ابنة ملك صنعاء تطير مع حبيبها على فرس الأبنوس

نشر في 27-06-2016
آخر تحديث 27-06-2016 | 00:05
تستكمل شهرزاد في الحلقة الثانية والعشرين، حكاية جديدة للملك شهريار، هي حكاية «الحكماء أصحاب الطاووس». كان في قديم الزمان ملك عظيم، ذو خطر جسيم، وكان له ثلاث بنات مثل البدور السافرة، وولد ذكر كأنه القمر، وذات ليلة دخل عليه ثلاثة من الحكماء مع أحدهم طاووس من ذهب، ومع الثاني بوق من نحاس، ومع الثالث فرس من عاج وأبنوس، فقال لهم لا أنعم عليكم حتى أجرب هذه الآلات.
ثم بدأ يجرب ما لديهم، لكنه ترك لابنه الشاب المليح مهمة تجريب الفرس الذي من عاج وأبنوس فركبه الشاب فإذا الفرس يطير، فطار به إلى مدينة صنعاء، ونزل في أحد قصورها ورأى فتاة جميلة، هي ابنة ملك صنعاء وجلس معها إلى أن دخل عليهما أبوها غاضباً.
لما كانت الليلة الخامسة والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك، لما رأى الملك هاجماً عليهما وفي يده سيف مسلول، وثب قائماً على قدميه، وتناول سيفه بيده، وصاح بالملك صيحة منكرة أذهلته وأعلمته أنه أوثب منه، فأغمد سيفه ثم وقف حتى انتهى إليه ابن الملك فقابله بملاطفة، وسأله: يا فتى هل أنت إنسي أم جني؟ فقال له ابن الملك: لولا أني أرعى ذمامك وحرمة ابنتك لسفكتُ دمَك، كيف تنسبني إلى الشياطين وأنا من أولاد الملوك الأكاسرة الذين لو شاؤوا أخذ ملكك لزلزلوك عن عزك وسلطانك، وسلبوا عنك جميع ما في أوطانك؟

لما سمع الملك ذلك، هابه وخاف على نفسه منه وقال له: إن كنتَ من أولاد الملوكِ فكيف دخلت قصري بغير إذني وهتكت حرمتي ووصلت إلى ابنتي وزعمت أنك بعلها، وادعيت أني زوجتك بها؟ أما تعلم أني لو صحت على عبيدي وغلماني وأمرتهم بقتلك لقتلوك في الحال؟

لما سمع ابن الملك منه ذلك الكلام قال له: إني لأعجب منك ومن قلة بصيرتك، هل تطمع لابنتك في بعل أحسن مني؟ وهل رأيت أحداً أثبت جناناً وأعز سلطاناً مني؟ فقال له الملك: لا والله... ولكن وددتُ يا فتى أن تكون خاطباً لها على رؤوس الأشهاد حتى أزوجك بها. فقال له ابن الملك: لقد أحسنت في قولك، ولكن أيها الملك، الرأي عندي أن تبارزني، ومن قتل صاحبه كان أحق وأولى بالملك، فإن لم ترض بالمبارزة، فاتركني هذه الليلة إلى الصباح، ثم ادع جنودك وغلمانك وعبيدك لأبارزهم.

لما كانت الليلة السادسة والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك قال للملك والد الفتاة: قل لعساكرك هذا خطب مني ابنتي على شرط أن يبارزكم جميعاً، وادعى أنه يغلبكم ويقهركم، وأنكم لا تقدرون عليه، ثم اتركني معهم لأبارزهم، فإذا قتلوني فذلك أخفى لسرك وأصون لعرضك، وإن غلبتهم وقهرتهم فمثلي يرغب الملك في مصاهرته. لما سمع الملك كلامه استحسن رأيه، وقبّل رأسه مع ما استعظمه من قوله وما هاله من أمره في عزمه على مبارزة جميع عساكره وهم أكثر من أربعين ألفاً.

ثم دعا الملك بالخادم وأمره أن يخرج من وقته وساعته إلى وزيره، ويأمره أن يجمع العساكر بأسلحتهم وخيولهم، فسار الخادم إلى الوزير وأعلمه بما أمر به الملك، فطلب الوزير أكابر الدولة وفرسانها وأمرهم أن يركبوا خيولهم ويخرجوا لابسين آلات الحرب.

وبقي الملك يتحدث إلى ابن الملك وقد أعجبه حديثه وعقله وأدبه حتى أقبل الصباح، فقام الملك وتوجه إلى قصره وأمر جيشه بالركوب إلى الميدان.

