جولات في الشرق 2: كزانتزاكيس أمام الأهرامات: الظمأ إلى الأبدية يحكم مصر
نتجوَّل مع الروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس في الحلقة الثانية من رحلته إلى مصر، في لحظة وقوفه أمام الهرم الأكبر، أحد أهم المعالم الكبرى على حجم الحضارة التي عاشتها مصر في الزمن القديم، حيث اعتقد أن الظمأ إلى الأبدية هو الذي يحكم تاريخ مصر، وينظّم حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويسيطر على الآداب والفنون، وأن هذا الظمأ هو الذي يريح العبيد ويمنحهم الصبر، ويدفع الكهان والملوك إلى الاستفادة منه واستخدامه كأداة للثراء والقوة والجاه. ننتقل اليوم إلى نظرة الكاتب العميقة أمام الهرم الأكبر، والتي خرج منها بحكمة خالدة هي أن الفجور والعبودية والقوة، كلها أمور تنمو بشكل متسق مؤتلف في مصر، التي يعتبرها «تربة ندية خصبة محاطة بهذه الصحراء المرعبة».
حاول الكاتب أن يفلسف المأساة المصرية رابطاً بين صعوبات التاريخ ومأساة الجغرافيا، من رحلة إلى الأهرامات، كاشفاً المعاناة المصرية كما يراها المواطن الغربي، فهو يقول عن المصريين: «الموت حولهم في كل مكان، ولو أنهم نظروا خلف هذه الأوراق الخضراء لرأوا الصحراء، ولو أنهم توقفوا عن العمل حسب هذه القوانين المجحفة، دقيقة واحدة، لأغرقهم النهر، ولو أنهم رفعوا رؤوسهم في وجه سادتهم لهلكوا». يبدو أن الكاتب اليوناني نيكوس كزانتزاكيس كان أسير النظرة }الاستشراقية} إلى مصر، التي تصر على النظر من الخارج، فهو يقول في يومياته التي دونها عن مصر، خلال رحلته إليها، إن الإنسان المصري لم يكن يوماً يضع الحرية غاية وهدفاً له في حياته، على الرغم من أن الكاتب التقى نماذج وقيادات في حزب }الوفد}، من رجال سعد زغلول باشا، الذين كانوا على رأس ثورة 1919، التي كانت واحدة من أكثر الثورات المصرية تأثيراً في التاريخ الحديث. يقول كاتبنا بنظرة المستشرق، إن {المصري باستثناء لحظات نادرة في تاريخه، لم يجعل الحرية غاية له أبداً، ففي حياته السياسية كان عليه أن يطيع القادة، والفنون كان عليها أن تتبع القواعد الثابتة، والفكر كان يتبع تقاليد العصور السابقة، ولآلاف السنوات، كانت غايته العظيمة الوحيدة، هي هزيمة الموت وقهره}. يقول الكاتب يائساً، إن المصري إذا كتب له أن يستمر حتى في مرحلة ما بعد الموت، فإنه سوف يعيش نفس نمط الحياة الذي لا يتغير، ويضيف: «كان على المصري أن يجدَ طريقة ما من أجل الحفاظ على جثته، حتى تستطيع روحه أن تميزها وتعود إليها مرة أخرى}. ويلتقط طبيعة حياة المصريين من نمط حياتهم أصلاً، من طريقة بناء القصور والبيوت والمقابر، البيوت من الطين، لأنها خيام لمرحلة انتقالية، أما القبور فهي من الحجارة الصلبة، لأنها مساكن أبدية، ويروي طريقة تحنيط جثمان الميت في مصر القديمة، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من طرقِ الدفن في الزمن القديم، قائلاً: «آلاف من العمال يقومون بتفريغ الجثة من أحشائها، ثم يملاؤنها بالطيوب والأعشاب الطبية العطرية والقار، ويعلقون الطلاسم فوقه، ويضعون «كتاب الموت} إلى جانب جسده، حتى يكون بإمكانه معرفة الإجابة عن سؤال: أي الطرق يختار، وأي التعاويذ يتلو}. بعد جولة لا تعرف الراحة بين جدران أضخم القبور وأكثرها قدماً وبقاء عبر التاريخ، يعتقد الكاتب