لما جاءت الليلة الستون بعد المئتين، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن علي بن منصور قال: ثُم ختم جبير الكتاب وناولني إياه، فأخذته ومضيت به إلى دار "بدور”، وجعلت أرفع الستر قليلاً قليلاً على العادة، وإذا أنا بعشر جوار أبكار كأنهن الأقمار، والسيدة بدور جالسة في وسطهن كأنها البدر في وسط النجوم، أو الشمس إذا تبدت من وراء الغيوم. بينما أنا أنظر إليها، إذ لاحت منها التفاتة إليّ فرأتني واقفاً بالباب فقالت لي: أهلاً وسهلاً ومرحباً بك يا ابن منصور، ادخل، فدخلت وسلمت عليها، وناولتها الورقة، فلما قرأتها وفهمت ما فيها ضحكت وقالت: يا ابن منصور، ما كذب الشاعر حين قال:

فلأصبرنَّ على هواكَ تجلداً

Ad

حتى يجيء إليّ منك رسولُ

ثم قالت لي: سأكتب لك جواباً حتى يعطيك الذي وعدك به، فقلت لها: جزاك الله خيراً، فنادت إحدى جواريها وقالت: ائتني بدواة وقرطاس، فلما أتتها بما طلبت، كتبت إليه هذه الأبيات:

مالي وفيت بعهدكم فغدرتم

ورأيتموني مُنصفاً فظلمـتمُ

باديتموني بالقطيعة والجفا

وغدرتم والغدر باد منـــكـــم

ما زلت أحفظ في البرية عهدكم

وأصون عرضكم وأحلف عنكـــم

حتى رأيت بناظري ما ساءني

وسمعت أخبار القبائح عنكم

أيهون قدري حين أرفعُ قدرك 

والله لو أكرمـــــتُم لكُرمتـــم

فلأصرفن القلبَ عنكم ســـلوة

ولأنفضنّ يدي يأساً منكـــــم

فقلت لها: والله يا سيدتي إنه ما بينه وبين الموت إلا أن يقرأ هذه الورقة. ثم مزقتها، فقالت لي: يا ابن منصور لقد بلغ بي الوجد إلى هذا الحد. فقلت لها: لو أنك قلت أكثر من هذا لكان الحق معك، ولكن العفو من شيم الكرام. فلما سمعت كلامي، دمعت عيناها تأثراً، وكتبت إليه رقعة ليس في ديوان أمير المؤمنين من يستطيع أن يكتب مثلها، وختمتها بهذه الأبيات:

إلى كم ذا الدلال وذا التجني

شَفيت وحقكَ الحسادَ مـــــني

لعلي قد أسأتُ ولست أدري

فقل لي: ما الذي بلغتَ عني

مرادي لو وضعتك يا حبيب

مكان النوم من عيني وجفني

شربتُ كؤوسً حُبك مُترعاتٍ

فإن ترني سكرتُ فلا تلُمني

لما كانت الليلة الحادية والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد:  بلغني أيها الملك السعيد أن بدور لما فرغت من كتابة خطابها ختمته ومدت يدها به إلى علي بن منصور، وقالت له: أبلغه أني سأكون عنده في هذه الليلة. قال علي بن منصور: فلحقني من ذلك فرح شديد، ما عليه من مزيد، ومضيتُ بالكتاب إلى جبير بن عمير، فلما دخلت عليه وجدتُ عينه شاخصةً إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة وفتحها وقرأها وفهم معناها، صاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق قال: يا ابن منصور هل كتبت هذه الورقة بيدِها ولمستها بأنامِلها؟ فقلت: يا سيدي هل الناس يكتبون بأرجلهم؟ وما أتممت كلامي، حتى سمعنا رنة خلاخلها في الدهليز، وهي داخلة، فلما رأها مقبلة نهض وكأنّه لم يكن به ألم قط، وعانقها عناقَ الألف للام، وزالت عنه علته التي لا تنصرف، ولما وجدتها لم تجلس، قلت لها: يا سيدتي لأي شيء لم تجلسي؟ قالت: ما أجلس إلا بالشرط الذي بيننا. فقلت لها: ما ذلك الشرط؟ قالت: إن العشاق لا يطلع أحد على أسرارهم.