وهناك قدَّم لابن الملك فرساً من أحسن خيله، ثم نادى الملك: يا معشر الناس إن هذا الفتى جاء يخطب ابنتي، ولم أر قط أحسن ولا أشد قلباً وأعظم بأساً منه، وقد زعم أنه يغلبكم ويقهركم وحده وأنكم لو بلغتم مائة ألف ما كنتم عنده شيئاً، فإذا بارزكم فخذوه على أسنة رماحكم وأطراف صفاحكم. ثم التفت إلى الفتى وقال له: دونك وما تريد منهم. فقال له: أيها الملك إنك ما أنصفتني، كيف أبارزهم وأنا على فرس ليست لي، وهم على خيلهم التي تعودوا ركوبها؟ إني لا يعجبني أي فرس من خيلك، ولا أركب إلا الفرس التي جئت راكباً عليها. فقال له الملك: وأين فرسك؟ فقال: هي فوق قصرك في الموضع الفلاني على سطحه. فلما سمع الملك كلامه، ضحك وقال له: هذا أول ما ظهر من خبالك، كيف تكون الفرس فوق السطح؟ ثم التفت إلى أحد خواصه وقال له: أمض إلى قصري وانظر هل هناك فرس فوق السطح.

وصار الناس يتعجبون من قول الفتى ويقول بعضهم لبعض: كيف تكون الفرس على السطح؟ ... هذا شيء ما سمعنا بمثله، أما رسول الملك فلما وصل إلى القصر وصعد إلى أعلاه، رأى هناك فرساً بديعة الشكل، ولكنها من الأبنوس والعاج، وكان بعض خواص الملك معه، فلما رأوا مثله هذه الفرس تضاحكوا وقالوا: ما نظن ذلك الفتى إلا مجنوناً.

مدينة صنعاء

لما كانت الليلة السابعة والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن خواص الملك حملوا الفرس على أيديهم، ولم يزالوا سائرين بها حتى وصلوا إلى الملك فأوقفوها بين يديه، فأخذ ينظر إليها ويتعجّب من حسن صنعتها غاية العجب، ثم سأل ابن الملك: يا فتى أهذه فرسك؟ فقال نعم أيها الملك هذه فرسي، وسوف ترى منها العجب، ولكني لا أركبها إلا إذا ابتعد عنها العساكر. فأمر الملك عساكره أن يبعدوا عنها بمقدار رمية السهم، ثم نظموا صفوفهم، وقال بعضهم لبعض: إذا وصل الغلام بين الصفوف نأخذه بأسنة الرماح وشفار الصفاح. فقال واحد منهم: والله إنها مصيبة، كيف نقتل هذا الغلام صاحب الوجه المليح والقد الرجيح؟ فقال آخر: والله لن تصلوا إليه إلا بعد أمر عظيم، وما فعل الفتى هذه الفعال إلا لشجاعته وجرأته. فلما استوى ابن الملك على فرسه، فرك لولب الصعود، فماجت فرسه واضطربت، وأتت بأغرب حركات الخيل، ثم ارتفعت وصعدت إلى الجو، فلما رأى الملك ذلك نادى في جيشه وقال: يا ويلكم خذوه قبل أن يفوتكم. قال له وزراؤه ونوابه: أيها الملك هل يلحق أحد الطائر؟ ما هذا إلا ساحر قد نجاك الله منه، فاحمد الله تعالى على خلاصك من يده، ونظر الملك ومن معه فإذا الفتى قد بلغ السحاب بفرسه، فيئسوا منه، وعاد الملك إلى قصره وأخبر ابنته بما جرى من الفتى في الميدان، فوجدها كثيرة التأسٌف عليه وعلى فراقها له، ثم مرضت مرضاً شديداً ولزمت الوساد.

لما رأها أبوها على تلك الحالة ضمها إلى صدره وقبلها بين عينيها وقال لها: يا ابنتي احمدي الله تعالى على أن خلصنا من ذلك الساحر الماكر. وجعل يكرر عليها ما رآه من صعود الفتى في الهواء، وهي لا تصغي إلى شيء من قوله، بل اشتد بكاؤها ونحيبها، ثم قالت: والله لا أكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى يجمع الله بيني وبينه. فحصل لأبيها الملك همّ عظيم لأجل ذلك، وشق عليه أمر ابنته، وصار يلاطفها فلا تزداد إلا سقماً.

