«يوسف» أحد أبناء الطبقة المخملية، يطلق عليه في مصر مصطلح «ابن ناس». كان وحيد والديه، لذلك عاش مدللاً طلباته مجابة منذ نعومة أظفاره. لم يعتد سماع كلمة «لا»، فالوالدان علماه أن يأمر فيطاع، يشير بأصبعه إلى لعبة فيتسابق الجميع على شرائها له، خصوصاً أن والده كان واحداً من أكبر تجار الرخام في مصر. أما والدته فكانت ربة منزل قررت أن تجعل كل همها أن ترعى وحيدها، الذي رزقت به بعد سنوات من المعاناة والعلاج.

مع أقرانه في سن الطفولة، كان «يوسف» الزعيم. من يختار اللعبة التي سيلعبونها، وعلى الأصدقاء السمع والطاعة، ومن يعترض أو يرفض فهذا يعني طرده من المكان، وعدم اللعب مع «يوسف» وشلته مرة أخرى. وفي المدرسة، عرف كيف يحفر مكانة خاصة كأحد أكثر التلامذة مشاغبة، فيما سيطر تماماً على زملائه، ولم يكن أحد منهم يستطيع عمل شيء إلا بإذن منه. كان يقود عمليات «الزوغان» من الحصص المدرسية، ولم يكن يحق لأي من أتباعه الاعتراض.

Ad

في المرحلة الثانوية، بات واضحاً للجميع أن «يوسف» لن يتمكن من الحصول على شهادة الثانوية العامة، ودخول الجامعة، ليس لعدم ذكائه ولكن لعدم رغبته في استذكار دروسه. عقله كان مبرمجاً بالكامل على اللعب والسهر مع الأصدقاء. لكن رغبته في عدم استكمال دراسته تلاقت مع رغبة والده الذي شعر بدنو أجله مع تدهور حالته الصحية، فحاول جذب ابنه إلى عالم صناعة الرخام لعل وعسى يستطيع تعلم كيفية إدارة مصنع الوالد، الذي سرعان ما رحل بعد أشهر قليلة، تاركاً لابنه مصنع الرخام ورصيداً في البنك يقدر بالملايين.

كما هو متوقع، لم يفلح «يوسف» في إدارة تجارة والده الراحل. تعلّم كيف ينفق المال الكثير لا أن يكسبه، التربية التي تلقاها أفسدته. يوماً وراء الآخر، عرف «يوسف» طريق الكباريهات والملاهي الليلية، وبدأت ثروته التي ورثها عن والده تتناقص بسرعة خرافية حتى ضاع مصنع الرخام الذي شيده والده بالتعب والعرق، وضاعت معه أمه التي أكلتها الحسرة، ماتت غير راضية عن تصرفات وحيدها.

رغم إعلان إفلاس «يوسف» فإنه لم يستطع مقاومة حياة اللهو والسهر. هو لم يعتد على الفقر وحياة التقشف، ولا أن يتعب حتى يكسب المال. لذلك كان كل من يسأل عنه لا يجده إلا في مكانين لا ثالث لهما، إما صالة سرية للعب القمار، وإما ملهى ليلي ينفق فيه ما قد يكسبه من لعب القمار. ولكن لأن مكاسب لعب القمار غير مضمونة لم يكن ممكناً أن يعتمد عليها بمفردها لكسب المال. جلس يفكر في وسيلة مضمونة لكسب المزيد من المال، ولم يجد أمامه سوى الحكمة القائلة «وراء كل نصاب... طماع».

قرر «يوسف» أن يلعب على نقاط ضعف البشر، وفعلاً بدأ في رسم خطة محكمة يصطاد بها ضحاياه. كانت خطته تعتمد في الأساس على استغلال شهوات ضحاياه، خصوصاً الشهوات الجنسية، لذلك كان عليه الاستعانة بأقرب صديقتين له في عالم اللهو والسهر «هويدا» و«حنان»، تعرف إليهما قبل سنوات وصارتا صديقتيه الحميمتين.

