أطلقت المملكة المتحدة بتصويتها على الخروج من الاتحاد الأوروبي ثورة قوية لدرجة أنها ستهز- ويمكن أن تدمر- المشروع الأوروبي، وفي حين تمضي المملكة المتحدة قدما في تجربتها الاستثنائية في الديمقراطية التطبيقية، فإن مما لا شك فيه أنه ستكون هناك دعوات في أماكن أخرى في أوروبا، معظمها في الدول الشمالية مثل الدنمارك وفنلندا وهولندا والسويد، من أجل أن تحذو حذو بريطانيا.

لقد بني الاتحاد الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية كوسيلة من أجل التخلص أخيرا من إرث الصراعات العنيفة التي امتدت لقرون عديدة في أوروبا. إن إنشاء دول قومية بطموحات متنافسة لتلك الدول أدت دورا مركزيا في حربين وحشيتين؛ مما دفع بالأوروبيين لتبني سياسة التعاون الدولية كأساس للنظام السياسي الجديد، وهو نظام كانت حمايته واجبة بأي ثمن.

Ad

ومن أجل تحقيق ذلك كان من المهم للغاية بناء هيئات تتجاوز الحدود الوطنية من أجل ربط الأوروبيين ببعضهم، وباسم الاندماج كان من الضروري فرض قيود على الدول الأعضاء، فأصبحت المحاكم الأوروبية مسؤولة عن حماية حكم القانون كما زادت المؤسسات الجديدة مثل البنك المركزي الأوروبي من سيطرتها على الاقتصاد.

ونتيجة لذلك أصحبت أوروبا بسرعة مثل مربية الأطفال المزعجة التي تخبر الدول باستمرار بالأشياء التي لا تستطيع عملها، وذلك لمحاولة الخروج من أزمة اقتصادية من خلال الإنفاق إلى إعطاء المتقاعدين في تلك الدول الرواتب التي يستحقونها، وعندما شعرت تلك الدول أن قدرتها على التعامل مع التحديات الاقتصادية الضخمة التي تواجهها مقيدة بدأت تلك البلدان بالانقلاب على أوروبا، حيث بدأ النشطاء المعادون للاتحاد الأوروبي لا سيما في الدول الصغيرة مثل اليونان يقولون إن بلدانهم تعرضت لمعاملة غير عادلة حتى قاسية، وبدا أن حلم الازدهار السهل من خلال الاندماج قد مات.

ثم جاءت مشاعر القلق المتعلقة بالهجرة والتنقل، حيث شعرت الاقتصادات الفعالة مثل المملكة المتحدة بالقلق من تدفق العمال من الدول التي تعاني صعوبات اقتصادية، لأن متطلبات الاتحاد الأوروبي بأن تبقى جميع الدول الأعضاء مفتوحة للهجرة من الدول الأعضاء الأخرى جعل الاتحاد الأوروبي يبدو مضيف حفلة مهووساً يطلب من جميع الضيوف أن يتحدثوا لبعضهم، سواء أرادوا ذلك أو لم يريدوا، ومن الواضح أن العديد من الأوروبيين ليس لديهم أي اهتمام بلقاء أناس جدد.

بالطبع بخلاف قيمة الصداقات الجديدة فإن أهمية الاندماج الاقتصادي ليست حكما شخصيا، لكن النشطاء المؤيدين للاتحاد الأوروبي في بريطانيا لم يستطيعوا التعامل مع قضية الهجرة بشكل واضح ومقنع، فرئيس الوزراء ديفيد كاميرون أعلن بحماسة أن أوروبا مهمة لأمن بريطانيا، لكنه افتقد الشجاعة للقول إن الهجرة جيدة لبريطانيا، وإن المؤسسات التي تحظى باحترام كبير مثل مؤسسة الصحة الوطنية تعتمد بشكل كبير على الأجانب من الأطباء حتى عمال النظافة.

على أي حال فإن أكثر عنصر مكروه للاندماج الأوروبي موجود في مكان آخر، وهذا العنصر يتمثل بالمؤسسات السياسية الوطنية التي أصبحت غارقة في بحر الاتحاد الأوروبي لدرجة أنها بدت منعزلة عن شعوبها، فقد أصبح وزراء المالية يتحدثون بشكل أكبر مع وزراء المالية الآخرين مقارنة بزملائهم ناهيك عن الناخبين.

ومع اتباع جميع الأحزاب الرئيسة تقريبا للأسلوب نفسه فإن الوسيلة الوحيدة للناخبين للتعبير عن سخطهم كان التصويت للقوى المضادة للسلطة، حيث جعل العديد من تلك القوى معارضة الاتحاد الأووروبي ركيزة أساسية لبرنامجهم ومؤخرا تخلت أعداد كبيرة من الناخبين التقليدين لحزب العمال في مايو 2015 عن حزبهم من أجل التصويت لحزب الاستقلال البريطاني الذي كان في طليعة حملة المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

في واقع الأمر حاول قادة السلطة منذ وقت طويل إنقاذ أنفسهم بتشديد الانتقادات للاتحاد الأوروبي، وتوجيه اللوم له بسبب مطالبته بأن تطبق حكومات الدول الأعضاء سياسات لا تتمتع بالشعبية أو سياسات فاشلة، ولكن هذا يجعل من الصعوبة بمكان التوصل لسياسات بديلة، في حين يجعل الناخبين في الوقت نفسه يوجهون معارضتهم ضد الاتحاد الأوروبي نفسه.

على الرغم من أن أحزاب السلطة انتقدت الاتحاد الأوروبي فإنها عموما لم يغب عن بالها فوائد العضوية، وفي واقع الأمر خلال الاستفتاء البريطاني دعم الحزبان الرئيسان في بريطانيا حملة "البقاء" على الرغم من خلافاتهما الداخلية وعلى الرغم من أن غالبية حزب العمال نشطوا في الحملة للبقاء في أوروبا كان زعيم الحزب جيرمي كوربن غير متحمس كثيرا للبقاء بينما كانت الانقسامات في حزب المحافظين أعمق بكثير.

إذاً ذهب الناخبون البريطانيون إلى صناديق الاقتراع وهم يشعرون أن الاتحاد الأوروبي قد خذلهم وأن قادتهم في بريطانيا غير قادرين على حماية مصالحم ما لم تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولكن كانت هناك مجموعة أخرى اعترض عليها الناخبون المؤيدون لخروج بريطانيا وهذه المجموعة هي مجموعة "الخبراء".

وحذر كل الاقتصاديين تقريبا بأن الخروج البريطاني سيكون له عواقب خطيرة، وذلك من الصدمة المباشرة– في واقع الأمر انخفضت قيمة الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى منذ 31 سنة- إلى التحديات التجارية طويلة المدى، وتوقع جورج سورس حدوث أزمة مالية في حين سلط خبراء العلوم السياسية الضوء على الأمن والمخاطر الأخرى، حتى أن المسؤولين عن كرة القدم البريطانية جادلوا بأن الأندية البريطانية في وضع أفضل في أوروبا.

المشكلة هي أن الاستشهاد بآراء الخبراء كان ينطوي على الترفع والازدراء بالنسبة إلى العديد من الناخبين، ونظرا لأنه كان ينظر بالفعل للاتحاد الأوروبي على أنه مشروع يفيد النخب بشكل غير متناسب فربما هذا لم يكن مفاجئا، وكما يتم توبيخ طفل محبط من مدير المدرسة المتعجرف قرر العديد من البريطانيين أن يتحدوهم.

كان الدافع وراء التصويت البريطاني على الخروج هو الإحساس بأن النخب السياسية والاقتصادية كانت فاسدة وخاطئة فيما يتعلق بالعواقب المحتملة، وهذه النظرية على وشك أن يتم اختبارها، وذلك على خلفية انعدام الثقة والانقسام، وإن زمن الانتقادات المستمرة قد انتهى، والآن يجب أن يثبت أنصار الخروج البريطاني أنهم اتخذوا القرار الصحيح، وذلك بالتوصل لحل عملي يدعم الاستقرار الاقتصادي والسياسي البريطاني، ولكن للأسف قد يجدون أنه لا يوجد بديل أفضل لأوروبا.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون وزميل تنفيذي في مركز ابتكار الحكم الدولي.

«بروجيكت سنديكيت، 2016"»بالاتفاق مع «الجريدة»