فتى الشاشة الأول... عماد حمدي (1- 10)

مولد نجم

نشر في 26-06-2016
آخر تحديث 26-06-2016 | 00:04
الفنان عماد حمدي أحد أبرز نجوم التمثيل في تاريخ السينما المصرية، بدأ حياته الفنية بأدوار البطولة في أفلام رومانسية، ثم مع تقدمه في العمر غيّر من جلده أكثر من مرة فعرف كيف يحجز مكانه في قلوب المصريين، ليظل علامة على ذكاء الفنان الذي روض موهبته حتى النهاية وقدمها في أدوار تحفر في الذاكرة مكانة لا ينازعه فيها أي من نجوم الصف الأول، فهو فتى الشاشة الأول الذي حظي باللقب سنوات طوال.
«الجريدة» تستعرض أبرز المحطات في حياته.
كتب الفنان عماد حمدي اسمه في سجل السينما المصرية بحروف من ذهب، فالرجل الذي عشق السينما حتى الثمالة، عرف كيف يبقي اسمه مطروحاً على ملصقات السينما لعقود طويلة، بصورة لم تتكرر إلا مع مجموعة قليلة من الفنانين على مدار تاريخ السينما المصرية. وفي سنوات المد والجذر اقتنص حمدي لقب فتى الشاشة الأول، ونوّع أدواره بين الكوميدي والتراجيدي، البطولة المطلقة والجماعية، الدور الأول والتراجع خطوة لأداء دور ثان، تاركاً في كل فيلم علامة وبصمة.

ذكاء الفنان الفطري جعل عماد حمدي لا يقف عند مرحلة الفنان الأول، ومع تقدمه في السن، أدى أدواره في مختلف المراحل العمرية. ظهر في دور المحب الولهان في أفلام البدايات، ورب أسرة وقوراً في رائعة عاطف سالم {أم العروسة}، والرجل الذي خط الشيب مفرقيه فأدرك عبث الحياة في تحفة حسين كمال {ثرثرة فوق النيل} عن رواية لنجيب محفوظ، فضلاً عن دور رب الأسرة المحطم في خريف العمر في رائعة عاطف الطيب السينمائية {سواق الأتوبيس} الذي يعد درة أفلام الواقعية المصرية.

هذه المقدرة الفنية الهائلة في التنوع وقبول الأدوار كافة، أبقت عماد حمدي طويلاً على شاشات السينما المصرية، فيما اختفى بعض نجوم عصره الذين بدأوا معه مشوار النجومية والأضواء، على غرار حسين صدقي ومحسن سرحان، وغيب الموت أنور وجدي.

ظلّ راسخاً كالجبل. عرف كيف يمارس مهاراته التمثيلية التي كانت تليق بفترة بدايات السينما الناطقة وازدهارها في الأربعينيات، وواكب تطور السينما في ما بعد فلم يفقد البوصلة، وعُدّ أحد أكثر النجوم الذين مثلوا في أفلام السينما المصرية، وهو لقب ينازعه فيه عمالقة أمثال فريد شوقي وإسماعيل ياسين ومحمود المليجي.

تحدّ وواقعية

عماد حمدي الوحيد من بين ممثلي جيله، الذي لم يقدم أدوار الشر كثيراً ولا يتذكره الجمهور بها تقريباً، يشاركه في ذلك حسين صدقي، فحتى نوعية هذه الأدوار عندما قدمها حمدي وضع صانعو الأفلام الأسباب التي تدفعه إلى أن يكون شريراً لتبرير تصرفاته الناتجة من ظروف يتعرض لها أو فقدانه الوعي تحت تأثير كثرة الشرب، كما حدث في {موعد مع السعادة}، عندما اغتصب الفتاة التي يحبها، وهو في حالة سكر وغير مدرك لما يفعله.

لم يجد فتى الشاشة الأول مشكلة في أن يكون البطل الذي يموت في نهاية الأحداث، فهو شخصية أقرب إلى المثالية بأخلاقه وسلوكياته وتعاملاته مع الآخرين، ما شكل تحدياً لنوعية الأدوار التي قدمها، واتسمت بالواقعية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، عاكسة سلوكيات المجتمع في تلك الفترة التي تغيرت لاحقا بسبب ظروف الحرب والأوضاع الاقتصادية، فكانت تعبيراً عن الناس وللناس، وهو ما يتضح من المقارنة بين النجاح الكبير لفيلمه {بين الأطلال}، وإخفاق الرواية نفسها عندما قدمها المخرج هنري بركات في نهاية السبعينيات من بطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين، فجزء كبير من نجاحه ارتبط برغبة الجمهور في مشاهدة شخصيات أقرب إلى المثالية وتسعى إلى إسعاد من حولها.