لما كانت الليلة الثامنة والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن هذا ما كان من أمر الملك وابنته، أما ما كان من أمر ابن الملك، فإنه لما صعد في الجو وصار وحده تذكر ما جرى له، وكان قد سأل أصحاب الملك عن مدينتهم، فعلم أنها مدينة صنعاء، ثم جد في السير حتى أشرف على مدينة أبيه، ودار حولها، ثم توجه إلى قصر أبيه ونزل فوق السطح وترك فرسه هناك ونزل إلى والده. فلما دخل عليه وجده حزيناً كئيباً لأجل فراقه، وما رآه والده حتى قام وضمه إلى صدره وفرح به فرحاً شديداً، ثم سأل الفتى والده عن الحكيم الذي صنع الفرس، فقال له والده: لا بارك الله فيه ولا في الساعة التي رأيته فيها، لأنه هو الذي كان سبباً لفراقك، وهو مسجون يا ولدي منذ غبت عنا. فطلب إليه أن يأمر بالإفراج عنه وإحضاره، ففعل ذلك وأحسن إلى الحكيم غاية الإحسان، إلا أنه لم يزوجه ابنته بحسب شرطهما، فغضب الحكيم لذلك غضباً شديداً، وندم على ما فعل.

وكان ابن الملك قد حدَّث أباه بما جرى له مع ملك مدينة صنعاء وابنته، فقال له أبوه: لو أراد الملك قتلك لقتلك، ولكن أجلك تأخّر، فإياك ومحاولة العودة إلى هناك. غير أن الفتى ما لبث أن حنّ إلى ابنة الملك صاحب صنعاء، فقام إلى الفرس وركبها، وفرك لولب الصعود فطارت به في الهواء وعلت به إلى عنان السماء، فلما كان الصباح وافتقده أبوه فلم يجده، أدرك أنه ركب تلك الفرس الملعونة وتوجه بها طائرا إلى صنعاء، فحزن على فراقه وندم كل الندم حيث لم يأخذ الفرس من ابنه، ثم قال لنفسه: والله إن رجع ولدي لن أترك لها أثراً، ثم عاد إلى بكائه ونحيبه.

الحكيم الفارسي

لما كانت الليلة التاسعة والستون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن الملك لم يزل طائراً في الجو على فرسه حتى وصل إلى مدينة صنعاء، ونزل في المكان الذي نزل فيه أولاً، ثم سار مُستخفياً حتى وصل إلى قصر ابنة الملك، ولكنه لم يجدها هناك، فعظم ذلك عليه، ومضى إلى قصر أبيها وأخذ يبحث عنها هناك، حتى وجدها في إحدى غرفه، وقد لزمت الفراش لشدة سقمها، ومن حولها الجواري يبكين شبابها وجمالها. دخل وسلم عليهن، فلما سمعت كلامه قامت إليه وجعلت تقبله بين عينيه وتضمه إلى صدرها، وقالت له: لو طالت غيبتك عني لكنت هلكت بلا شك. فقال لها: هل علمت بما صنع معي والدك؟ والله لولا محبتك لقتلته وجعلته عبرة للناظرين، ولكني أحبه لأجلك. فقالت: كيف تغيب عني وهل تطيب حياتي بعدك؟ فقال لها: إن كنت تحبينني حقاً فتعالي معي إلى بلادي وملكي. فقالت له: حبا وكرامة. فلما سمع كلامها فرح فرحاً شديداً وأخذ بيدها وصعد بها إلى سطح القصر حيث ركب فرسه وأركبها خلفه، ثم حرك لولب الصعود الذي في كتف الفرس، فصعدت بهما إلى الجو، ولما رأت الجواري ذلك، فزعن وصرخن، ثم أعلمن الملك بما حدث، فصعد إلى سطح القصر، ونظر في الجو فرأى الفرس الآبنوس طائرة بهما في الهواء، فاشتد انزعاجه وصاح بابن الملك: سألتك بالله أن ترحمني وترحم زوجتي ولا تفرق بيننا وبين بنتنا.

التفت ابن الملك إلى الفتاة وقال لها: يا فتنة الزمان، هل تريدين أن أردك إلى أمك وأبيك؟ فقالت له: يا سيدي ما مرادي إلا أن أكون معك، لأنني مشغولة بمحبتك عن كل شيء حتى عن أمي وأبي. فلما سمع كلامها فرح بذلك فرحاً شديداً، ولم يزل طائراً بها على الفرس، حتى شعرا بالجوع والظمأ، فهبطا إلى مرج أخضر فيه عين ماء جارية، وأكلا وشربا، ثم ركب فرسه وأردفها خلفه فأنزلها في بعض البساتين التي يتفرج فيها والده، وأدخلها المقصورة المعدة لأبيه وأوقف الفرس الأبنوس على باب المقصورة، ثم قال للفتاة: انتظري هنا حتى أرسل إليك رسولي، فأنا متوجه إلى أبي لأهيئ لك قصراً نعيش فيه معاً. ففرحت وقالت له: افعل ما تريد.

لما كانت الليلة السبعون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الفتاة فرحت بما سمعته من ابن الملك، ولما دخل هو فرح والده بقدومه ورحب به، ثم قال ابن الملك لوالده: لقد أتيت ببنت ملك صنعاء، وقد تركتها خارج المدينة في بعض البساتين، وجئت إليك لأجل أن تهيئ الموكب وتخرج لملاقاتها في جنودك وأعوانك، فقال له الملك: «حباً وكرامة». ثم أمر من وقته وساعته بأن يزينوا المدينة وركب في أكمل هيئة وأحسن زينة، ومعه جميع عساكره وأكابر دولته.

بينما أخرج ابن الملك من قصره نفائس الحلي والحلل التي من الديباج الأخضر والأحمر والأصفر وأعدّ قصراً بديعاً ملأه بهذه النفائس، وبالجواري الهنديات والحبشيات، وجعل فيه من الذخائر شيئاً عجيباً. ثم توجه إلى البستان الذي تركها فيه، ولكنه لم يجدها، ولم يجد الفرس.

فلطم وجهه ومزّق ثيابه، وجعل يطوف في البستان مدهوش العقلِ، ثم قال لنفسه: أنا لم أعلم بسر الفرس، ولعل الحكيم الفارسي الذي صنع الفرس هو الذي أخذها انتقاماً من والدي. ثم دعا الفتى حراس البستان وسألهم عمن دخل البستان، فقالوا: ما رأينا أحداً دخل هذا البستان سوى الحكيم الفارسي، فإنه دخل ليجمع الحشائش النافعة، فلما سمع كلامهم صح عنده أن الذي أخذ الجارية هو ذلك الحكيم.

ذو الوجه القبيح
لما كانت الليلة الحادية والسبعون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك لما ترك الجارية في المقصورة التي في البستان وذهب إلى قصر أبيه، دخل الحكيم الفارسي إلى البستان ليجمع شيئاً من الحشيش النافع، فشم رائحة المسك والطيب المنبعثة من ابنة الملك، وأخذ يبحث عن مصدرها حتى وصل إلى المقصورة، فرأى الفرس التي صنعها بيده واقفة على بابها، وامتلأ قلبه فرحاً وسروراً، لأنه كان كثير التأسف على خروجها من يده. فتقدم إلى الفرس وتفقد جميع أجزائها، فوجدها سالمة، ولما أراد أن يركبها قال لنفسه: لا بد من أن أنظر ما جاء به ابن الملك وتركه مع الفرس هنا. فدخل المقصورة حيث وجد ابنة الملك جالسة كالشمس الساطعة، فعلم أن لها شأناً عظيماً، وأن ابن الملك ما تركها في تلك المقصورة وتوجه إلى المدينة إلا ليجيء لها بموكب ويدخلها المدينة بالتبجيل والتشريف.

دخل الحكيم على الفتاة وقبّل الأرض بين يديها، فرفعت إليه طرفها ونظرت إليه فوجدته قبيحَ المنظر بشعَ الصورة، وقالت له: من أنت؟ فقال لها: أنا يا سيدتي رسول ابن الملك، قد أرسلني إليكِ وأمرني بأن أنقلك إلى بستان آخر قريب من المدينة.

لما سمعت الجارية منه ذلك الكلام قالت له: وأين ابن الملك؟ قال لها: هو في المدينة عند أبيه، وسيأتي إليك في هذه الساعة بموكب عظيم. فقالت له: هل ابن الملك لم يجد أحداً يرسله إليّ غيرك؟ فضحك الحكيم من كلامها وقال له: يا سيدتي لا يغرنك قبح وجهي وبشاعة منظري، فلو نلت مني ما ناله ابن الملك لحمدت أمري، وإنما اختارني سيدي ابن الملك مع قبح منظري وصورتي، غيرة منه عليك، وإلا فعنده من المماليك والعبيد والخدم والحشم، عدد لا يحصى. فلما سمعت الجارية كلامه صدقته وقامت معه.

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد

ملك صنعاء يدعو خطيب ابنته لمبارزة جيش من 40 ألف فارس

جنود الملك يبحثون عن فرس في سطح القصر

ابن الملك يمتطي فرسه ويطير لمشاهدة والده الحزين لفراقه

الملك يحذر ابنه من العودة إلى صنعاء خشية أن يحدث ما لا يحمد عقباه
back to top