كان قرار الشقيقين عماد وعبدالرحمن بإغلاق شركة الإعلانات نقطة تحول في حياة كل منهما، ليس لإخفاق مشروعهما الأول عقب إنهاء دراستهما، لكن علمتهما التجربة التأني في الخطوات المقبلة. وجد عبد الرحمن وظيفة في الجمعية الزراعية الملكية، وعين عماد حمدي محاسباً بمستشفى {أبو الريش}، فافترق التوأمان للمرة الأولى في الحياة العملية. المفارقة أن الفراق استمر طويلاً، فعماد حمدي احترف الفن، بينما استقر عبد الرحمن في السلك الدبلوماسي مستفيداً من تحدثه الإنكليزية والفرنسية بطلاقة.استعاد عماد حمدي ذكريات الطفولة وحلم الالتحاق بمدرسة الطب الذي بددته الظروف المادية، ووجد في عمله فرصة لتعويض ما فاته، فحبه للطب ومساعدة المرضى جعله يتغلب على كراهيته للحسابات والأرقام التي كانت سمة أساسية في طبيعة عمله الجديد، كموظف للحسابات في المستشفى الشريف في قلب القاهرة، ليكون بعدها بأسابيع {باشكاتب} المستشفى الذي يتردد اسمه على لسان المرضى والأطباء من دون استثناء. نشأت بينه وبين الأطباء والممرضين علاقة صداقة قوية، وساعده خروجه المستمر من مكتبه، فهو ليس مجرد {باشكاتب} يمارس عمله ويغادر مع انتهاء الدوام، إنما شغفه بالطب والأطباء جعله يتردد على أقسام المستشفى، وكان يتجول بين الاستقبال وأقسام الولادة وغيرها، ويرى فيها نظرات السعادة بخروج المرضى من المستشفى بعد علاجهم، ويتابع بحذر نظرات البعض بقلق لغرفة الجراحات، ويستمع إلى عائلات تصرخ بعد علمها بوفاة قريبها. إلا أن مشهد تسلم مسؤول الصحة الأطفال اللقطاء كان الأكثر تأثيراً فيه، وسأل نفسه مراراً كيف لأب وأم أن يتركا ابنهما ويهربا ليواجه الطفل مصيره المجهول بعيداً عنهما؟
أمضى عماد حمدي أشهراً في عمله الجديد، وتوطدت علاقته بالعاملين فيها، ومنحته مواعيد العمل المنتظمة فرصة العودة إلى هوايته القديمة، التمثيل، فكان يتردد بين الحين والآخر على فرقة {أنصار التمثيل والسينما} ليشاركها على استحياء وبحسب مواعيد عمله في المستشفى، فتحول التمثيل إلى هواية يقتنص الوقت لممارستها، وبدأ يهتم بالفنون، لكنه حرص على ألا تعطل هوايته عمله الذي أحبه.جمع الاهتمام بالفن بين عماد حمدي وزميله في المستشفى صلاح ذهني، الأديب والقاص في ما بعد، فكانا يقصدان المسرح سوياً ويتابعان عروض فرق جورج أبيض وعزيز عيد وعلي الكسار، واقترح عماد أن يترجما نصوصاً مسرحية لتقديمها للفرق المسرحية الكبرى، فغالبية نصوص هذه الفرق كانت مترجمة من الأدب العالمي ثم يتم تمصيرها. لاقت الفكرة استحسان صلاح ذهني، واتفقا على ترجمة مسرحية {الغوغاء} للأديب البريطاني جون غلزورثي الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1932.لم يكن اختيار الصديقين للرواية إعجاباً بالأدب الإنكليزي فحسب، بل ارتبط بقضايا اجتماعية طرحها غلزورثي في كتابته، ورصد قصص تهاوي الطبقة الأرستقراطية أمام صعود الطبقة المتوسطة عالمياً، فأثرت النصوص في عماد وكوّنت شخصيته، وبدأ مع صديقه ترجمة النص بلقاءات أسبوعية بينهما ومواعيد بعد انتهائهما من أعمالهما. لكن الوضع لم يستمر طويلاً فبعد ترجمتهما صفحات معدودة فوجئ عماد بخبر نقل صديقه إلى الفيوم.إنقاذاً للموقف، اقترح عماد على صديقه صلاح تبادل الزيارات، بحيث يزوره في الفيوم في عطلته في نهاية الأسبوع الأول من الشهر، ويأتي صلاح إلى القاهرة في عطلته في الأسبوع التالي، لاستكمال ترجمة االنص الإنكليزي وتقديمه لجورج بك أبيض في موسمه المسرحي. لكن مشقة السفر بسبب عدم تمهيد الطرق آنذاك، أحبطت مخططاتهما وأنهت المشروع في مهده، فلم يخرج النص إلى النور.
