تابعت النيابة المصرية تحقيقها في قضية المتهم الإسرائيلي يوسف أمين طحان بمحاولة إدخال الهيروين إلى مصر، لكنه اعتمد المراوغة وأكد للنيابة ألا «سوابق» مماثلة له في تهريب المخدرات وتجارتها. إلا أنه أكد لي عندما سألته وهو في قفص الاتهام، قبل أن تبدأ وقائع المحاكمة عن الحقيقة التي علمتها وقتها، وأخفاها هو عن وكيل النيابة المحقق، أنه دخل سجون ألمانيا الغربية بالاتهام نفسه، فاعترف لي من «قفصه» بأنه قضى فعلاً 17 شهراً في سجون ألمانيا الغربية، لكنه، رغم طول المدة التي قال إنه قضاها في السجون الألمانية، زعم لي أنه دخل السجن هناك على سبيل «الخطأ» بدعوى تشابه اسمه مع اسم شخص إسرائيلي آخر، كان، كما يقول، قد قتل إسرائيلياً ثالثاً في باريس، لاختلافهما على صفقة مخدرات. ثم طاردته أجهزة الإنتربول حتى قبضت عليه، وأودعته السجن في ألمانيا الغربية، هكذا قال يوسف طحان، وهكذا ادعى.

لم تكن تظهر على طحان أي معالم خوف أو ارتباك. ظل محتفظاً بهدوئه، يتابع بترقب شديد جميع الوجوه في قاعة المحكمة، يسجل في عقله كل ما يجري من حوله. كان أشبه برجال عالم الجاسوسية الذين نشاهدهم في التلفاز. كان لقب «الثعبان الإسرائيلي» الذي أطلق عليه مناسباً بنظرات عينيه الحادة والوقحة. لم يبال بالسباب الذي وجهه إليه بعض الحضور، بل كان يبدو مشغولا بتسجيل كل ما يحدث، في عقله عمليات حسابية دقيقة لا يعرف أحد مداها، هل كان نادماً على سقوطه قبل إتمام مهمته ونجاحها، ربما، خصوصاً أنه لم يبد أي إشارة على ندمه من الجريمة التي تورط فيها.

Ad

وقبل أن تعود المحكمة إلى الانعقاد، قمت من مقعدي واتجهت إلى المتهم الإسرائيلي في قفص الاتهام، ومن خلف القضبان سألته وأنا أمد إليه جهاز التسجيل لتوضيح مهنتي كصحافي: هل تعرف أن عقوبة تهريب المخدرات إلى مصر في القانون المصري الإعدام؟

فقال متهكما: "عارف.. بس أنا مش ها أتعدم... حتى ولو صدر الحكم بإعدامي”، هكذا قال واثقاً من حاله. لم أعرف سبب تأكده ويقينه من أنه سيخرج من هذه الأزمة من دون أن يصاب بأذى. هل هي ثقة في دولته، أم ثقة في مدى تعاون سلطات القاهرة، وأنها ستفرج عنه في النهاية؟

في تلك اللحظة، حطت على رأسي كل طيور الدهشة والغيظ، وقبل أن أسأله عما يعنيه تحديداً، صرخ فينا عم عبداللطيف الحاجب، قائلاً: محكمة. ومع النداء، انتفض ثانياً كل الحاضرين وقوفاً، في حضرة رئيس الجلسة المستشار عادل صدقي، بدأ الادعاء في تلاوة الاتهامات على مسامع طحان، بمحاولة إدخال الهيروين إلى مصر.

دفاع متهاو

قبل أن نستعرض معاً وقائع المحاكمة، التي كشفت في تفاصيلها معلومات جديدة أثبتت تورط طحان، تعالوا معا نسجل بعض الملاحظات على هوامش المحاكمة... حاول المتهم، في إطار الدفاع عن نفسه، تبرير حيازته الهيروين بحجة أنه لم يكن ينوي بيعها داخل مصر، لكنه لم يستطع تبرير تعمده «إخفاء» ذلك الهيروين عن أعين السلطات المصرية، وادعى أنه كان ينوي السفر بالهيروين ثانياً إلى إسرائيل عن طريق «رفح» المصرية، متصوراً أن ذلك سيعفيه من العقاب. لكن القانون المصري ينص صراحة على أن «مجرد إدخال المواد المخدرة خفية إلى مصر، يعتبر جلباً لها... وعقوبته الإعدام».

كذلك ذكر في تحقيقات النيابة أنه لم يكن ينوي الإقامة في مصر سوى ساعات قليلة، لأنه فور خروجه من مطار القاهرة كان سيتجه مباشرة إلى محطة حافلات سيناء، ليستقل الأتوبيس الذي يتحرك يومياً في الثامنة صباحاً من العباسية إلى تل أبيب، ونسي أن جواز سفره المرفق بأوراق القضية، ثابت فيه أنه حرص على أن تكون تأشيرة دخوله إلى مصر تسمح بإقامته في القاهرة لمدة شهر كامل، لا لمجرد الدقائق اللازمة لوصوله من مطار القاهرة إلى محطة الأتوبيس الدولي في العباسية كما يقول.

