من موكادور إلى بسكرة (2-2)
أستكمل الجزء الثاني من مقال "من مكادور إلى بسكرة" الذي أركز فيه على كتاب الرحالة الجغرافي البلجيكي "جيل لوكليرك" ( 1848-1928)، وهذا الكتاب يعد وثيقة غنية بالمعلومات التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية وكل العادات والتقاليد وأنظمة الحكم والاحتفالات والملبس والمأكل وحتى السلوك العام، كتاب مثير يكشف عن بلاد المغرب والجزائر في زمن غابر ومجهول للقارئ، وقد قام بترجمته الروائي المغربي بوشعيب الساوري، وارتأيت تخصيص الحلقة الثانية والأخيرة من المقال للحديث عن الجزائر، وفقاً لما ذكره المؤلف.الرحلة الثانية كانت إلى تلمسان، بعد اجتيازه الحدود المغربية التي وصلها فجراً وانبهر بها: "لا شيء أروع من الوصول إلى تلمسان فجراً، بالكاد يمكن أن نتخيل لوحة جذابة، برؤيتها ننسى في لحظة واحدة كل متاعب السفر، مآذنها البيضاء تنبثق مثل سراب بعيد، كانت المدينة المحبوسة داخل سورها المحصن، مضطجعة فوق هضبة تشرف عليها من جبال عالية جداً ضواحٍ جميلة. من أمام المدينة، تظهر قرية بومدين المجاورة، بيضاء مثل حمامة، معلقة بجرأة على جوانب الصخور. لكن كيف نرسم بكلمات جمال غابات الزيتون هذه التي اختلطت بأشجار التين والرمان والدوالي المحملة بالعناقيد وكل الأشجار المثمرة لأوربا!".أليس هذا الوصف المبهر لمدينة عربية يهز الشوق ويدفع لزيارتها والتعرف عليها، مع الشعور بالأسف والندم أنها لم تستقطب السياحة العربية حتى الآن؟ ومن المعيب أن يدرك سحر وجمال المدن العربية الرحالة والمستشرقون أكثر من أهلها، هذا الرحالة كابد أشكالاً وألواناً متعددة وصعبة من المتاعب والأوضاع الصحية الموبوءة وشتى أنواع المخاطر، حتى يزور هذه البلاد العربية ويتمتع بسحرها ويدرك أسرار جمال الفن العربي، فقد كتب عن قبة سيدي بومدين: "اعتقدنا أننا في إقامة بـ (ألف ليلة وليلة)، فالعبقرية العربية لم يسبق لها أن ذهبت أبعد من ذلك في إبداعاتها العجيبة".
هذه القدرة العجيبة على فهم واستيعاب الفن المعماري العربي أكثر من أهله، كل تفصيلة مهما كانت عابرة وصغيرة يقف أمامها بانبهار، مدركاً قيمة البناء والحفر والنحت والرقش الفني العربي. وهذا وصف لمسجد: "قببه وحيطانه معمولة على شكل تخريم دقيق، وبشكل خاص المحراب، وهو من تُحف الصبر والدقة التي يمكن أن نشاهدها أياماً وأسابيع كاملة دون أن نستطيع استجلاء تعقيداتها المستغلقة". يفرد صفحات لوصف دقة وتعقيد الأعمال الفنية التي يشاهدها في كل ما يراه في تنقلاته، سواء كان طبيعة أو بناء أو سلوكاً أو عادات للناس في مدنهم التي يزورها، ويتوقف كثيراً عند القبايل الجزائرية، فهو يصفهم بقوله -ولا أدري إن كان هذا الاختلاف ما زال قائماً إلى يومنا هذا أم لا: "لا يشبه الرجل القبايلي المغربي في شيء، وعاداتهما مختلفة تماماً، وتختلف عن عادات العرب الرحل الذين ليس لهم سوى سكن متنقل. القبايلي فلاح يزرع ما يمتلكه من أرض ويظل مرتبطاً بالمكان الذي رأى فيه النور، يدلل العربي الحصان، بينما يبقى الحيوان المفضل لدى القبايلي هو الثور"... "لا يوجد ما يميز الراعي التنريفي والراعي العربي والراعي الألبي عن بعضهم البعض، كلهم يعيشون حياة الرحل والبطريركية ونفس النمط الذي يوجد في كل بلد".حين يكتب عن هذه المدن وأمكنتها أشعر كم نحنُ في الخليج بعيدون عن معرفتها من تلمسان إلى تيزي وزو وجبال جرجرة وتيليللت ووادي القبايل وتالة تازا وقمة لالة خديجة وتالة رانا وتاوريرت وسطيف وبسكرة وباتنة. كل هذه المدن والأمكنة الأغلبية لم تسمع بها، وكل ما هو معروف بالاسم فقط مدينة وهران وقسنطينة، وهذا يعني كم نحنُ بعيدون عن معرفة الجزائر دوناً عن بقية دول الشمال الأفريقي، هل هذا البعد بسبب الحروب التي مرت بها الجزائر؟ أم بسبب عدم وجود رحلات طيران مباشرة وسهلة إليها؟ أم أن هناك تقصيراً في تشجيع السياحة العربية إليها؟!وصف هذا الرحالة لطبيعة الجزائر تثير الدهشة والرغبة والفضول لمعرفتها واكتشافها، فكل ما كتبه عنها مثير: "سأوفر على القارئ وصف مدينة الجزائر والذي تم بما يكفي خلال ثلاثة أيام استنفدت كل تحف المدينة، المساجد والقصور الموريسكية، الأسواق والمقاهي والحمامات المغربية". ويصف الطبيعة فيها: "لا الألب ولا البيريني أكثر إغراء من أودية القبايل هذه، والذي يفتن هو هذه الأعشاب الأفريقية التي تنمو بشدة خارقة في هذه الجبال".وصفه مترف بالجمال: "يتميز غروب الشمس في هذه المنطقة بجمال عجيب، الشفافية المجزة للهواء تولد هناك آثارا جوية غير معروفة تماماً بمناطقنا الباردة بالشمال، منحت الجبال البعيدة لجرجرة لوناً ساحراً لن تستطيع أي لوحة إنتاجه، ثم تتوالى في سحر الألوان هذا، هذه الليالي الأفريقية الرائعة المميزة بسكينة لا حد لها، ملايين النجوم رصعت السماء ذات الشذرات اللامعة، إذا كان هناك رجال غير مبالين ولا يستطيعون تهييج جمال الطبيعة، فإنهم أتوا هنا لإنعاش الشعور المنطفئ للحماس".