نقطة تحول
في المرة الوحيدة التي ذهب فيها عماد حمدي إلى الفيوم، مرت السيارة التي كان يستقلها من أمام أستوديو مصر، وكانت تخرج منه أصوات زفة اعتقد في البداية أنها جلسة صوفية. لكن ما سمعه وشاهد جزءاً منه خلال مرور السيارة لم يكن سوى مشاهد من تصوير فيلم {وداد} (إنتاج 1935)، فشعر بانجذاب غريب إلى السينما التي كانت في بدايتها، خصوصاً بعد الانتقال من المرحلة الصامتة إلى الناطقة، وقرر التوجه إلى الأستوديو فور عودته من زيارة صديقه صلاح ذهني.بعد عودة عماد حمدي من الرحلة الشاقة التي قرر بعدها عدم الذهاب إلى الفيوم مجدداً، غاب عن عمله في اليوم التالي، وزار الأستوديو الذي لم يكن يحيط به أي شيء، فموقعه في نهاية شارع الهرم في محافظة الجيزة، تحيط به مناطق زراعية، باعتبار أن شارع الهرم كان شبه مهجور في ثلاثينيات القرن الماضي. توجه إلى الأستوديو البعيد، وفضل الجلوس في أحد المقاهي القريبة منه التي تخدم العاملين فيه، ومن هناك استمع إلى حكايات وقصص عن الأستوديو.كانت كلمات العمال عن الأستوديو والأفلام التي يتم تصويرها، تؤكد لعماد حمدي أن مكانه الصحيح هناك وسط الفن والفنانين، وأن موهبته قد تجد لها مساحة داخل الأستوديو الكبير، الذي أسسه طلعت باشا حرب، فسأل عن العاملين والمسؤولين بالأستوديو للتواصل معهم، حتى سمع اسم صديقه القديم محمد رجائي، خريج مدرسة التجارية العليا، فقرر زيارته وسؤاله حول فرصة عمل تناسبه.دخل حمدي إلى الأستوديو وسأل عن زميل الدراسة القديم، يقينا منه بأنه سيتذكره لأنهما افترقا قبل أقل من خمس سنوات، وهي فترة لا تسمح بنسيان تفاصيل المدرسة (الكلية)، لا سيما أن خريجي المدرسة في السنة الواحدة كانوا محدودين، ودار بينهما حوار طويل تحدث فيه عماد للمرة الأولى حول رغبته في احتراف التمثيل.رجائي: يا ترى مبسوط في شغلك يا عماد؟عماد: الحمد لله الناس كويسة في {أبو الريش} لكن نفسي أركز في التمثيل، الهواية القديمة من أيام الدراسة. صحيح أنا بروح فرقة أنصار التمثيل، لكن لما عديت من قدام الأستوديو حسيت أن ممكن يبقى طريقي مختلف في السينما.رجائي: والله في التمثيل دلوقتي معندناش وظايف فاضية... بس فيه وظيفة رئيس قسم الحسابات فاضية تحب تيجي؟عماد: أكيد طبعاً موافق.رجائي: طيب خلص أوراقك في أبو الريش وتعالَ وأنا في انتظارك.صحيح أن حلم عماد حمدي بالحصول على فرصة في التمثيل قد تعثر، وسينتقل إلى الأستوديو كمحاسب، لكنه شعر بأنه سيعوض ذلك بمشاهدة النجوم والاقتراب منهم ومتابعة كيفية خروج الفيلم إلى النور، مثلما فعل في المستشفى. صحيح أنه لم يدخل مدرسة الطب لكنه حصل على بعض الخبرة بعد احتكاكه بالأطباء، وهو ما كرره خلال فترة عمله في أستوديو مصر.محطة جديدة
خرج عماد من الأستوديو متجهاً إلى مستشفى أبو الريش، وقف أمام بابه قليلاً ليتذكر السنوات الثلاث التي أمضاها فيه، ولحظات الآلام والسعادة التي شاهدها، علاقته بزملائه وأصدقائه من الأطباء، وتطفله على غرف الجراحات، وغيرها من لحظات بقيت في ذاكرته مدى الحياة. دخل مكتب مدير المستشفى الدكتور إبراهيم باشا شوقي، وكان يعرفه شخصياً بحكم تعاملهما المباشر في أمور مالية.عماد: إزيك يا دكتور؟الدكتور: أهلا يا عماد إزيك، خير جايب معاك حسابات جديدة؟عماد: لا يا باشا أنا جايب لحضرتك استقالتي.الدكتور: استقالتك؟ ليه يا عماد إيه اللي حصل؟