قبل ثوان من دخول المستشار عادل صدقي إلى قاعة المحكمة، صرخ فينا «حاجبها» عم عبد اللطيف قائلاً: «محكمة». انتفض الحضور... وقوفاً... في وقت واحد، بينما بقي مهرب المخدرات الإسرائيلي يوسف طحان متكوراً فوق مقعده كالثعبان، داخل «قفص» محكمة جنايات القاهرة.

جلس القاضي المستشار عادل صدقي، وهو شقيق رئيس وزراء مصر الأسبق عاطف صدقي، على منصة المحكمة، ومعه أيضاً المستشاران محمد حمزة وحسين أيوب، عضوا هيئة المحكمة. بالقرب منهم، جلس كل من شعراوي عباس وعبد الله لاشين لأمانة سر المحكمة، وحسين التهامي وكيلاً للنائب العام وممثلاً للادعاء. وفور جلوس الحضور على المقاعد الخشبية المميزة لقاعة محكمة جنايات القاهرة، التفت المستشار صدقي إلى الحاجب، قائلاً برزانة: «نادِ على القضية رقم 106 لسنة 85 مخدرات النزهة». صوت عم عبد اللطيف «الحاجب» يدوي في قاعة المحكمة: «المتهم يوسف أمين طمان». فحيح الثعبان الإسرائيلي يأتي من قفص الاتهام مصححاً نداء الحاجب قائلا: «اسمي يوسف أمين طحان... مش طمان».

Ad

أشار المستشار عادل صدقي إلى حراس قفص الاتهام بفك القيد الحديد (الكلابشات) من يديّ المتهم يوسف طحان، وإخراجه من القفص ليقف أمام هيئة المحكمة. خرج طحان من قفصه وزحف بين مقاعد الحاضرين، رفع يده اليسرى كي يخفي بها وجهه عن كاميرات المصورين، هو قصير القامة، لحيته بنية اللون كثيفة الشعر، بشرته كالحة مائلة إلى الصفار، وعينه الصناعية، قال لي من داخل قفص الاتهام بأنها «فقئت» بفعل انفجار قنبلة يدوية، أثناء تدريبه العسكري في الجيش الإسرائيلي.

توقف زحف الثعبان الإسرائيلي، حسب تسمية الصحافة المصرية له آنذاك، أمام منتصف منصة المحكمة، أصبح في مواجهة قضاته، الذين وضع أمامهم على المنصة ملف قضية المخدرات التي ضبط فيها الطحان متلبساً، وهو كنز من الأوراق والمعلومات والوثائق الرسمية التي لم ينشرها أحد لغاية الآن، والتي لو دققنا جيداً بين سطور هذه الأوراق لصدمتنا الكارثة تلو الكارثة.

أول الخيط

عند تصفح أوراق القضية يصادفنا إخطار من مدير الإدارة العامة لشرطة ميناء القاهرة الجوي، اللواء حسن فراج، يخطر فيها كل الجهات المختصة بضبط راكب إسرائيلي يدعى يوسف أمين طحان، «متلبسا» بتهريب الهيروين إلى مصر، ثم نجد محضراً بضبط «الواقعة» يحمل رقم 199 لسنة 1985، ومحضراً بتحريز المضبوطات التي وجدت مع المهرب الإسرائيلي لحظة تفتيشه، ومحضر التحقيق الذي أجرته نيابة المخدرات مع المهرب «اللغز» نفسه، وتقريراً خامساً من المعمل الجنائي لمصلحة الطب الشرعي، بعدما حلّل المعمل المادة المضبوطة مع المهرب لبيان حقيقتها، ووزنها، وكذا قائمة بأدلة الإثبات والشهود في الجناية المتهم فيها يوسف طحان، بتهريب الهيروين إلى مصر، ثم أمر بإحالة المتهم، وقضيته إلى محكمة جنايات القاهرة.

قبل أن تبدأ وقائع المحاكمة تعالوا نتصفح أولا أوراق ملف القضية، بداية من الإخطار الرسمي المحرر بخط اللواء حسن فراج، مدير الإدارة العامة لشرطة ميناء القاهرة الجوي، وفيه يقول: «بتاريخ اليوم 18 أغسطس 1985، وفي نحو الساعة الخامسة والنصف صباحاً، ضبط بمعرفة السلطات الجمركية الراكب يوسف أمين طحان، وهو إسرائيلي الجنسية، من أصل مصري، ولد في حي باب الشعرية بالقاهرة في 29 ديسمبر 1942، ويدعي أنه عامل ألمونيوم، ومقيم بأشدود، ويحمل جواز سفر إسرائيلياً رقم «2694615»، صادراً في تاريخ 29 مارس 1985.