ثم وضعت فمها على أذنه، وقالت له كلاماً، قام بعده فدعا بعض عبيده وأمرهم بإحضار قاض وشاهدين، فلما حضروا ناول القاضي كيساً فيه مئة ألف دينار وقال له: أيها القاضي اعقد عقدي على هذه الصبية بهذا المهر، فقال لها القاضي: هل رضيت بذلك؟ فقالت: رضيت.

وبعد أن تم العقد، فتحت بدور الكيس وملأت يدها منه وأعطت القاضي والشهود، ثم ناولتني بقية الكيس، فانصرف القاضي والشهود وقعدت أنا وإياهما في بسط وانشراح، إلى أن مضى من الليل أكثره، فقلت في نفسي: إنهما عاشقان، ومضت عليهما مدة من الزمان وهما متهاجران، فيحسن أن أقوم في هذه الساعة لأنام في مكان بعيد، ثم قمت فتعلقت بأذيالي وقالت لي: أجلس وإذا أردنا انصرافك صرفناك. فجلست معهما إلى قرب الصبح، ثم قالت لي: أمض إلى تلك المقصورة التي فرشناها لك، فمضيت إليها ونمت فيها إلى الصباح.

الحكماء أصحاب الطاووس

ثم جاءني غلام بطشت وأبريق، فتوضأت وصليتُ الصبح، وبينما أنا جالس إذا بجبير ومحبوبته قد حضرا عندي، فصبَّحت عليهما وهنأتهما بالسلامة وجمع الشمل ثم قلت له: الذي أوله شرط آخره رضا. فقال لي: صدقت وقد وجب لك الإكرام. ثم نادى خازنداره وقال له: أئتني بثلاثة آلاف دينار، فأتاه بكيس فيه هذا المبلغ، ولما ناولني إياه، قلت له: لا أقبله حتى تحكي لي ما سبب انتقال المحبة منها إليكَ بعد ذلك الصَدِ العظيم.

فقال: سمعاً وطاعة. اعلم أن عندنا عيداً يقال له "عيد النيروز”، يخرج الناس فيه ويركبون الزوارق للفرجة في النهر، فخرجت فيه مع أصحابي لذلك الغرض، فرأيت زورقاً فيه عشر جوار كأنهن الأقمار، والسيدة بدور هذه في وسطهن، وعودها معها، وسمعتها تضرب عليه بإحدى عشرة طريقة، عادت بعدها إلى الطريقة الأولى، وأنشدت هذين البيتين:

النار أبرد من نيرانِ أحشائي

والصخرُ ألين من قلبي لمولائي

إني لأعجب من تأليفِ خلقته

قلبٌ من الصخرِ في جِسمٍ من الماء

فقلت لها: أعيدي البيتين ولا طريقة، فما رضيت.

لما كانت الليلة الثانية والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن جبير قال: فلما رفضت بدور أن تعيد البيتين، أمرت النوتية أن يرجموها بالنارنج، ففعلوا حتى خشينا الغرق على الزورق الذي كانت فيه، ثم مضت إلى سبيلها، وهذا سبب انتقال المحبة من قلبها إلى قلبي، فهنأتهما بجمع الشمل، وأخذتُ الكيس بما فيه، وتوجهت إلى بغداد.

لما سمع هارون الرشيد هذه الحكاية زال عنه ما كان يجده من الأرق وضيق الصدر، وأمر لابن منصور بجائزة سنية.

ومضت شهرزاد في حديثها فقالت للملك شهريار: هذه الحكاية ليست أعجب من قصة "الحكماء أصحاب الطاووس”، فقال لها: وكيف كان ذلك؟ فقالت: كان في قديم الزمان ملك عظيم، ذو خطر جسيم، وكان له ثلاث بنات مثل البدور السافرة، والرياض الزاهرة، وولد ذكر كأنه القمر. بينما الملك جالس على كرسي مملكته يوماً من الأيام، إذ دخل عليه ثلاثة من الحكماء مع أحدهم طاووس من ذهب، ومع الثاني بوق من نحاس، ومع الثالث فرس من عاج وأبنوس، فقال لهم الملك: ما هذه الأشياء وما منفعتها؟ فقال صاحب الطاووس: منفعة هذا الطاووس أنه كلما مضت ساعة من ليل أو نهار يصفق بأجنحته عليها. وقال صاحب البوق إنه إذا دخل عدو البلد، انطلق منه صوت يفزعه ويذهله حتى يمسك باليد، وقال صاحب الفرس: يا مولاي إن منفعة هذه الفرس أنها إذا ركبها إنسان أوصلته إلى أي بلد أراد. فقال الملك: لا أنعم عليكم حتى أجرب منافع هذه الصور.

ثم جرب الطاووس فوجده كما قال صاحبه، وجرب البوق فوجده كما قال صاحبه أيضاً، فقال للحكيمين: تمنّيا عليّ. فقالا: نتمنى عليك أن تزوج كل واحد منا بنتاً من بناتك. ثم تقدم الحكيم الثالث صاحب الفرس، وقبل الأرض بين يدي الملك وقال له: يا ملك الزمان أنعم عليّ كما أنعمت عليهما، فقال له الملك: انتظر حتى أجرب فرسك هذه، وكان ابن الملك حاضراً فقال: أنا أركب هذه الفرس وأجربها وأختبر منفعتها، فقال الملك: جربها كما تحب، فقام ابن الملك وركب الفرس وحرك رجليه، فلم تتحرك من مكانها، فسأل صاحبها: أين الذي ادعيته من سرعة سيرها؟ فقام الحكيم وأدار لولبا فيها وقال له: أفرك هذا اللولب. ففركه ابن الملك وإذا بالفرس قد تحركت وطارت بابن الملك إلى عنان السماء، ولم تزل تطير به حتى غاب عن الأعين .

وحار ابن الملك في أمره وندم على ركوبه الفرس، وقال لنفسه: لا بد من أن ذلك الحكيم احتال لهلاكي. ثم جعل يتأمل في جميع أعضاء الفرس وهي طائرة به، فوقعت عينه على شيء مثل رأس الديك، فوق كل من كتفي الفرس، فقال لنفسه: ترى ما منفعة هذين الزرين؟ ثم فرك الزر الذي على الكتف اليمنى، فازداد طيران الفرس به وصعودها في الجو، ثم مد إلى الكتف اليسرى يده وفرك الزر الذي بها، فتناقصت حركات الفرس وأخذت في الهبوط إلى الأرض قليلاً قليلاً.

الفرس الطائر

لما كانت الليلة الثالثة والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الفرس هبطت بابن الملك إلى الأرض قليلاً قليلاً وهو محترس على نفسه، فلما نظر ذلك وعرف منافع الفرس، امتلأ قلبه فرحاً وسروراً، وشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه. ولم يزل طول نهاره يدير وجه الفرس كما يريد، ويصعد بها في الجو ثم يهبط إلى الأرض كما يريد حتى شبع من الفرجة على البلاد والمدن التي لم يعرفها ولم يرها طول عمره، وكان من جملة ما رآه مدينة مبنية أحسن البنيان، وهي في وسط الأرض ناضرة ذات أشجار وأنهار، فقال لنفسه: يا ليت شعري ما اسم هذه المدينة وفي أي الأقاليم هي؟ ثم جعل يطوفُ بالفرسِ حول تلك المدينة، حتى ولى النهار ودنت الشمس للمغيب فقال لنفسه: لن أجدَ موضعاً للمبيت أحسن من هذه المدينة، وعند الصباح أتوجه إلى أهلي ومحل ملكي وأعلم أهلي ووالدي بما جرى لي وأخبره بما نظرت عيناي.

وأخذ يبحث عن مكان يأمن فيه على نفسه وعلى فرسه. بينما هو كذلك إذ نظر في وسط المدينة قصراً شاهقاً، أحاط به سور مُتسع بشرفات عاليات فقال: هذا الموضع مليح، وطار بالفرس وحمد الله تعالى على أن سخرها له، ثم قال: والله إن الذي صنعها بهذه الصفة لحكيم ماهر، ولئن مد الله تعالى في أجلي وردني إلى بلادي وأهلي سالماً لأُحسنن إلى هذا الحكيم كل الإحسان، ولأنعمنّ عليه غاية الإنعام. ثم جلس فوق سطح القصر حتى أيقن أن الناس قد ناموا، وكان قد شعر بالجوع والعطش، لأنه منذ فارق والده لم يذق طعاماً ولا شراباً، فقال لنفسه: مثل هذا القصر لا يخلو من الرزق.

وترك الفرس مكانها ونزل إلى القصر لينظر شيئاً يأكله، فوجد سلماً أدى به إلى ساحة مفروشة بالرخام فتعجب من ذلك المكان ومن حسن بنائه، لكنه لم يجد فيه حس حسيس ولا أنس أنيس، فوقف متحيراً، وصار ينظر إلى المكان الذي فيه فرسه وبات عنده إلى الصباح.