عماد: أنا هشتغل في السينما فقلت أستقيل بقى لأن مش هينفع السينما جنب المستشفى.الدكتور: سينما إيه بس أنت هنا في وظيفة محترمة حدّ يسيب الوظيفة ويروح السينما.عماد: معلش بقى يا باشا التمثيل ده حلم قديم قوي.الدكتور: بس أنت يا ابني كده بتضيع مستقبلك.عماد: يا دكتور ده حلم قديم والحمد لله هيتحقق ده اتأخر كتير قوي.الدكتور: يا ابني فكر كويس أنت كده بتتهور.عماد: ماعلش يا دكتور صدقني مش هبقى مبسوط لو كملت هنا.الدكتور: خلاص براحتك يا ابني، اللي أنت شايفه صح اعمله، ربنا يوفقك في شغلك الجديد.غادر عماد حمدي مكتب المدير، وذهب ليودع أصدقاءه في المستشفى الذين صدمهم الخبر المفاجئ، فلم تكن ثمة مقدمات له. ودعوه بحرارة وعبروا عن حبهم له، وخرج من المستشفى باكياً، ملقياً النظرة الأخيرة على المكان الذي عمل فيه أكثر من ثلاث سنوات، فرغم ذهابه للعمل في الأستوديو الذي أحبه، كان حزيناً على فراق من جمعته بهم أروقة مستشفى أبو الريش.مثلما اختلط بالعاملين في المستشفى، حرص عماد حمدي على الاختلاط بالعاملين في استوديو مصر، ولم تبعده الحسابات عن البلاتوه. كان يتحرك ويشاهد كواليس صناعة الأفلام، ونشأت بينه وبين العاملين فيه علاقات صداقة ومودة، فيما لم يكن له أي احتكاك بالفنانين في بداية الأمر، لأن هؤلاء كانوا يتقاضون أجورهم من مدير الإنتاج، وليس قسم الحسابات على غرار باقي العمال. وكانت تلك الفترة المرحلة الذهبية التي خرج منها كبار المخرجين فيما بعد، فتعرّف إلى صلاح أبو سيف وكمال الشيخ بالإضافة إلى حسن الإمام الذي كان يعمل آنذاك «عامل كلاكيت».جلس عماد حمدي ساعات في غرفة المونتاج مع صلاح أبو سيف وكمال الشيخ يراقب كيف يتعاملان مع المادة الفيلمية المصورة، ويشاهد أفلام نجيب الريحاني، حسين صدقي والممثل الشاب آنذاك أنور وجدي قبل خروجها إلى النور، فضلا عن طريقة أدائهم أمام الكاميرات من خلال متابعة فترات التصوير في الديكورات التي بنيت خصيصاً لأفلامهم داخل الأستوديو.كانت طبيعة عمل رئيس قسم الحسابات لا تجعله يستغرق أكثر من ساعتين كي ينهي أعماله، يراجع خلالها الأوراق ويحدّد الإيرادات والمصروفات، ليبدأ بعدها التجول بين البلاتوهات، ويمضي ساعات طويلة متابعاً الحركة الفنية، ومشاهداً مشاهير السينما عن قرب من دون أي حديث معهم، أو الاقتراب منهم. فرغم شعوره بأن موهبته في التمثيل تحتاج نصف فرصة لتظهر، لم يرغب في أن يُفهم الأمر كأنه يفرض نفسه على المخرجين والممثلين، بحكم عمله في الأستوديو، ومنعته عزة نفسه واعتزازه بكرامته من الحديث في هذا الأمر، أو حتى مجرد التلميح به علناً أمام أي شخص داخل البلاتوه.كانت حماسة عماد حمدي للعمل السبب الرئيس في تفوقه، وإنجازه المهام الحسابية في زمن قياسي، فحظي بعلاوات ومكافآت في فترة زمنية قصيرة، واسندت إدارة الأستوديو إليه وظيفة مدير الإنتاج، ليكون تعامله المباشر مع الفنانين مع إسناد وظيفة رئيس الحسابات إلى شخص آخر.ممثل بالمصادفة
ظلّ فتى الشاشة الأول بعيداً عن الشاشة، يكتفي بالتنقل بين بلاتوهات استوديو مصر للتعامل مع الفنانين، وخلال عمله كمدير إنتاج طلبت وزارة الصحة تنفيذ أفلام تسجيلية إرشادية للتحذير من مخاطر الأمراض التي تصيب الفلاحين نتيجة استخدامهم مياه الترع والمصارف، وكان المطلوب منه كمدير للإنتاج تنفيذ هذه الأفلام بأقل كلفة إنتاجية ممكنة، لأنها لن تطرح في دور العرض، بل ستقتصر على الفلاحين في القرى خلال القوافل التي تنظمها وزارة الصحة.كانت الأفلام التسجيلية والإرشادية مزدهرة في تلك الفترة لأن جهات عدة تنفذها، وتم الاتفاق مع عماد حمدي على أن يكون المسؤول الإنتاجي الأول عن هذه الأعمال، فوافق مرحباً بالفكرة وخطوات تنفيذها، وتولى مسؤول طبي كتابة السيناريو، وأسندت مهمة إخراجها إلى المخرج جمال مدكور الذي قدم عشرات الأفلام التسجيلية الإرشادية.فكّر عماد حمدي في الشخص الذي يوافق على التمثيل مجاناً في هذه الأفلام لتقليل النفقات، حتى قرر أن يؤدي بنفسه بطولتها باعتباره موظفاً في الأستوديو، ولن يتقاضى أجراً إضافياً، وفي الوقت نفسه يشبع هواية التمثيل المكبوتة في داخله، ثم جمهور هذه الأفلام ليس جمهور السينما الذي يذهب لمشاهدة أفلام حسين صدقي ومحسن سرحان، ولا عائد متوقعاً منها، وبالتالي لن تضر مشاركته ببطولتها.عرض عماد الأمر على المخرج جمال مدكور بعد الانتهاء من سيناريوهات الأفلام، وشرح له تجاربه السابقة على المسرح، فوافق مدكور بعدما لمس حماسة لدى عماد حمدي خلال حديثه عن الأفلام ومذاكرته لتفاصيلها، قبل مفاتحته في الأمر. قرر منحه الفرصة، وبدأ التصوير بعد أيام قليلة لتشهد هذه الأفلام بداية وقوف فتى الشاشة أمام الكاميرات. لكن لم يشاهد صانعو السينما هذه التجربة كما كان متوقعاً، مع ذلك لم يشعر عماد باليأس، وفعلاً جاءته الفرصة. كيف جاءت وكيف تعامل معها؟\الموسيقار عماد حمدي
رغم افتراق عماد عن شقيقه عبدالرحمن بحكم اتجاه كل منهما إلى مجال عمل مختلف، فإن وجودهما في منزل واحد فترات طويلة ساعد عبد الرحمن في إقناع عماد بتعلم الموسيقى التي اهتم بها عبد الرحمن ما أثار فضول عماد، فقرر الالتحاق مع شقيقه بمدرسة «تيرجمان» لتعليم الموسيقى.كانت المدرسة وجهة الراغبين في تعلم الموسيقى، ضمت مجموعة من المدرسين الذين درسوا الموسيقى في الخارج. بعضهم أحب مصر واستقر فيها، والبعض الآخر جاء مدرساً للآلات الغربية التي لم تكن منتشرة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين. وضمت المدرسة طلاباً من مختلف الطبقات الاجتماعية، ومن ضمنهم الشاب الذي سيلمع في سماء النغم باعتباره موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.تعلم عماد حمدي في المدرسة العزف على البيانو وقراءة النوتة الموسيقية، وأظهر مهارة في سرعة التعلم، وتفوق على زملائه الذين بدأوا معه في المرحلة نفسها، ودفعه النجاح إلى زيادة دروسه لآلات أخرى، وراح يقرأ في كتب الموسيقى ويستمع إلى المقطوعات التي يتم تشغيلها في بهو المدرسة.بعد تردده إلى المدرسة بانتظام على مدى أشهر بشكل شبه يومي، وجد أن الموسيقى بدأت توثر سلباً في عمله في المستشفى، وتراكمت الأوراق التي كان يفترض أن ينتهي منها، ليس لتردده على المدرسة فحسب، بل لأنه كان يعزف لزملائه في المستشفى في أوقات راحتهم، فتوقف عن دراسة الموسيقى واكتفى بممارسة هواية التمثيل.لم يمنع ذلك عماد حمدي من حضور حفلات الفرق الأجنبية التي كانت تأتي إلى مصر، للاطلاع على أحدث المقطوعات الموسيقية مكتفياً بمتابعة الهاوي للموسيقى وتطورها، ما ساعده كثيراً بعد اقتحامه مجال التمثيل، ولا أحد يعلم التطورات لو استمرّ حمدي في مجال الموسيقى، فربما نكون فقدنا الموسيقار عماد حمدي لكننا في المقابل كسبنا ممثلاً من طراز فريد.