ظلّ عماد حمدي العنصر المشترك بين مخرجي أفلام الرومانسية لسنوات، لكنه احترم نفسه عندما تقدم في العمر، وبدأ يبحث عن أدوار تناسب مرحلته العمرية، فلم يرغب في الخضوع لجراحة شد في الوجه، أو صبغ شعره الأبيض كي لا يتحايل على جمهوره، فكانت أدواره بعد تجاوزه العقد الخامس مختلفة ومناسبة له، وجسد شخصية الكهل الذي يواجه مشاكل الحياة. اللافت أنه قدم هذه الأدوار بحرفية عالية ثبتت مكانته كأحد عملاقة التمثيل في تاريخ السينما المصرية، فدل بحسن إدارته موهبته عن ذكاء نادر عرف كيف يستثمر الموهبة في إسعاد جمهور واسع.

عنوان

قدّم عماد حمدي نحو 450 فيلماً سينمائياً على مدى خمسة عقود تقريباً، تصدّر في أكثر من نصفها ملصقات السينما المصرية، بأدوار متنوعة رسخت قدمه سريعاً. في بدايته الفنية، كان يصور خمسة أفلام في التوقيت نفسه بمعدّل 20 ساعة يومياً.

لم يذكر أنه تأخر عن مواعيد التصوير، باستثناء مرة واحدة مع المخرج محمد كريم، إذ ا تأخر 20 دقيقة على موعد التصوير. كان يقدس عمله ويحترمه، لا يوافق على فيلم إلا إذا شعر بأنه قادر على العطاء في الدور ويصدقه الجمهور، مستفيداً من تركيز السينما على المشاعر، وقدرته على استخدام تعبيرات وجهه لإيصال الرسائل التي يريدها.

تنقل عماد حمدي في أدواره الفنية، ولم يكتف بالعمل مع ممثلة واحدة فحسب، فجاءت أدواره مميزة أمام شادية، فاتن حمامة، مديحة يسري وصباح، وغيرهن من نجمات الصف الأول في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، لكن هذا النجاح لم يقف عائقاً أمام حمدي لقبول الأدوار المساعدة، فلم يكن يبحث عن مجد شخصي، بل يعشق الفن والسينما.

لم يخجل بأن يأتي اسمه لاحقاً لأسماء نجوم شباب ظهروا بعده، بل خاض تجربة الإنتاج السينمائي بأفلام عدة، ليس لتحقيق عائد مادي، بل تقديم أفلام تبقى محفورة في ذاكرة السينما المصرية، وتخلد اسمه، وتكشف جوانب لم تقدم سابقاً، مع زوجتيه شادية، ثم نادية الجندي التي منحها البطولة الأولى في فيلمها {بمبة كشر}.

ورغم المصاعب التي عاشها حمدي في حياته، لا سيما في أيامه الأخيرة، لم يندم على خياراته سواء الفنية أو الشخصية، باستثناء ندمه على ارتباطه بالفنانة نادية الجندي، بسبب الفارق العمري بينهما، علماً أنها أكثر زوجة عاش معها (14 سنة) وأنجبا ابنهما هشام.

البدايات

نعود إلى بدايات القرن العشرين عندما سافر عبد الحميد حمدي، بعد تخرجه في مدرسة الهندسة، إلى باريس لينال الدبلوم في الهندسة، في رحلة استغرقت عامين، أجاد خلالها الفرنسية، وأصبح يتحدثها مثلما يتحدث العربية، قبل أن يعود إلى مصر ليلتحق بالعمل في السكة الحديد بمرتب كبير، ويتزوج من فتاة رشحتها له عائلته، لم يمانع كونها ذات أصول فرنسية، وعاشت في القاهرة مع عائلتها، فتمّ الزواج سريعاً وبشكل تقليدي. انتقل العروسان بعد ذلك إلى مدينة سوهاج في صعيد مصر بحكم عمل الزوج كمهندس في السكة الحديد، وكان راتبه يوفر له حياة كريمة، خصوصاً أن هيئة السكك الحديد منحته منزلاً فخماً في الصعيد عوضه الاغتراب في القاهرة.

عاش الزوجان أشهراً في سعادة، قبل أن تشعر الزوجة بآلام حضر على أثرها الطبيب، الذي أخبر الزوج بأنه سيصبح أباً، طار الزوج من الفرح، ووفّر وسائل الراحة لزوجته، ساعده في ذلك قرب منازل بقية المهندسين وأسرهم من منزله، فظروف الاغتراب جعلت العلاقات الاجتماعية بينهم أكثر تفاعلاً وتقارباً، فشعر عبد الحميد بالاطمئنان على زوجته خلال ساعات عمله.

في أحد الأيام، وجد ابن أحد زملائه يقف أمامه في العمل، ليخبره بأن زوجته بدأت آلام المخاض، فأسرع إلى المنزل حيث وجد الزوجة قد التفت حولها زوجات زملائه، وترقب قدوم الابن الذي انتظر سنوات تأخر فيها لانشغاله بالدراسة في الخارج، وعدم الزواج مبكراً مثل بقية زملائه.

بينما كان ينتظر معرفة جنس المولود الذي وضعته زوجته، فوجئ بالداية تخبره بأن زوجته أنجبت بدل الولد ولدين. لم يصدق نفسه، شعر بأن ابنيه هما هدية السماء له، وانطلقت زغاريد النساء في المنزل احتفالاً بقدوم الطفلين، فتحول منزل المهندس الشاب إلى خلية لا تهدأ بين زملائه المهنئين وزوجاتهم المساندات لزوجته الغريبة عن المدينة.

توأمان

انتظر عبد الحميد حتى تفيق زوجته من ألم المخاض، وسألها رغبتها في الاسمين اللذين تريد أن تطلقهما على ابنيهما، فأطلقت على الأول عبد الرحمن، وفكرت في اسم الثاني، لتفاجأ بزوجها يقول لها: {سنسميه محمد عماد الدين}.

لم تسأل الزوجة الشابة زوجها عن سبب إطلاق محمد عماد الدين، فهو اسم زوج شقيقتها السلطان الأسبق لجزر المالديف بجنوب غرب الساحل الهندي، الذي عاش في مصر ما تبقى من حياته بعدما نفته قوات الاحتلال الإنكليزي.

بعد أسابيع من ولادة الطفلين، نقلت مصلحة السكة الحديد

عبد الحميد إلى القاهرة، فاستأجر فيلا بحي شبرا في شارع علي بك النجار، أطلق عليها {فيلا قصور الشوام}، وألحق ابنيه بمدرسة {مدام شكور} القريبة من الفيلا وكانت تبعد أمتاراً قليلة، وكانا يذهبان إليها سيراً على الأقدام مع والدتهما.

رغم أن المهندس عبد الحميد رزق بطفلة بعد انتقاله إلى القاهرة، اتفق مع زوجته على أن يرتدي ولداه التوأمان ملابس الفتيات خوفاً من الحسد مثلما كانت تفعل غالبية العائلات في تلك الفترة.

لم تكن مسألة التفريق بين عبد الرحمن وعماد الدين بالأمر السهل، فالفارق الوحيد بينهما ظهر بعد تجاوز السنوات العشر من عمرهما، إذ ازداد وزن عبد الرحمن قليلاً، بينما ظلا محتفظين بالملامح نفسها تقريباً حتى وفاتهما، فكأنهما روح واحدة في جسدين، مع تشابه تصرفاتهما، سواء في الدراسة أو الهوايات.

بفضل اتقان الوالدين الإنكليزية والفرنسية، تعلم الطفلان اللغتين إلى جانب العربية، قبل انتهائهما من دراسة المرحلة الابتدائية، فأُسندت مهمة تعليمهما الإنكليزية إلى مدرّس لغة إنكليزية خاص كان يأتي إلى منزل الأسرة يومياً، هو عبد البديع خيري، الذي نعرفه أكثر باسم بديع خيري، مؤلف مسرحي وشريك نجيب الريحاني في تجربته الفنية. آنذاك، لم يكن خيري دخل مجال التمثيل بعد، فعلّمهما الإنكليزية تحدثاً وكتابة، ولم يدرك أن الفتى الذي يجلس أمامه سيكون أحد أهم نجوم السينما.

مع إنجاب مزيد من الأطفال، انتقلت عائلة المهندس عبد الحميد إلى بيت {الكونت شديد} في الحي نفسه، لكن في شارع {قطة}، وكان المنزل من وجهة نظر العائلة أفضل، ليس لموقعه الذي يطل على أكثر من شارع فحسب، ولكن لغرفه الواسعة التي أصبحت تكفي الأطفال، ولم تشعر فيها الأم بالضيق بعدما أنجبت ستة أبناء من بينهم فتاة واحدة.

أمضى عماد حمدي طفولته مع أشقائه في سعادة فكانت أجمل سنوات عمره، ورغم أن والده لم يكن من كبار الأثرياء، إنما من موظفي الدولة الميسورين، حصل على رتبة البكوية، بحكم موقعه الوظيفي وفقاً للقانون آنذاك، وساهمت البحبوحة التي عاش فيها عماد حمدي مع بقية أخوته، في أن يستمتع بجمال الحياة، فخرج إلى متنزهات شبرا الشهيرة، وتابع صائدي الحمام في {التيرو} المخصص لصيده، وكان يملكه شخص من أصول أرمينية، واستقل السانت كروفت (أتوبيس أخضر اللون يشبه الترام) بستة مليمات للاستمتاع بشوارع القاهرة، فكانت النزهة المفضلة للتوأمين.