كانت «هويدا» تعمل كـ «ركلام» بأحد الملاهي الليلية، مهنة تقتصر على مجالسة السكارى في الملهى، وجر أرجلهم لإنفاق أموالهم سواء كنقوط للراقصة أو فتح أكبر عدد من زجاجات الخمر. أما «حنان» فبدأت كراقصة مغمورة في كباريهات الدرجة الثالثة، ولكن إصابة ألمت بها في قدمها أجبرتها على اعتزال الرقص والانتقال للعمل كـ «ركلام» أيضاً.

في المقابل أحبت «هويدا» و«حنان» «يوسف» بدرجة جنونية، أعجبتا بخفة ظله ومعاملته الرقيقة لهما، كانتا لا تستطيعان أن ترفضا له طلباً مهما كان، لذلك عندما فاتحهما «يوسف» في أمر خطته التي تتطلب مساعدتهما له رحبتا على الفور.

خطة ثلاثية

كانت خطة «يوسف» الجهنمية تعتمد في الأساس على اختيار وانتقاء الضحية من بين المترددين على الملاهي الليلية. كان يفضل أن يكون ضحيته ثريا ينفق ببذخ، وأن يكون رجلاً فوق سن الأربعين، وأن يكون متزوجاً ولديه أسرة، وأن يكون زائراً للبلاد سواء كان سائحاً عربياً أو أجنبياً. لذلك كانت مهمة اختيار الضحية من نصيبه. يتعرف إليه ويجلس معه إلى الطاولة في الملهى الليلي، ثم يعرض عليه انضمام فتاتين جميلتين إليهما لاستكمال السهرة معهما، وهنا يأتي دور «هويدا» و«حنان» اللتين تحضران باستدعاء هاتفي من «يوسف».

مهمة الفتاتين في الملهى الليلي جعل الضحية يشرب أكبر كمية ممكنة من الخمور، ثم عقب انتهاء البرنامج الاستعراضي بالملهى تعرضان عليه استكمال السهرة في المكان الذي يختاره الضحية حتى يشعراه بالأمان، وهنا ينسحب "يوسف” مغادراً بحجة أنه مرهق، ولا يمكنه شرب المزيد من الخمر، فيفرح الضحية بعدم وجود من يقاسمه العبث مع الفتاتين الجميلتين، ثم تأتي الخطوة الأخيرة بحيث تقوم إحداهما بدس منوم للضحية في الوقت الذي تشغله الأخرى، وبمجرد أن ينام تتولى الفتاتان سرقة كل ما خف وزنه وغلا ثمنه من شقته، ليتم تقاسم الغنيمة بعد ذلك مع "يوسف”.

وبدأ التنفيذ داخل أحد الملاهي الليلية. جلس "يوسف” والذي صار الآن في السادسة والثلاثين من عمره يتابع عن كثب رجلاً وسيماً وأنيقاً في الستين من العمر، وهو يجلس وحيداً ويتمايل بشدة على أنغام الموسيقى والسعادة ترتسم على قسمات وجهه. لحظات ولمعت عينا "يوسف” وزاد بريقهما عندما شاهد الرجل الأنيق يصعد إلى خشبة المسرح ويخرج من جيبه "رزمة” من الأوراق المالية، وينثرها فوق رأس الراقصة المغمورة التي كانت تؤدي فقرتها الاستعراضية، ثم عاد الرجل الأنيق إلى منضدته وراح يحتسي كاسات الخمر بشراهة.

وقتها قرر "يوسف” ألا يفلت هذا الصيد الثمين من بين يديه. اقترب من الرجل الأنيق، كثعلب ماكر بدأ ينسج فخه تمهيداً لسقوط الضحية، وهمس في أذنه ببعض الكلمات علت بعدها الدهشة ملامح الرجل الأنيق، وهتف في فرحة عارمة:

* طبعاً موافق... خلي السهرة تحلو.

عاد "يوسف” يهمس مجدداً في أذن الرجل الأنيق الذي زادت فرحته، وقال في سعادة بالغة:

* اتصل بيهم خليهم ييجوا بسرعة.

أمسك "يوسف” بهاتفه الجوال وراح يجري مكالمة لم تستغرق سوى دقيقة.

بعد نصف ساعة عرف "يوسف” كل شيء عن الرجل الأنيق. تبين أن اسمه "منير”، وهو مصري مهاجر إلى أميركا، ويأتي إلى القاهرة في زيارات قصيرة مع زوجته وابنه كلما دفعهم الحنين إلى الوطن. كان يأتي بحثاً عن الراحة ومتعة مختلسة من عوالم القاهرة السرية، لكن حظه أوقعه في مصيدة "يوسف”، الذي جلس يحدق في "منير” وبجواره "هويدا” و”حنان”.

تناول الجميع وجبة العشاء في الملهى الليلي، واحتسوا كاسات الخمر، وحرص "يوسف” والفتاتان على أن يظلوا في كامل وعيهم، بينما لعبت الخمر برأس "منير” بك، الذي أنفق ليلتها ما يزيد على 25 ألف جنيه، لتنتهي السهرة في الثالثة من صباح اليوم التالي. خرجوا جميعا من باب الملهى الليلي يتمايلون، وركبوا سيارة "منير” بك حتى يكملوا السهرة في شقته بالرحاب، ولكن فجأة تظاهر "يوسف” بعدم قدرته على استكمال السهرة بحجة إفراطه في شرب الخمر. ابتسم "منير” بك للشاب الذي أفسح له المجال حتى يفوز وحده بالجميلتين ليستكمل معهما السهرة.

السقوط في الفخ

انطلق "منير” بك بسيارته ومعه الفتاتان متوجهاً إلى بيته، كان يغبط نفسه على المتعة التي تنتظره. لكن في الطريق طلبت "هويدا” من "منير” بك التوقف أمام سوبر ماركت لشراء سجائر، وهبطت من السيارة وغابت بضع دقائق عادت بعدها ومعها علبة سجائر و6 علب عصير، ولم تمانع أن يدفع "منير” بك ثمن هذه الأشياء. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة والنصف صباحاً عندما وصل "منير” بك إلى شقته. جلس الثلاثة في صالة الشقة وتبادلوا الأحاديث الساخرة، وراحت "حنان” تداعب "منير” بك، وتشغله بينما كانت "هويدا” تدس له الأقراص المنومة في كوب العصير، والتي تناولها "منير” بك بكل سلاسة لتنتهي الليلة بعد بدايتها بدقائق معدودة.

في الثانية عشرة من ظهر اليوم التالي، استيقظ "منير” بك من نومه ليجد نفسه بمفرده في شقته. فتح عينيه بصعوبة بالغة ليكتشف أن الفتاتين سرقتا كل ما معه من نقود وساعة يده الذهبية، حتى جواله لم يعثر عليه. أدرك ما حدث بسهولة، تم خداعه واستدراجه وسرقته في شقته.

في التوقيت نفسه، كان "يوسف” يجلس في شقته بالمقطم، وحوله كل من "هويدا” و”حنان”، وضحكاتهم تملأ المكان. اندمجوا يعدون المبالغ المالية الكبيرة التي استولوا عليها من "منير” بك، والتي وصلت قيمتها إلى أكثر من 300 ألف جنيه، قالت "هويدا” في قلق:

- أنا خايفة الراجل ده يبلغ عنا البوليس... ده عارف شكلنا كويس.

اقترب منها "يوسف” قائلا بثقة:

* ح يبلغ يقول إيه؟ كنت عاوز أقضي ليلة حمراء وسرقوني؟

وهتفت "حنان” في اقتناع قائلة:

- فيه حد هيفضح نفسه بسهولة كده؟ اطمني آخر حاجة يقدر يعملها أنه يرجع أميركا بتاعته دي في هدوء ويا دار ما دخلك شر.

الخوف من الفضيحة، كان الأساس الذي يعتمد عليه "يوسف” والفتاتان في كل جرائمهم التي ارتكبوها، وحصدوا من خلالها كثيراً من الأموال، فلم يتقدم أي من ضحاياهم ولو ببلاغ لرجال الشرطة بعد اكتشافهم وقوعهم ضحية لفتاتين جميلتين. من هنا، استمر "يوسف” و”هويدا” و”حنان” في نشاطهم بأمان من دون أن يقترب منهم أحد من رجال الشرطة.