وذكر طحان في أقواله في تحقيقات النيابة، أنه «عامل ألومنيوم» بسيط، وسوء الحالة الاقتصادية، وصعوبة الحياة المعيشية في إسرائيل، والرغبة في الكسب، وراء الاتجار في المخدرات، ولا سوابق له في هذا المجال، مشيراً إلى أنه لم يسبق له السفر إلى الهند، ولم يمكث فيها سوى ثلاثة أيام، أي يوم الوصول ويوم العودة، ويوم شراء الهيروين، وإخفائه داخل علب البسكويت والسجائر، ومعجون الأسنان، فهل يمكن لأي عامل «عادي» لا «سوابق» له في هذا المجال، أن يصل بهذه السرعة إلى مافيا تجارة المخدرات في الهند التي يقول إنه لم يذهب إليها سابقاً، وأن يخرج بالهيروين من مطار «بومباي» من دون أن يكون متستراً وراء صفة «العامل»، وأن يكون عضواً في شبكة تهريب واسعة ومنظمة حصلت له من كندا، على تأشيرة دخوله إلى الهند، وتحملت عنه كل نفقات السفر، والإقامة في باريس، والقاهرة وبومباي، وسهلت له مهمة الوصول إلى مافيا المخدرات في الهند، وشراء الهيروين من هناك في يوم واحد، رغم أن صحيفة «الأخبار» قالت في 17 مايو 1989 إن بومباي وكولومبيا وباكستان وأفغانستان وبنما وسيرلانكا هي أشهر الأماكن التي ترتع فيها المافيا المكلفة بتنظيم شبكة توزيع المخدرات في أنحاء العالم، وأن بعض ضباط المخابرات الإسرائيلية متورط مع هذه المافيا.

قتيل إسرائيلي

في أثناء النظر في قضية طحان، كانت أجهزة أمن القاهرة تحقق في جريمة أخرى أكثر إثارة، فقد توافرت معلومات لديها تؤكد أن الإسرائيلي الذي عثرت أجهزة الأمن عليه مقتولاً داخل شقته بالعجوزة في أكتوبر 1985، كان زعيماً لعصابة تهرّب الهيروين والكوكايين إلى مصر، بعدما عثرت السلطات المصرية أثناء تفتيشها شقته على 6 كلغ من الهيروين معبأة داخل أكياس من النايلون الشفاف، موضوعة في أرضية دولاب القتيل، وكانت قوات الأمن المصرية اقتحمت شقة القتيل الإسرائيلي، على أثر بلاغ من بواب العمارة، وحينما دخلوا الشقة وجدوا القتيل «مذبوحاً» من عنقه وممدداً على الأرض، بعدما كتب القاتل بدم القتيل الإسرائيلي على جدار الحجرة رسالة تقول: «الويل للصهيونية».

وكانت السفارة الإسرائيلية في القاهرة، احتجت لدى السلطات المصرية على تفتيش شقة القتيل، ما أكد شكوك السلطات المصرية بأن أجهزة الأمن الإسرائيلية على علم تام بأن القتيل كان يقوم بنشاط مشبوه، تحت ستار إدارته شركة سياحية إسرائيلية في القاهرة، فيما كشفت تحريات الأمن في القاهرة، أن القتيل كان يعهد إلى السياح الصهاينة بإدخال مسحوق الهيروين إلى مصر، مقابل مكافآت مجزية، فضلاً عن إعفائهم من دفع نفقات رحلاتهم المشبوهة إلى القاهرة بحجة السياحة.

وأشارت مصادر أمنية أخرى إلى وجود دلائل أكيدة على ارتباط القتيل بجهاز الموساد الإسرائيلي، بعدما عثرت الأجهزة الأمنية على قائمة بأسماء ضباط قدامى في جهاز المخابرات الإسرائيلي «الموساد» من بينهم اسم القتيل المذكور الذي عثروا عليه «مذبوحاً» داخل شقته بالعجوزة، وكان دخل مصر متستراً خلف شركته السياحية الإسرائيلية، وأنه كان يستقدم «عاهرات» إسرائيليات حاملات لمرض الإيدز، ويطلقهن في مصر وأماكنها السياحية والشعبية، لنقل الداء إلى الشباب المصريين، والشباب العربي الموجود في مصر عموماً.