خلاف

حصل المهندس عبد الحميد على ترقية جديدة نقلته إلى الصعيد مجدداً، لكن هذه المرة إلى محافظة أسيوط، فأمضى عاماً كاملاً رافقته الأسرة خلاله، ثم عادت إلى القاهرة والتحق عماد وشقيقه بمدرسة التوفيقية الثانوية، فانطلقا في مرحلة جديدة من حياتهما اعتمدا فيها على الجد والاجتهاد في دروسهما، وكانا من المتفوقين دراسياً، ولم يجد والدهما مشكلة في توجيه النصائح لهما، إذ كانت نتائجهما إيجابية، وكانا من الأوائل في مدرستهما.

تشارك عماد وعبد الرحمن في حلم دراسة الطب بعد حصولهما على شهادة البكالوريا، غايتهما تخفيف آلام المرضى، وظل حلم ارتداء {المعطف الأبيض} يراودهما، لا سيما أنهما كانا من المتفوقين في دراستهما، لذلك قررا مفاتحة والدهما حول المدرسة العليا التي يرغبان في الالتحاق بها، في جلسة حضرتها والدتهما لكنها لم تتحدث، هنا واجه التوأمان أول خلاف جدي مع والدهما.

عماد: يا بابا إحنا كنا عاوزين نتكلم معاك في موضوع المدرسة العليا.

الأب: اتفضلوا.

عبد الرحمن: إحنا عاوزين ندخل مدرسة الطب العليا.

ردّ الأب: أجيب ليكم فلوس منين، أنتم اثنين، وهناك أربعة آخرين غيركم، هجيب مصاريفهم منين، مش من حقهم يتعلموا زيكم وياخدوا البكالوريا.

عماد: طب حضرتك شايف إيه.

الأب: تشوفوا مدرسة تانية.

ومن دون اتفاق مسبق رد عماد وعبد الرحمن قائلين: مدرسة الطيران.

ليصدمهما الأب برده ثانية قائلاً: مش عاوز تخاريف، أنا فكرت وقررت أدخلكم مدرسة التجارة العليا مصاريفها 12 جنيهاً في السنة... وما فيش غيرها قدامكم.

صمت الشابان ولم ينطقا، فما الذي حدث وكيف تصرفا إزاء هذا الموقف المصيري؟

وفرقهما التمثيل
لم تسد علاقة عماد حمدي بتوأمه عبد الرحمن في طفولته أي ضغائن، فالطباع متقاربة والآمال مشتركة، كونا معا ثنائياً لا ينفصل، سواء على مستوى الشكل أو الروح، ليس لتعلقهما ببعضهما البعض، ولكن لتعاونهما سوياً في الدراسة وتقارب نتيجتهما فيها.

سار عماد وعبد الرحمن في الدراسة خطوة خطوة، فعندما يكون ترتيب أحدهما الثاني يكون الآخر الثالث، لا يفصل بينهما في النجاح أو الإخفاق سوى درجة، حتى في ممارسة الرياضة والأنشطة، كان كل منهما كابتن المدرسة، عماد في الأنشطة، وعبد الرحمن في كرة القدم.

تشارك الأخوان في كل شيء، باستثناء التمثيل، الذي فضله عماد حمدي منذ البداية في المدرسة، فرغم أنه لم يفكر باحترافه لكنه انضمّ إلى فرقة التمثيل، وشارك في تمريناتها مع الفنان عبد الوارث عسر الذي أشرف على تدريب الطلاب.

وقف عماد حمدي على مسرح المدرسة للمرة الأولى مقدّماً روايات شكسبير، وبسبب تفوقه في الأداء المسرحي خلال مرحلة اختيار الشخصيات، قرر عبد الوارث عسر إسناد أحد الأدوار الرئيسة له، لاحقاً شارك في العروض التي أقامتها فرقة المدرسة على مسرح الأزبكية وسط القاهرة الذي كان وجهة الفن والفنانين في تلك الفترة.

ورغم إشادة مدربه عبد الوارث عسر بأدائه، فإن عماد كان يعتبر التمثيل مجرّد هواية يمارسها خلال فترة الدراسة بدافع حبه لها، ولم يشجعه تصفيق الجمهور على التفكير بالاحتراف، وظلت موهبته مدفونة سنوات طويلة، لكنه لم يدرك أن وقوفه أمام جمهور المدرسة سيفتح له باب السينما مستقبلاً، ويكون علامة على افتراقه عن توأمه.

التفاصيل في الحلقة المقبلة

تصدر ملصقات السينما لعقود ونافس على لقب أكثر الممثلين حضوراً في السينما في مصر
back to top