أتى إلى القاهرة على طائرة مصرية قادمة من مدينة بومباي الهندية، وبحيازته كمية من مادة داكنة اللون يشتبه في أن تكون من الهيروين، كان يخفيها داخل أكياس بلاستيك شفاف، ومخبأة داخل علب السجائر والبسكويت وبين طيات ملابسه، وبوزن المادة المضبوطة مع الراكب على ميزان غير حساس، اتضح أن وزنها كيلوغرام و35 غراماً. وبمواجهة المتهم بما أسفر عنه الضبط والتفتيش، اعترف بحيازته المضبوطات، وأقرّ بأنه اشتراها من مدينة بومباي في الهند، وكان ينوي السفر بها إلى إسرائيل عن طريق ميناء «رفح» البري. وتحرر بالواقعة المحضر رقم 199 ضبط جمركي لسنة 1985، ولهذا نخطركم... برجاء الإحاطة».

ويقول محضر الضبط المشار إليه: «بمعرفتنا نحن أحمد أمين الزيات، رئيس قسم تفتيش الركاب بمطار القاهرة الدولي، وفي تمام الخامسة والنصف من فجر الأحد الموافق 18 أغسطس 1985، تم فتح هذا المحضر، لإثبات أن طائرة مصر للطيران القادمة من مدينة بومباي في الهند، وصلت إلى مطار القاهرة في نحو الخامسة صباحاً، وأثناء إنهاء الإجراءات الجمركية للركاب القادمين عليها، تبين أن أحد ركابها، وهو يوسف أمين طحان، كان ماراً بالخط الأخضر في الصالة «رقم 2»، محاولاً الخروج من دون تفتيش من المكان المخصص لمرور من لا يحملون معهم ممنوعات، حاملاً أمتعة في حقيبتين، واحدة بنية اللون والثانية زيتية.

استوقف عصام أنور عطية مأمور الجمرك المعين للعمل في الصالة الخضراء، هذا الشخص، وطلب منه الاطلاع على جواز سفره، فتبين أن الراكب إسرائيلي الجنسية من أصل مصري، وبتفتيش حقيبته البنية عثر على علبتي بسكويت ملفوفتين داخل طيات ملابسه، ولاحظ أن فيهما انتفاخاً غير طبيعي، وطلب أيضاً من الراكب نفسه فتح الحقيبة الزيتية، وعثر في داخلها على علبتي سجائر، وفيهما الانتفاخ نفسه الموجود في علبتي البسكويت.

تشكيل لجنة

يتابع اللواء حسن فراج، مدير الإدارة العامة لشرطة ميناء القاهرة الجوي، إخطاره الرسمي بالواقعة، قائلاً: وبعد عرض الأمر علينا، وعلى بقية المسؤولين في جمرك مطار القاهرة، شكلنا اللجنة اللازمة لتفتيش أمتعة الراكب جيداً، وفي حضوره وبفض علبتي البسكويت عثر في داخل كل علبة منهما على كيس أبيض شفاف يحتوي على مادة داكنة، يشتبه في أن تكون من الهيروين، وبفض علبة السجائر، عثر في داخلها على 14 علبة، وفي كل علبة كيس بلاستيك شفاف، يحتوي على المادة الداكنة نفسها التي يشتبه في أن تكون من الهيروين أيضاً، وبفض علبة السجائر، عثر على 15 علبة، في داخل تسع علب منها الأكياس نفسها، والمادة الداكنة اللون نفسها.

كذلك عثر داخل الحقيبة البنية وبين طيات ملابس الراكب الإسرائيلي على علبة صغيرة من الصفيح، ذات ألوان حمراء وبيضاء، لبودرة الأسنان ماركة «كولغيت»، وبين محتوياتها كيس بلاستيك شفاف يحتوي على المادة نفسها التي يشتبه في أن تكون مادة الهيروين، وعثر على الحقيبة نفسها، وبين طيات ملابس الراكب نفسه على علبة معجون أسنان ماركة «كولغيت» أيضاً، وقد استبدل ببعض محتوياتها كيس بلاستيك شفاف فيه المادة نفسها التي يشتبه في أن تكون مادة الهيروين.

وبالتفتيش الذاتي للراكب نفسه، عثر معه أيضاً، على حقيبة يد سوداء صغيرة، فيها أوراق خاصة بالمتهم، وبينها أربعة أكياس بلاستيك أخرى، في داخلها المادة الداكنة نفسها، وبذلك يكون عدد الأكياس المضبوطة مع الراكب الإسرائيلي المذكور 26 كيساً، بوزنها على الميزان غير الحساس، والخاص بمكتب بريد المطار، وجد أن وزن جميع الأكياس كيلوغرام و35 غراماً، فقط لا غير، وعليه أمرنا بتحريز المضبوطات، وإرسالها إلى المعمل الجنائي، في مصلحة الطب الشرعي، الذي أثبت في تقريره المرفق بأوراق القضية بأن المادة المضبوطة هي مادة مخدر الهيروين، وأن وزنها الحقيقي على ميزان المعمل «الحساس» كيلوغرام و28 غراماً بالضبط وليس 35 غراماً.

وبمواجهة الراكب الإسرائيلي، اعترف بصحة الضبط، وبملكيته المضبوطات، وبسؤاله عن مصدر المضبوطات التي يحملها، أقرّ بأنه أحضرها من مدينة بومباي الهندية، للسفر بها مرة ثانية إلى إسرائيل، عن طريق معبر «رفح»، رغم أن جواز سفره الإسرائيلي الذي يحمل رقم 2694615 ثابت فيه أنه حاصل على تأشيرة دخول وإقامة في القاهرة، لمدة شهر كامل، ما يفضح كذبه، ويؤكد أن المخدرات المضبوطة معه كان ينوي بيعها في القاهرة».

وبعدما تلي هذا المحضر على الراكب الإسرائيلي يوسف طحان، وقّع عليه، وعلى اعترافه بصحة الضبط والواقعة، ثم أقفل المحضر بعدها في ساعة تاريخه، وكانت السابعة من صباح الأحد الموافق 18 أغسطس عام 1985.

إعادة التحقيق

في نحو الواحدة من ظهر الأول من ديسمبر 1985، أعيد فتح المحضر في قضية الإسرائيلي يوسف أمين طحان، المتهم بتهريب المخدرات إلى مصر، بهيئة التحقيق السابقة نفسها، لسماع شهادة أحمد أمين رئيس قسم تفتيش الركاب في جمرك القاهرة، كذلك نائباه أحمد صلاح أيوب، وعبد النبي عباس، ولم تختلف أقوال الثلاثة عن تلك التي سبق أن أدلى بها زميلهم عصام أنور عطية، وبعد عرض الأوراق على المحامي العام آنذاك المستشار أحمد حلمي، قرر في 9 ديسمبر 1985 ما يلي: أولاً، إحالة أوراق القضية إلى محكمة جنايات القاهرة، مع استمرار حبس المتهم الإسرائيلي يوسف أمين طحان، وثانياً، ندب المحامي صاحب الدور للدفاع عن المتهم المذكور عند مثوله أمام هيئة المحكمة الموقرة.

نعود إلى سياق التحقيقات ونرصد تقرير النيابة العامة عن القضية، الذي جاء فيه: «في نحو الواحدة والنصف من ظهر العاشر من أكتوبر عام 1985، وبمعرفتنا نحن وكيل نيابة مخدرات القاهرة، حسين التهامي، أعيد فتح المحضر لإثبات ورود تقرير المعمل الجنائي في مصلحة الطب الشرعي رقم 2856 الثابت به أن المادة المضبوطة مع المتهم الإسرائيلي يوسف أمين طحان، عبارة عن 26 كيساً صغيراً من البلاستيك الشفاف، في داخل كل منها مسحوق لونه «بيج» ووزنه قائم بالأكياس جميعها، هو كيلوغرام و28 غراماً بالضبط. وبالتحليل المعملي، ثبت أن المسحوق المضبوط، هو مسحوق الهيروين المدرج بجدول المخدرات».

وفي نحو الثانية عشرة من ظهر الثامن والعشرين من نوفمبر 1985، وبمعرفتنا نحن - هيئة التحقيق السابقة - تم فتح هذا المحضر هو الآخر، لإثبات حضور الشاهد عصام أنور عطية، لسراي النيابة، حيث دعوناه إلى غرفة التحقيق، وسألناه تفصيلا بالآتي:

اسمك؟

عصام أنور عطية.

سنك ومهنتك؟

27 عاماً وأعمل مساعداً إدارياً في جمرك تفتيش الركاب بميناء القاهرة الجوي، وسكني معلوم لجهة عملي.

قول: والله العظيم أقول الحق.

والله العظيم أقول الحق.

ما هي معلوماتك بشأن الواقعة محل التحقيق؟

- في نحو الخامسة والربع من صباح الأحد الموافق 18 أغسطس 1985، وأثناء وجودي في صالة الوصول رقم «2» بالخط الأخضر لإنهاء الإجراءات الجمركية لركاب طائرة مصر للطيران، القادمة من مدينة بومباي في الهند، شاهدت أحد الركاب يمرّ من الخط الأخضر، أي الخط المخصص لمرور الركاب الذين لا يحملون معهم أي ممنوعات... فتبين أنه يحمل جواز سفر «إسرائيلياً» باسم يوسف أمين طحان، وطلبت منه فتح حقائبه التي يحملها، ففتح الحقيبة البنية، وبتفتيشها عثرت فيها على اثنين «باكو» بسكويت، ولاحظت فيهما انتفاخاً غير طبيعي، فطلبت من الراكب الإسرائيلي فتح الحقيبة الأخرى، وبتفتيشها عثرت على خرطوشتي سجائر، كذلك عثرنا داخل كل باكو بسكويت على كيس صغير من البلاستيك الشفاف، فيه مسحوق يشتبه في أن يكون مخدر الهيروين، وبفض خرطوشة السجائر عثرنا على 14 علبة سجائر، في داخل تسع علب منها تسعة أكياس بلاستيك تحتوي على الهيروين.

وما سبب وجودك في مكان ضبط الراكب الإسرائيلي يوسف أمين طحان؟

حسب طبيعة عملي كمساعد إداري في الوردية المكلفة بالعمل في ذلك الوقت.

وما هي الحالة التي شاهدت عليها المتهم لحظة ضبطه؟

ـ كان يحمل أمتعته التي ذكرتها سابقاً، ويحاول الخروج بها من الخط «الأخضر» المخصص لمرور الركاب الذين لا يحملون معهم أية «ممنوعات».

وهل تم تفتيش أمتعة المتهم في حضوره؟

أيوه.

وهل تم العثور على المضبوطات التي عثرتم عليها داخل أمتعته؟

أيوه.

وهل تمت مواجهة المتهم بالمضبوطات التي عثرتم عليها داخل أمتعته؟

جيم: واجهته بها في حضور الزميل أحمد أمين الزيات، رئيس قسم تفتيش الركاب، وأقر المتهم بصحة الضبط، وأقر أيضاً بأنه أحضرها معه من مدينة بومباي الهندية، للسفر بها مرة ثانية إلى إسرائيل عن طريق معبر «رفح» البري بحجة أن التفتيش في جمرك رفح «أسهل وأخف من التفتيش في جمرك مطار اللد الإسرائيلي».

وما صلتك بالمهتم يوسف أمين طحان؟

ليس لي به أي معرفة سابقة.

وهل لديك أقوال أخرى؟

لا.

تمت أقواله ووقع عليها... ثم أقفل المحضر في ساعة تاريخه.

(يتبع)

التجسس فريضة إسرائيلية
التجسس لدى الإسرائيليين فضيلة وفريضة، ويعرّف الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة المصرية صلاح نصر في كتابه المهم «الحرب الخفية» التجسس، بأنه «ذلك الجزء من المجهود الشامل للمخابرات الذي يهدف إلى التفتيش السري على مجهودات الدول الأجنبية للوقوف على مدى قوتها، وهو أيضاً ذلك المجهود الذي يبذل للكشف عن أسرار الآخرين بواسطة طرق خفية، حماية لأمن الوطن والمواطنين، سواء في وقت السلم أو في وقت الحرب»، خصوصاً إذا علمنا أن كورت سنجر مؤلف كتاب «الجاسوسية والحب» يقول: «وقت السلم ما هو في الحقيقة، إلا فترة الاستعداد للحرب، والسلم ما هو إلا حرب صامتة لا نسمع فيها دوي القنابل أو قصف المدافع، وهو أيضاً الفرصة الذهبية للجاسوس».

والجاسوس في المادة (29) من اتفاقية لاهاي للحرب البرية، هو «الشخص الذي يعمل سراً أو من وراء ستار زائف للحصول على المعلومات أو لخدمة أغراض العدو»، وفي كل دولة من دول العالم عيون سرية، إذا كانوا عيوناً لهذه الدولة سموهم «مخبرين»، وإذا كانوا عيوناً عليها سموهم «جواسيس».

والمارشال الفرنسي موريس دي ساكس الذي تجمع المراجع العسكرية على أنه واحد من أعظم أربعة قادة شهدهم القرن الثامن عشر، يصف الجواسيس في كتابه «خواطر عن فن الحرب»: «أنفع للقائد من عينيه، ويجب على القائد أن يختارهم من البلد الذي يحاربه، وأن يكونوا على ذكاء وفطنة، وأن يندسوا في صفوف الجيش بين قواده وأفراده، ويجب عليه الحذر والاحتياط منهم واختبار مدى الاعتماد عليهم يومياً، خشية أن يستميلهم العدو».

ويقول فردريك الأكبر الذي أنشأ أول إدارة للتجسس في القرن الثامن عشر: «من الأصوب أن نخلق من الفلاح جاسوساً، بدلا من أن تحضر جنرالاً عسكرياً في زي فلاح، وتعهد إليه بالتجسس».