقل المحبة من قلبي إلى قلبه. ثم أعطتني مئة دينار، فأخذتها ومضيت إلى والي البصرة، فوجدته جاء من الصيد وأخذت منه المال المعتاد ورجعتُ إلى بغداد.

لما أقبلت السنة الثانية، توجَّهت إلى مدينة البصرة، وحصلت من الوالي على العطاء السنوي، ثم أردت الرجوع إلى بغداد، فتذكرت أمر الجارية بدور، وقلت: والله لا بد أن أذهب إليها وأنظر ما جرى بينها وبين صاحبها.

لما توجّهت إلى دارها، وجدت هناك خدماً وحشماً وغلماناً، فقلت: لعل الجارية ماتت ونزل في دارها أمير من الأمراء، فتركتها ورجعت إلى دار جبير بن عمير الشيباني فوجدت مصاطبها قد هُدمت، ولم أجد على بابه غلماناً مثل العادة، فقلت لنفسي: لعله مات. ثم وقفت على باب داره وجعلت أفيض العبرات، وأندبه بهذه الأبيات:

يا سادة رحلوا والقلب يتبعُهم

عودوا تعُد لي أعيـــــادي بعودِكم

وقفت في داركم أنعي مساكن

كُم والدمع يدفق والأجفان تلتـطمُ

أسائل الدار والأطلال باكية

أين الذي كان منه الجود والنعــمُ؟

أقصد سبيلك فالأحباب قد رحلوا

من الربوع وتحت التراب قد ردموا

لا أوحش الله من رؤيا محاسنهم

طولاً وعرضاً ولا غابت لهم شيـم

ثم قال علي ابن منصور للخليفة هارون الرشيد: وبينما أنا أندب أهل الدار يا أمير المؤمنين، إذا بعبد أسود قد خرج عليّ من الدار وقال لي: اسكت ثكلتك أمك، مالي أراك تندب هذه الدار بهذه الأبيات؟ فقلت له: كنتُ أعهدَها لصديق من أصدقائي. فقال: ما اسمه؟ فقلت: جبير بن عمير الشيباني. قال: وأي شيء جرى له؟ إنه على حاله من الغنى والسعادة، ولكن الله ابتلاه بمحبة جارية يقال لها بدور، وهو من محبتها في شدة الوجد مغمور، وقد رقد في الدار كالحجر الجلمود، فإن جاع لا يقول أطعموني، وإن عطش لا يقول اسقوني. فقلت: استأذن لي في الدخول عليه. فقال: يا سيدي لا فائدة من مقابلته لأنه لا يعي شيئاً مما تقوله له.

فقلت: لا بد من أن أدخل إليه على كل حال. فدخل الدار مستأذناً، ثم عاد فأدخلني على سيده، فوجدته كالحجر الطريح، لا يفهم بإشارة ولا بصريح، وكلمته فلم يكلمني، ثم قال لي بعض أتباعه: إنْ كنتَ تحفظ شيئاً من الشعر فأنشده إياه وارفع صوتك به فإنه ينتبه لذلك ويخاطبك، فأنشدت هذين البيتين:

أسلوتَ حبّك أم له تتجلّـــــــــد

وسهرتَ ليلك أم جفونك ترقدُ

إن كان دمعك سائلاً من حبها

فاعلم بأنك في الجنان مُخــَــلد

لما سمع هذا الشعر، فتح عينيه وقال لي: مرحباً يا ابن منصور، قد صار الهزل جداً. فقلت له: يا سيدي ألك بي حاجة؟ قال: نعم أريد أن أكتب لها ورقة وأرسلها معك إليها، فإن أتيتني بجوابها فلك عليّ ألف دينار، وإن لم تأتني بجوابها فلك عني حق مشيك مئة دينار. فقلت له: أفعل ما بدا لك.

لما كانت الليلة الستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن جبير الشيباني دعا إحدى جواريه وقال لها: أتني بدواة وقرطاس. فلما أتته بهما كتب هذه الأبيات:

سألتكم بالله يا سادتي مــهلاً عليّ

فإن الحب لم يُبـــقِ لي عقـلا

لقد كنتُ قبلَ اليوم أستصغر الهوى

وأحسبه يا سادتي هيناً سهلا

فلما أراني الحب أمواجَ بحرِهِ

رجعت لحكم الله أعـذر من يبلي

فإن شئتم أن ترحموني بوصلكم

وإن شئتم قتلي فما أحسن القتلا

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد