رسائل الاحتقار والقتل

نشر في 26-06-2016
آخر تحديث 26-06-2016 | 00:12
لا يوجد إنسان أدنى من آخر لأنه ولد في مكان ما، أو يحمل لون بشرة ما، أو يعمل في وظيفة ما، أو يعتقد اعتقاداً ما، ولكن يوجد إنسان قاتل ومتعصب وحقود، لا يعرف أن القيم محض اختيار، وأن الله، خلقنا جميعاً، وكرّمنا جميعاً، وهو الذي سيحاسبنا جميعاً يوم يحين الحساب.
 ياسر عبد العزيز تلك قصة رواها مترجم أجنبي، كان مكلفاً بترجمة رواية لنجيب محفوظ، وحين وصل إلى عبارة جاءت على لسان أحد أشخاص الرواية، أُسقط في يده، وتلعثم، وشك في أن ثمة خطأ في النص الذي يترجمه.

لقد كانت العبارة الموجهة من أحد الفتوات إلى خصم له استطاع أن يقهره في نزال، على النحو التالي: "قل أنا مرة".

لم يفهم المترجم الأجنبي ما المقصود بـ"قل أنا مرة"؛ وراح يتساءل: "هل تعبر تلك العبارة عن اكتشاف جديد توصل إليه قائلها"، أم أنها "خطأ طباعي"؟

هي ليست اكتشافاً جديداً، وليست خطأ طباعياً، كما أن الشخص الذي تم توجيه العبارة إليه لم يكن قد أجرى عملية تغيير جنس، ولكن العبارة تمثل سباباً بحقه، وتلحق به العار، وتسخر منه وتحتقره.

لم يفهم المترجم الأجنبي أنه ما زال يوجد في هذا العالم من إذا أراد أن يحقر نوعاً من البشر، وصفه بأنه نوع آخر.

بعضنا يفعل ذلك؛ فيعتقد أن الذكور أعلى وأفضل من الإناث، ويعتبر أن وصف رجل بأنه امرأة تحقير له وإهانة، في ما يكافئ المرأة ويشيد بها، فيقول إنها بـ"مئة رجل"، أو "أخت رجال".

ذلك مجتمع ذكوري، يعلي من قيمة الذكر، على حساب قيمة الأنثى، كما كان يفعل المجتمع الأميركي حين عامل السود باعتبارهم عبيداً، وأخضعهم لسيدهم "الرجل الأبيض".

لم تكن الانتهاكات الحادة التي مارسها "السيد الأبيض" بحق "العبيد السود" في الولايات المتحدة زمن العبودية، تقتصر على سلب الحق في الحياة، والتعذيب، والاعتداء الجسدي، والاستغلال الجنسي، والسجن، والسخرة فقط، لكنها كانت تمتد لتشمل ما هو أكثر عنصرية وبغضاً؛ إذ كان يعتقد بعض الأميركيين أن "عقل العبد الأسود وروحه أقل ذكاء، وأقل شعوراً بالكرامة".

في المجتمعات المأزومة، والتي لم تطرق الحداثة أبوابها، يظل بعض السكان يعتقدون أنهم "أعلى" أو "أطهر" أو "أفضل" من سكان آخرين.

يعتقد بعض سكان الريف أن سكان المدينة منحرفون، وأن نساءهم "منحلات مستباحات"، وفي المقابل يعتبر بعض سكان المدن أن الريفيين ليسوا سوى "أغبياء وسذج".

ينطبق هذا الأمر ذاته على أبناء البدو وأبناء الحضر، فكلا الجانبين يحمل للجانب الآخر الكثير من الصور والصفات التي تنال من السمعة وتحط من الكرامة، وهي صفات يتم استدعاؤها في أحوال النزاع وعند تضارب المصالح.

يحب من يتورط في هذا التنميط المخل والمسيء أن يلصق الصفات المشينة بخصومه أو مغايريه، وليس أفضل من الصفات التي تنال من عفتهم وشرفهم، لكي تلحق العار بهم وتذلهم، والإبداع في هذا الباب لا يتوقف أبداً، حتى في أوقات احتدام النزاع والأحداث المأساوية.

يذكرنا هذا بما جرى بين السنّة والشيعة من خلاف مصطنع، وهو خلاف أخذ أطرافاً من الفريقين إلى حافة الجنون،

يعاير الفريق الأول خصمه بـ"زواج المتعة"، ويعتبره "زنى"، فيما يعاير الفريق الثاني خصمه بـ"زواج المسيار" ويعتبره "زنى" أيضاً.

يؤسس الطرفان في هذه الحالة لخلافهما تاريخياً، فينسبان صفات مشينة إلى أطراف تاريخية، وهما يحرصان على أن تكون تلك الصفات ماسة بالطهارة والكرامة الشخصية، وليست متعلقة بالدور السياسي أو الرؤية والموقف.

تلك حالة ديماغوجية، تعرف أقصى درجات التعصب والحقد؛ وفيها ستعتقد أن خصمك أو منافسك أو مغايرك، ليس سوى "حيوان منعدم المروءة والشرف"، وستسعى إلى أن تعلن ذلك، لتلحق به العار.

سيمكن أيضاً أن تتطور تلك الحالة لتجعل منك مجرماً، فتقدم على قتل هذا "المغاير" كما يفعل بعض المنتمين إلى الإسلام، أو أحد مذاهبه، أو بعض المسيحيين، أو الهندوس، أو أتباع الديانات الأخرى ضد مغايريهم.

سيذكرنا هذا بما فعله اليهودي باروخ غولدشتاين، الذي فتح نيران سلاحه الآلي على المصلين المسلمين، في المسجد الإبراهيمي، في عام 1994، فقتل منهم نحو 30 مصلياً، وجرح أكثر من 150.

لم يكن غولدشتاين جاهلاً، كما لم يكن مأزوماً اقتصادياً أو اجتماعياً، ولم يشك من التهميش في المجتمع الإسرائيلي، لكنه كان ينتمي إلى جماعة دينية متطرفة، ورغم كونه طبيباً، فإنه كان يرفض مداواة غير اليهود، حتى لو لم يكونوا تورطوا في أي شكل من أشكال العداوة مع بني جلدته.

بسبب شيوع تلك القيم وتفاقم تلك الأمراض، تم ارتكاب مذبحة "أورلاندو"، التي راح ضحيتها نحو 50 قتيلاً، وعشرات الجرحى، وهي المذبحة التي خلفت أكبر قدر من الضحايا، في عملية واحدة، في الولايات المتحدة، منذ أحداث سبتمبر 2001.

وبغض النظر عما إذا كان الحادث إرهابياً أم غير ذلك، فقد جرى القتل لهؤلاء الذين اعتقد القاتل أنهم "أقل طهارة وأقل اعتباراً" مما يجب أن يكونوا عليه.

لم تتوافر بعد المعلومات الموثقة التي يمكن الاستناد إليها لتحليل الدوافع والأسباب التي حملت مرتكب حادث أورلاندو، الأميركي الأفغاني الأصل عمر متين، على ارتكاب هذ الحادث البشع، لكن متين عُرف بميوله الدينية، وبدا أنه قد شعر بالوحدة والتهميش، كما ثبت من مراجعة مسار تحركاته عشية ارتكابه هذه الجريمة أنه درس مسرحها جيداً، وأنه عقد العزم على التخلص من هؤلاء الذين يمارسون "المثلية الجنسية"، التي لا يقبلها نسقه العقائدي.

لا يتم القتل في هذه الأحوال بسبب تعارض المصالح، أو احتدام النزاع فقط كما حدث في حالة غولدشتاين، ولا يتم فقط بسبب المعاناة والشعور بالوحدة والتهميش كما حدث في حالة متين، ولكنه يتم أيضاً لأن القاتل رأى نفسه "أعلى من المقتول وأطهر".

لا يوجد إنسان أدنى من آخر لأنه ولد في مكان ما، أو يحمل لون بشرة ما، أو يعمل في وظيفة ما، أو يعتقد اعتقاداً ما، ولكن يوجد إنسان قاتل ومتعصب وحقود، لا يعرف أن القيم محض اختيار، وأن الله، خلقنا جميعاً، وكرّمنا جميعاً، وهو الذي سيحاسبنا جميعاً يوم يحين الحساب.

* كاتب مصري

متين عقد العزم على التخلص من الذين يمارسون «المثلية الجنسية» لأن نسقه العقائدي لا يقبلها
back to top