لما كانت الليلة الرابعة والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك بينما كان يحدث نفسه بالمبيت عند فرسه، رأى نوراً يتحرك مقبلاً نحوه، فلما أمعن النظر وجد ذلك النور مع جماعة من الجواري، وبينهن صبية بهية، بقامة سمهرية، ووجهها ناضر، كأنه البدر الزاهر، وكانت بنت ملك تلك المدينة، وأبوها يحبها حباً شديداً لذلك بنى لها هذا القصر لتذهب إليه كلما ضاق صدرها ومعها جواريها، فتقيم به يوماً أو أكثر ثم تعود إلى قصر أبيها. اتفق أنها أتت تلك الليلة للفرجة والانشراح، ولم تزل ماشية بين الجواري، وأمامها خادم مقلد بسيف، حتى أخذت مجلسها في قاعة بالقصر، بين مجامر البخور من الند والعود وغيرهما.

وبينما هي وجواريها في لعب وانشراح، إذ هجم ابن الملك على ذلك الخادم فأخذ السيف من يده وهجم على الجواري اللواتي مع ابنة الملك، فشتتهن يميناً وشمالاً، فلما نظرت ابنة الملك إلى حسنه وجماله، قالت له: لعلك أنت الذي خطبتني من والدي بالأمس وردك زاعماً أنك قبيح المنظر، والله لقد كذب أبي فما أنت إلا مليح. وكان ابن ملك الهند قد خطبها من أبيها، فرده خائباً لأنه بشع المنظر، ثم أقبلت عليه وقبلته، فقالت لها الجواري: هذا شاب آخر غير الذي خطبك من أبيك، لأن ذلك قبيح وهذا مليح، وما يصلح الذي خطبك أن يكون خادماً لهذا، ولكن هذا الفتى لا نعرفه، ولا ينبغي الاطمئنان إليه. ولما أعرضت عن كلامهن، توجهن إلى الخادم الذي جاء معهن وقلن له: إن الشاب الذي أخذ سيفك جالس مع ابنة الملك. وكان ذلك الخادم قد وكله الملك بالحفاظ على ابنته، فقام وتوجه إلى الستر ورفعه فوجد ابنة الملك جالسة مع ابن الملك وهما يتحدّثان.

لما نظرهما الخادم سأل ابن الملك: يا سيدي هل أنت إنسي أم جني؟ فأجابه ابن الملك: ويلك يا أنحس العبيد، كيف تجعل أولاد الملوك الأكاسرة من الشياطين الكافرة؟ ثم شهر السيف بيده وقال: أنا صهر الملك وقد زوجني ابنته. فلما سمع الخادم منه ذلك الكلام قال له: يا سيدي إن كنت من الإنس كما زعمت فإنها ما تصلح إلا لك، وأنت أحق بها من غيرك.

ثم توجه الخادم إلى الملك صارخاً باكياً وقد شق ثيابه ووضع التراب على رأسه، فلما سمع الملك صياحه سأله: ما الذي دهاك فقد أرجفت فؤادي؟ أخبرني بسرعة وأوجز في الكلام، فقال له: أيها الملك أدرك ابنتك فقد استولى عليها شيطان من الجن في زي الإنس، فلما سمع الملك منه هذا الكلام همّ بقتله وقال له: كيف تغافلت عن ابنتي حتى لحقها هذا العارض؟

ثم توجه الملك إلى القصر الذي فيه ابنته، فلما وصل إليه وجد الجواري هناك فقال لهن: ما الذي جرى لابنتي؟ فقلن له: أيها الملك بينما نحن جالسات معها هجم علينا غلام كأنه بدر التمام، لم نر أحسن منه وجها، وقد زعم أنك زوجته ابنتك، ونحن لا نعلم شيئا غير هذا ولا نعرف هل هو إنسي أو جني، ولكنه عفيف أديب لا يتعاطى القبيح. لما سمع الملك كلامهن، ذهب عنه الغضب، ثم رفع الستر قليلاً قليلاً ونظر فرأى ابن الملك جالساً مع ابنته يتحدثان، وهو مصور أحسن التصوير، ووجهه كالبدر المنير، فلم يقدر الملك أن يمسك نفسه من غيرته على ابنته ودخل وبيده سيف مسلول، وهجم عليهما كأنه الغول. فلما نظره ابن الملك قال لها: أهذا أبوك؟ قالت: نعم...

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد