أنهى عماد حمدي تصوير مجموعة الأفلام التسجيلية الإرشادية للفلاحين مع المخرج جمال مدكور في الفترة الزمنية المحددة، تأثر أداؤه فيها بما تعلمه من أستاذه عبد الوارث عسر، وكانت انفعالاته وتحركاته أمام الكاميرا مسيّرة بعقله أولا، كي لا تفقده السيطرة على أعصابه، فاقتنع المخرج بأدائه ومصداقيته أمام الكاميرا، وأدى المشاهد بإتقان من المرة الأولى. لم يكرر المخرج التصوير، خلافاً لما كما يحدث مع الممثلين الجدد عادة، فكان حمدي موفقاً إلى أقصى درجة، لكن هذا التوفيق لم يشاهده المخرجون وصانعو السينما، بل الفلاحون في القرى والنجوع وهي فئة استهدفتها الأفلام الإرشادية بالأساس، فخرج حمدي من التجربة بمعرفة قدراته التمثيلية.

بعد انتهاء تصوير الأفلام، لم يجرؤ عماد أن يطلب من المخرجين مشاهدتها، لطبيعة عمله التي تشعره بالحرج من الحديث مع أي مخرج، وتمنى أن تأتيه الفرصة من دون أن يطلبها، لأنه لا يجد في نفسه منافساً قوياً للنجوم في تلك الفترة. وكانت الأفلام من بطولة محسن سرحان وحسين صدقي، والوجه الجديد آنذاك أنور وجدي الذي حقق نجاحاً في أولى بطولاته السينمائية وبدأ المنتجون يتهافتون عليه، خصوصاً أنه قدم صورة مختلفة للبطل مازجاً بين القوة والكوميديا الخفيفة.

Ad

على الجانب الآخر، كان عماد حمدي يحرز تقدماً في عمله كمدير إنتاج، ويحظى بإشادة رؤسائه الذين قرروا ترقيته ليكون مديراً للتوزيع، بالإضافة إلى إشرافه على اثنين من دور السينما التابعة لأستديو مصر، وهما سينما أستديو مصر الصيفي التي تولى إدارتها أيضاً، وسينما الأزبكية الصيفي. هكذا شغل ثلاثة مناصب دفعة واحدة، نظراً إلى تفانيه في العمل وإخلاصه. وعلى مدار أربع سنوات جعل أستديو مصر أكبر موزع سينمائي في مواجهة شركتي {بهنا فيلم} و«نحاس فيلم}، معتمداً على دور العرض الخاصة بالأستديو بالإضافة إلى ذكائه في التعامل مع صانعي هذه الأعمال.

رغم النجاح في عمله الإداري، بقي حلم التمثيل يراود عماد حمدي، مع أن قطار العمر تجاوز الثلاثين، وبدأ يفقد الأمل تدريجياً في أداء دور البطولة، لكنه بقي على يقين بأن الفرصة ستأتي يوماً ما وسط انشغاله بين إدارة السينما وتوزيع الأفلام ومتابعة إيراداتها، بينما أبعدته الترقية والوظائف الجديدة عن بلاتوهات التصوير، ذلك أن مدير التوزيع مكتبه في وسط القاهرة، وليس في مقر أستديو مصر. من هنا انقطعت علاقاته بالكاميرات وغرفة المونتاج، ولم يكن يذهب إلى الأستديو إلا مرة أو مرتين شهرياً.

كان عماد حمدي يتردد على أستديو محمد الطوخي للتسجيلات بحكم عمله، ويزور، بين الحين والآخر، صديقه الريجسير قاسم وجدي، وكان مكتبه في المكان نفسه، لشرب الشاي والقهوة. وفي إحدى الزيارات، وجد لديه ضيوفاً، فقرر الانصراف سريعاً حتى لا يعطله عن جلسته، لكن قاسم وجدي حرص على تقديمه للموجودين في مكتبه، من بينهم المخرج كامل التلمساني الذي قصد مكتب وجدي للحديث إليه حول المواصفات التي يريدها في بطل فيلمه «السوق السوداء»، فخرج عماد من دون أن يجلس وقتاً طويلاً، كعادته، ويشرب فنجان القهوة أو الشاي، مكتفياً بالتحية كي لا يعطل زميله عن العمل.

بمجرد أن خرج عماد حمدي من المكتب، سأل كامل التلمساني قاسم وجدي عن هذا الشاب، فوجد في ملامحه ما يريده: وجه مصري أصيل، ملامحه تشبه ملامح مئات المصريين، ليس وسيماً بالدرجة التي تظهره رومانسياً حالماً، وتنطبق قوة شخصيته وصوته على المواصفات التي يريدها في بطل فيلمه الجديد. فتحدث إلى قاسم وجدي حول طبيعة وظيفة عماد حمدي في أستديو مصر وطلب رقم هاتفه وقرر أن يمنحه فرصة البطولة في فيلمه إذا وافق.

فرصة العمر

في الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، تلقى عماد حمدي اتصالاً هاتفياً في مكتبه، بينما كان منهمكاً في إنهاء كثير من الأوراق، وكان المتصل المخرج كامل التلمساني. توقع حمدي أنه سيفاتحه في طلب يتعلق بالعمل مع أستديو مصر، ولم يدرك أن هذه المكالمة ستغير مصيره إلى الأبد، وستطلق مسيرته في عالم الفن.

*ألو...

- أيوه يا أفندم.

*مين؟

- أنا كامل التلمساني، عماد معايا؟

*أيوه، أهلا يا أستاذ.

- أنا مخرج وعندي فيلم جديد كنت عاوزك معايا، لما شفتك إمبارح رشحتك لدور البطولة، توافق.

*أنا؟!... أكيد هوافق طبعاً يا أستاذ.

- طيب تعالَ المكتب عاوز أتكلم معاك شوية.

خرج عماد حمدي من مكتبه متجهاً إلى مكتب التلمساني وسط القاهرة، وقبل أن يصل، مرّ على صديقه الريجسير قاسم وجدي، ووجد لديه إجابة عن التساؤلات التي خطرت بباله، فعرف تفاصيل الفيلم.

كانت جلسة واحدة كافية ليوافق حمدي على بطولة الفيلم الجديد، وأدرك أنه سيحقق حلمه أخيراً. لكن المشكلة الوحيدة التي واجهته كانت مرتبطة بالأجر الذي سيتقاضاه لقاء بطولة الفيلم، فهو يحصل على راتب 60 جنيهاً من أستديو مصر، وهو مبلغ كبير في منتصف الأربعينيات، وتوصل التلمساني إلى فكرة منح عماد مكافأة عن بطولته السينمائية، خصصت في ميزانية العمل بمئتي جنيه، ما أسعد عماد حمدي ولم يتحدث فيه أو يطلب زيادته. وانتهت الجلسة بتسلم عماد سيناريو الفيلم وبأن التصوير سينطلق في اليوم التالي، وستكون البطلة أمامه عقيلة راتب، فقد كان الفيلم ينتظر اختيار البطل، وهو ما حدث فعلاً، وتحقق الحلم الذي انتظره عماد حمدي طويلاً، وأدرك أنه في مرحلة عمرية فاصلة وأمام فرصة العمر.

تردد عماد على مواقع التصوير، وحرص على ألا تعطله المشاركة في الفيلم الجديد عن عمله كمدير للتوزيع. كان التصوير يتم صباحاً ثم يتوجه إلى مكتبه مساءً، وكان يمضي أيام الفرصة من التصوير في مكتبه كي لا تتأخر أوراق الأستديو. ولم يشعر أحد بغيابه عن مكتبه أو بتأخير في عمله حتى انتهى التصوير في أقل من شهرين، بذل خلالهما عماد مجهوداً، لم يكن ينام من كثرة التنقل، خصوصاً أن المسافة بين الأستديو ومكتبه كانت تلتهم جزءاً لا يستهان من يومه المزدحم.

فشل جماهيري

انتهى الفيلم وحان موعد عرضه الأول جماهيرياً، الحدث الذي انتظره عماد بشوق وترقب ليرى نفسه ممثلاً على الشاشة الفضية، ويختبر ردة فعل الجمهور عن تجربته الأولى التي داهمه الخوف فيها، لكن لم يفصح عنه لأحد وحاول التخلص منه بالانشغال في أعمال أخرى.

كان العرض الأول للفيلم في سينما أستديو مصر، التي كان عماد مديرها. استعدّ بأفضل ما لديه من ملابس، فهذه المرة سيكون المدير والبطل، حضر لمشاهدة الفيلم مع باقي أبطاله، وبمجرد أن انتهى وجد الجماهير محتشدة أمام باب السينما، فاطمأن معتقداً أن الفيلم نجح، لكن هذا الاطمئنان لم يستمر سوى لحظات تبددت سريعاً، عندما استمع إليهم يهتفون «سيما أونطة... عاوزين فلوسنا».

خشي عماد من ردود فعل الجمهور، وتذكر أن فنانين كثراً خرجوا من الصالات والجمهور يقذفهم بالطماطم والحجارة، وفكر في الهروب من الباب الخلفي للسينما، لكنه لم يجد في أيدي الجمهور ما يمكن أن يستخدموه كقذائف في وجهه، فخرج بحماية الفنان زكي رستم، ليقينه بأن الجمهور لن يهاجمه وهو مع رستم. لكنه أشفق على كامل التلمساني، فهو ليس المخرج فحسب بل مؤلف القصة أيضاً. حزن عماد من إخفاق الفيلم في أول أيام العرض.

أما النقاد فأشادوا بالفيلم، وعزا بعضهم فشله جماهيرياً إلى ضيق الطبقة الفاسدة التي تشاهد الأفلام في دور العرض بعد انتصار الطبقة الفقيرة عليها في نهاية الفيلم، بينما أجمعوا على براعة أداء الفنان الصاعد بطل الفيلم، فحقق عماد شهرة وأصبح معروفاً لدى المخرجين.

في ذلك الوقت، قرر صديقه القديم المونتير صلاح أبو سيف احتراف الإخراج السينمائي، فاختار عماد حمدي ليكون بطل فيلمه الجديد «دايما في قلبي» (إنتاج 1946) أمام عقيلة راتب شريكته في الفيلم السابق، فكوّن معها ثنائياً في تجاربه السينمائية الأولى.

كان الفيلم مأخوذاً عن فيلم «جسر واترلو» الذي قدمته السينما الإنكليزية وتدور قصته حول علاقة حب تنشأ بين البطلين، لكن المركب الذي يقل البطل يغرق وتأخذ الأحداث مساراً آخر، فالحبيب لم يغرق والحبيبة تتعرض لصدمة قوية تغير حياتها. حقق الفيلم نجاحاً في الصالات السينمائية، وأشاد النقاد بموهبة الفنان الصاعد، وتوقعوا أن يحقق مزيداً من النجاح في المستقبل.

ميلودراما

نجاح عماد حمدي المدوي كان في فيلمه الثالث «سجى الليل» (إنتاج 1948) الذي أخرجه هنري بركات وشاركته ليلى فوزي البطولة، وجسد فيه شخصية طبيب في أحد المستشفيات يتعرف إلى فتاة رقيقة، وتنشأ بينهما قصة حب، لكنه يكتشف إصابته بمرض السل كعدوى من أحد مرضاه، ووفاء لحبيبته وتجنباً لرؤية نظرات العطف والشفقة عليه، يوهمها بأنه يحب فتاة أخرى، ويطلب من صديقه (كمال الشناوي) أن يساندها ويحبها، بعد تأكده من أنه لم يتبق أمامه سوى أسابيع في الحياة، فتنشأ بين حبيبته وصديقه قصة حب تنتهي بالزواج. لكن الحبيبة تكتشف حقيقة مرض حبيبها الأول، وتذهب إليه ليموت بين يديها في المستشفى.

الفيلم ملحمة درامية نجحت جماهيرياً، وكانت سيارات الإسعاف تقف أمام دور العرض لمعالجة الفتيات اللواتي يتعرضن للإغماء خلال مشاهدة الفيلم، فبراعة أبطاله بتجسيد الشخصيات وتميز عماد حمدي بدوره جعلا الفيلم حالة خاصة بين الأفلام التي استقبلتها الصالات السينمائية، ووصل بالميلودراما إلى مستوى لم تصل إليه أي من أفلام تلك الفترة.

صوّر عماد حمدي الفيلم في أستديو توجو مزراحي وعرض في سينما ريفولي المخصصة لعرض الأفلام الأجنبية، في خطوة هي الأولى للسينما. وكان يفترض أن يعرض الفيلم فيها لمدة يومين أو ثلاثة على أقصى تقدير، لكن النجاح الذي حققه دفع المسؤولين إلى تمديد فترة العرض أربعة أسابيع ضعف مدة أي عرض للأفلام المصرية في الأربعينيات من القرن الماضي.

نجح الفيلم ونقل عماد حمدي إلى مصاف نجوم الصف الأول بامتياز، عندها بدأ التفكير في حياته الأسرية، فقد تجاوز الثلاثين من عمره وحياته مقتصرة على العمل بين إدارة التوزيع، والتمثيل، فضلاً عن تردده إلى المسرح ومتابعة العروض على خشبته، كذلك ربطته صداقة بالفرق المسرحية وأعضائها، وتعرف إلى فتحية شريف، مطربة فرقة الريحاني الشهيرة، فصوتها الجميل والألحان التي كانت تغنيها لسيد درويش وزكريا أحمد كانت تطربه ويحرص على الاستماع إليها بانتظام.

كان عماد حمدي يعرف فتحية شريف عن قرب وسبق أن شاهد لها مونولوجات خلال عروض فرقة الريحاني، ونجحت رغم صعوبة فن المونولوج في تلك الفترة، وتوطدت علاقته بها من خلال اللقاءات المتكررة في نقابة الممثلين التي كانت حديثة العهد في تلك الفترة.

أعجب عماد بشخصيتها وأدبها وأخلاقها وكان يشعر بالراحة في الحديث معها وبادلته الشعور نفسه، وسرعان ما تحول إلى حب متبادل بين الطرفين، وعرف منها أنها سبق أن تزوجت ولم توفق، وأنجبت فتاة من زوجها لكنها ليست معها، وأنها تحترف الغناء حتى تجد ابن الحلال الذي تعيش معه، فتقدم لخطبتها بعد شعوره بأنها تريد الاستقرار العائلي، وترغب في تكوين أسرة صغيرة.

تزوج عماد حمدي وفتحية شريف في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، وبدأت حياتهما الزوجية بشكل طيب، لأنها فنانة وتدرك أن لزوجها معجبات، ولرغبتها في أن تعيش معه، كانت تتحمل ظروف عمله غير المنتظمة ومكالمات المعجبات في منزله، فكانت ربة منزل وزوجة لا تشعر بالغيرة على زوجها، وتتفهم حرجه من المعجبات في كثير من الأوقات.

كذلك كانت تشاركه جلساته مع الفنانين ويعرض عليها الأعمال المرشح لها، فوجدت في النشاط الفني لزوجها متنقلاً بين البلاتوهات نجاحاً لها بعدما قررت الاعتزال، والتفرغ لبيتها ودورها كزوجة، ثم إنجابها ابنهما الوحيد نادر بعد أشهر من الزفاف.

عاش عماد حياة مستقرة كما أراد، فهو لم يكن يحلم بأكثر من ذلك، أسرة صغيرة، زوجة تعمل على إسعاده وابن يلعب معه عند العودة إلى المنزل، ووفرت له هذه الحياة بيئة مثالية وربما روتينية، جعلته يشعر بالملل لاحقا، ولم تستمر كما هي، فماذا حدث ولماذا انفصل عن زوجته؟

وفاة شقيقته سر إلهامه
لم يكن الأداء الدرامي الذي حصد إعجاب المشاهدين والنقاد على حد سواء في فيلم «سجى الليل» لعماد حمدي، سوى تعبير عن المعاناة التي عاشها مع شقيقته الصغرى «بلستان»، التي أصابها السل، كان وقتها مرضاً قاتلاً لا علاج له، نتيجة اتباعها رجيماً قاسياً لتخفيض وزنها.

قررت شقيقته الصغرى تخفيض وزنها سريعاً، رغم تحذيرات أهلها وأقاربها من خطورة ذلك، لا سيما أنها جميلة وليست بدينة بالدرجة التي تجعل من تخفيض وزنها حاجة ملحة، لكنها تمسكت برأيها وامتنعت عن الطعام حتى أصابها السل، وفشلت محاولات علاجها في مستشفى الصدر في حلوان (جنوب القاهرة) الذي كان مخصصا لهذا المرض.

شاهد عماد شقيقته في أصعب لحظات المرض، لم يتمكن من مساعدتها، عاش لحظات انكسارها، وتغير ملامح وجهها من الجمال إلى القبح مع انخفاض وزنها بصورة ملحوظة. وعندما توجه لزيارتها في أحد الأيام أُبلغ بوفاتها، فحُفرت صدمة فراق شقيقته في ذاكرته، لم يتمكن من محوها، واستعاد، في كثير من أفلامه، الآلام التي رافقته خلال زياراته المتكررة إلى المستشفى، وشكلت وفاة شقيقته المأساوية أحد أهم مصادر إلهامه الفني

التفاصيل في الحلقة المقبلة