شبكة دعارة
كانت أجهزة الأمن المصرية تمكّنت من ضبط شبكة دعارة إسرائيلية، تضم بعض الأجانب الشاذين جنسياً من حاملي الإيدز، ومعهم فتيات إسرائيليات مصابات بالمرض المميت نفسه، خصوصاً بعدما كشفت أوراق التحقيق أن أفراد الشبكة، بعد الانتهاء من «مهمتهم» القذرة مع أي شاب مصري أو عربي، كانوا يحرصون - قدر الإمكان - على ترك ضحاياهم فريسة للرعب والانهيار، وذلك بأن يغافلوهم ويتركوا لكل منهم بطاقة صغيرة عليها عبارة واحدة: «أهلا بك في نادي الإيدز»، فهل يفسر ذلك سر الكلمات التي وجدها الأمن في شقة العجوزة، مكتوبة على الحائط بدم القتيل الإسرائيلي وتقول نصا: «الويل للصهاينة»؟

هل يفسر ذلك سر لغز السائح الأميركي «وليم تشارلز» المصاب بالإيدز، الذي تسلل إلى مصر عبر إسرائيل، ثم اكتفت الحكومة المصرية في زمن مبارك بطرده من مصر، رغم أنها أعلنت على صفحات الصحف أنه «مصاب بالإيدز، وأن شرطة الآداب ضبطته، وهو يمارس شذوذه الجنسي مع أطفال الشوارع في شقته بالجيزة؟ وهل يفسر ذلك «لغز» إصرار السائح الأميركي نفسه على المخاطرة بالعودة إلى مصر، بعدما غير اسمه وملامحه، مع أن الحكومة قالت لنا إنه مصاب بالإيدز؟

اللافت أن التقارير الأمنية العاجلة التي قدمت لجهات سيادية، اعترفت صراحة بأن إسرائيل سبق لها أن أرسلت وفوداً سياحية إلى مصر، تضم بعض الداعرات الإسرائيليات ممن يحملن الإيدز المميت بهدف بين الشباب المصري، إلا أن المخطط الإسرائيلي، على حد تقييم التقرير، فشل في تحقيق أهدافه بسبب يقظة الأجهزة الأمنية، وفضحه من بعض وسائل الإعلام المصرية، ما دفع إسرائيل في ما يبدو إلى محاولة تصدير هذا المرض الخطير إلى المصريين بوسائل أخرى، أو اللجوء إلى بديل آخر تمثل في محاولة إدخال المخدرات إلى مصر ونشرها بين شبابها.

على أي حال، فضح مثل هذه المخططات الإسرائيلية وتعقبها، أو الحديث عنها لم يعد الآن «كلام معارضة»، ودعوني، بالمناسبة، أسوق لكم بعض الأمثلة من الصحف الحكومية. ها هي، مثلا، مجلة «روزاليوسف» في عددها الصادر بتاريخ 2 يوليو 1990، تنشر لاثنين من صحافييها: حمدي رزق، وأسامة سلامة، تحقيقاً صحافياً مهماً عنوانه الرئيس «رفح بوابة الإيدز الشرقية»، وأحد عناوينه الفرعية المفزعة تقول: «ستة آلاف مريض إيدز من إسرائيل للقاهرة». وها هي مجلة «المصور» في عددها بتاريخ 2 مارس 1990 تنشر للزميل محمد كشك تحقيقاً موثقاً عناوينه المفزعة تقول: «من المسؤول عن كارثة البذور المهربة من إسرائيل إلى مصر... بذور إسرائيل الفاسدة مسؤولة عن الفشل الكلوي... الشرطة المصرية... تواصل عمليات الضبط... تهريب البذور الفاسدة من إسرائيل إلى مصر، تخريب للاقتصاد القومي المصري».

كذلك من الأقلام «الحكومية» بعض الكتابات لوجيه أبو ذكري، كاتب شهير في جريدة «الأخبار»، يقول في إحدى مقالاته: «الإسرائيليون القادمون للسياحة في مصر، يرتكبون جرائم خطيرة. أتصور أن وزارة الداخلية المصرية، لا بد من أن يكون لديها ملف كامل بها... لا أتصور على الإطلاق أنهم مجرد تشكيل عصابي خارج على القانون الإسرائيلي، بقدر تصوري أنهم يقومون بعمل منظم، الهدف منه تخريب الاقتصاد المصري. تم القبض على أكثر من شبكة يتزعمها إسرائيليون يهرّبون نوعاً واحداً من المخدرات هو الهيروين. أما لماذا «الهيروين» بالذات؟ فلأنه أبشع أنواع المخدرات... ولأنه سهم مسموم موجه إلى قلب شباب مصر. مرض الإيدز ينتشر بين الإسرائيليين والإسرائيليات... لذلك يأتون بلا رحمة إلى مصر، وإلى جنوب سيناء خصوصاً، ثم يتركون هذا الفيروس القاتل بعد رحيلهم في أجساد بعض الشباب العربي عموماً والمصري خصوصاً، وهو أمر مهم وخطير. والأخطر والأهم محاولات تجنيد المصريين للعمل لحساب المخابرات الإسرائيلية... حتى بعد توقيع اتفاقية السلام. أضع هذه الحقائق أمام الحكومة كي أؤكد أن الإسرائيليين لا يعملون لأجل السلام، إنما لأجل ضرورة إضعاف مصر بالوسائل كافة... ولأن مصر القوية، ستقف ضد التوسع والمغامرات الاستعمارية، وضد احتلال أرض الغير بالقوة». ويختم مقالته المهمة قائلا: «التحدي الذي يجب أن نلتف حوله جميعاً، هو الانتصار على هدف خبيث ولئيم... ومحاولة إضعاف مصر».