يعود كثير من الأهالي إلى مناطقهم المحررة في الأنبار وتكريت، ووشيكاً جنوب الموصل، غرب بغداد وشمالها، رغم ما يحف عودتهم من مخاطر، إذ إنها مدن مليئة بمخلفات الحرب والألغام المدفونة في الأرض، والجدران والأنفاق السرية تحت المنازل، وهم يغامرون بعد ويلات عامين كاملين من المكوث الإجباري في مخيمات قرب جبال كردستان، لم يعتادوا سكناها، لأن مناطقهم كانت الأكثر استقراراً اجتماعياً طوال قرن مضى.

لكن فرحة هذه العودة لا تنعكس على المناخ السياسي السني والتوقعات الاجتماعية، فهي فرحة ناقصة جداً بتعبير كثير من الخبراء، لأن القوات العراقية تسارع إلى طرد "داعش"، لكن هذه السرعة لم تترك وقتاً كافياً للإجابة عن سؤال: ماذا سيعني اليوم التالي لـ"داعش"؟ ومَن سيحكم هذه المناطق؟ وبأي صيغة؟

Ad

أضاعت بغداد وقتاً طويلاً، وتحاشت هذه الأسئلة حتى في حوارها مع المجتمع الدولي، رغم اعتراف النخبة الشيعية الحاكمة بأن الأخطاء الطائفية يمكن أن تتكرر غرب البلاد وشمالها، وتنتج احتقاناً جديداً، ليولد جيل آخر من المقاتلين المتشددين "يستكمل مسيرة داعش" بصيغ أكثر خطورة.

إلا أن المشكلة اليوم ليست متعلقة بعجز النخب الشيعية عن اقتراح صيغ مقبولة للتوازن تمنع الاحتقان أو تخففه، بل إن سنتين من الاحتلال الداعشي صارتا سبباً في انقسامات عديدة داخل المجتمع السني نفسه.

فالعشيرة الواحدة انقسمت بين مقاتل مع "داعش"، وابن عم له يقاتل مع الدولة، والنخب السنية انقسمت بين من استطاع حمل السلاح والانخراط في تحرير مدينته من التنظيم المتشدد، ومن اكتفى بالجلوس في المنفى منتظراً لحظة طرد "داعش" التي فتكت بمعظم التيارات السنية.

وهكذا أصبح السُّنة، بعد تحرير الأنبار ولاحقاً نينوى، يواجهون ثأراً داخل العشيرة الواحدة، بعدد متزايد من حالات الانتقام ومحاولاته، لن يكون من السهل السيطرة عليها كما يحذر كثيرون.

وأصبح القادة السُّنة، الذين نجحوا في حمل السلاح إلى جانب بغداد، يعتقدون أنهم الأكثر حقاً في حكم الأرض المحررة، من أولئك الذين اكتفوا بعرض "مظلومية السُّنة"، وراحوا يوثقون الانتهاكات التي يتعرض لها جمهورهم على يد "داعش" أو بعض الميليشيات المقربة إلى طهران.

وستكون جهات نافذة في بغداد أقرب إلى "السُّنة المقاومين لداعش بالسلاح"، وستحاول استخدامهم لضرب شعبية الساسة الذين لم ينخرطوا في القتال، ولأن شيعة العراق منقسمون هذه اللحظة بين النجف وطهران، فإن سنة العراق الموالين للقوات العراقية، يتوزعون بين سنة متحالفين مع التيار النجفي، وآخرين صاروا مقربين من حرس الثورة الإيراني حالهم حال أي فصيل شيعي متشدد.

وهكذا لم يعد المأزق يتعلق بمفهوم اللامركزية وتشكيل إقليم أو أقاليم سنية، بل إذا افترضنا أن الولايات المتحدة منعت طهران من التدخل في صياغة مستقبل الإدارة الأمنية والسياسية لهذه المناطق، فإنها ستواجه أذرعاً وعشائر سنية يقسمها الثأر، ونخباً تتصارع على الامتيازات، وسيصعب إدارة الخلاف هذا بنحو مخيب يمكنه إفساد فرحة التحرير، ويمنح "داعش" فرصاً جديدة لإشعال النزاع.

ووسط هذا تبدي واشنطن خيبة أملها من عجز السُّنة عن بناء تيار سياسي موحد، يصبح مرجعية لإدارة الخلاف الداخلي، والتفاوض مع بغداد والعالم حول المستقبل، ولا شك في أن المجتمع السُّني كان بحاجة إلى رعاية دولية وإقليمية ليوحد مواقفه، إلا أن الانهيار الذي يعم المنطقة شتت اهتمامات القوى ذات الصلة، ولم يسمح بجهد كافٍ لبناء الحد الأدنى من التوافق السُّني لإدارة مناطق ما بعد "داعش".