ولكن "منير” بك، آخر ضحايا عصابة "يوسف” امتلك الشجاعة الكافية ليعلن وقوعه في الخطأ. أسرع الرجل عقب اكتشافه السرقة بإبلاغ رجال الشرطة، وأدلى بأوصاف أفراد العصابة التي استولت منه على كل ما يملك، ولكن لأن "يوسف” لم يكتشف أمره سابقاً ولا حتى "هويدا” و”حنان”، فقد وجد رجال الشرطة أنفسهم كمن يبحثون عن أبرة في كومة قش، ولم يكن أمامهم سوى حل واحد، وهو أن يتنكر أحد الضباط في شخصية ثري عربي، ويتوجه إلى الملهى الليلي، وينفق ببذخ حتى يلتقط أفراد العصابة الطعم، وتبدأ حكاية جديدة مكررة تماماً مثلما وقعت مع "منير” بك.

خطأ قاتل
مهما كانت قدرة اللص والمحتال على المخاتلة، تأتي نهايته سريعة بسبب الطمع. في الملهى الليلي ظهر ضابط شرطة في صورة ثري عربي ينفق المال ببذخ شديد، سال لعاب "يوسف” الذي اعتاد أن لا يقوم بعمليتين متتاليتين في مكان واحد، ولكن كثرة الأموال التي أنفقها الضابط المتنكر، جلعت اللص الماكر ينسى حذره للحظة ويقرر أن يغامر ويقوم بعملية أخرى في الملهى نفسه الذي خدع فيه "منير” بك.

اقترب من السائح العربي وهمس في أذنه بالكلمات السحرية، لتتكرر تفاصيل حكاية "منير” بك، مع اختلاف واحد هو أن السائح العربي في شقته، وقبل أن يتناول العصير بالمخدر كشف عن شخصيته الحقيقية ليسقط أفراد العصابة في قبضة رجال الشرطة المنتشرين في كل أرجاء الشقة. أدرك "يوسف” أنه ارتكب خطأ قاتلا بتكرار عملية النصب في المكان نفسه.

في سراي النيابة، تمسك "يوسف” و”هويدا” و”حنان” بإنكار كل شيء، ولكن مفاجأة مدوية كانت في انتظارهم، حيث تمت مواجهة المتهمين الثلاثة بآخر ضحية لهم "منير” بك. لم يستطع "يوسف” مواصلة إنكار الأمر، اعترف تفصيليا ليس بسرقة "منير” بك فحسب، بل أيضاً بارتكابه جرائم عدة بمشاركة "هويدا” و”حنان” بالطريقة نفسها على مدار سنوات عدة. لم يكن أحد يعلم شيئاً عن تشكيل العصابة رغم تكرار حوادث السرقة. اكتفى أصحاب الملاهي بإطلاق لقب "العصابة” على هذا التشكيل الإجرامي الذي عمل في سرية كاملة، لكن خطأ "يوسف” كشف كل شيء دفعة واحدة.

قال في اعترافاته إن معظم ضحاياه من الأثرياء العرب الذين يتوافدون على الكباريهات والملاهي الليلية وينفقون ببذخ، وأضاف أنه كان يعتمد على عدم إبلاغهم بالسرقة خشية الفضيحة، كما أن فترة وجودهم في مصر عادة ما تكون قصيرة يصعب معها أن يبحثوا عن أفراد عصابته، خصوصاً أنه لا يقوم بجريمتين في مكان واحد، ولا بد من فارق زمني بين الجريمتين شهر على أقل تقدير كي لا ينكشف أمره.

أحيل المتهمون الثلاثة إلى محكمة جنايات جنوب القاهرة، فقضت بحبسهم جميعاً سبع سنوات، فيما تسلم "منير” بك حقائبه، واسترد الجزء الأكبر من أمواله المسروقة، وقرر على باب مديرية الأمن العودة إلى أميركا كي لا تضيع أمواله مجدداً بعد ليلة من المؤكد ستظل عالقة بذاكرته ولن ينساها.

وفي الطريق إلى المطار قال "منير” بك لقائد السيارة الآجرة التي يستقلها:

* والله الواحد لسه ما شبعش من مصر.

ردّ السائق:

- أنا تحت أمرك يا باشا لو عاوزني ألف وأرجع... هلف وأرجع.

يصمت "منير” بك للحظات ثم يقول:

* بأقولك أيه يا أسطى... لف وارجع!

وتستدير السيارة الآجرة عائدة في طريق القاهرة، وصوت "منير” بك يقول لقائدها: "ما تعرفش مكان كويس كده الواحد يسهر فيه النهارده”.