جازماً، أن «الظمأ إلى الأبدية هو الذي يحكم مصر، وينظّم حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويسيطر على الآداب والفنون، ويريح العبيد ويمنحهم الصبر، والكهان والملوك يستفيدون ويستخدمونه كأداة للثراء والقوة والجاه}. وإمعاناً في تكريس الموت وهيمنة الرغبة في الخلود على كل شيء، يرصد الكاتب اليوناني المرموق، كيف كان المصريون القدماء يحضرون الطعام فعلياً إلى القبر مع الميت، وفي فترة متأخرة اكتفوا بإحراق الطعام، حيث كانت الروح تتغذى على رائحته، قبل أن يكتفوا برسم صور الطعام، والحيوانات، على جدران المقابر، حيث نرى الحياة تنبض في الحيوانات واللحم والخبز والفواكه، حيث تنزل هذه الأشياء عن الجدران، وتنتشر على الطاولة، فتقوم الروح الجائعة للتمتع بأكل الطعام. فلاح يتسلّق الهرم وبعين الكاتب والروائي لا يرى كزانتزاكيس مطلع القرن العشرين في الأهرامات سوى الإنسان الذي يقيم عليها، المصري الذي أجبرته عبقرية جدوده على أن يكون عبقرياً على طريقته. يزور الكاتب منطقة الأهرامات، ذات نهار صيفي قائظ، وسط وفود أجنبية من الولايات المتحدة الأميركية، وبصحبة }عربي}، تطلع الكاتب حوله، فلم يجد سوى تاريخ من العبودية، يتسق مع الحاضر الذي يراه بعينيه، يقول: }كانت هناك حشود من الأميركيين، الذين يرتدون النظارات، ويكشفون عن أسنان ذهبية، يدورون حول الجماجم مثل الغربان، كانت النسوة يصعدن إلى ظهور الجمال، وجواربهن الحريرية كانت تلمع فوق ركبهن، كان السياح يقومون بجولة تقليدية حول الأهرامات، يتذمرون قليلاً، ثم يتوقفون لالتقاط الصور وينطلقون عائدين إلى شيكاغو}. يحكي الكاتب أنه أثناء زيارته للأهرامات، كانت مجموعة من الفلاحين تراهنت مع أحد الفلاحين، إذا استطاع أن يصعد وينزل الهرم الأكبر، في ست دقائق، فإنهم سيعطونه }نصف جنيه}، حينما كان نصف الجنيه يمثل ثروة كبرى لأي مواطن مصري، ما بالك بهذا الفلاح الفقير. يقول كزانتزاكيس: }أخذ الفلاح البائس النحيل الجائع، يتسلق الجدران الهائلة بيأس، ويقفز بغير هدى بين الصخور، ويختفي للحظات، ثم يعود ليظهر في النهاية على قمة الهرم ثم يندفع بقوة نازلاً رأساً على عقب، كنت أتابعه وأنا أتمزق، أما الاميركيون فقد كانوا يعدون الدقائق على ساعات أيديهم، وعاد الرجل وهو يلهث، وسقط عند أقدامهم، ورفع عنقه، وهو يلهث، لكن الأميركيين كانوا كسبوا الرهان، وغادروا المكان وهم يقهقهون، فأخذ الفلاح يبكي}. ولأن الكاتب تعاطف مع الفلاح، ضد عجرفة السياح الأميركيين، فقد طلب من صديقه العربي أن يقول للفلاح: }لماذا لا تمسك بعض الحجارة وتكسر بها رؤوسهم}، لكن صديقه العربي ضحك وقال: }لماذا، السادة على حق، لأنهم لم يدفعوا له، لقد خسر الرهان}، فرد الكاتب :}لكن لماذا يضحكون؟}... فقال العربي: }الفائزون دائماً يضحكون، ألا تعرف ذلك؟}. يقول الكاتب، إنه في هذا الجو القديم من العبودية، بدا أن هذا الحوار القصير قد يلقي الضوء على كل تاريخ مصر، }مثل الشروحات الهيروغليفية على الصقور والأرانب، والأيدي الممزقة المحفورة على الأهرامات}. قبل أن يتحدث عن أبو الهول، أقدم تمثال صخري في التاريخ، ينقل الكاتب أغنية عن الموت، نُحتت بالحروف الهيروغليفية تقول: ما هو الموت!.. كل يوم أقول لنفسي: الموت يشبه إنساناً ما انطلق من قبر المرض. الموت يشبه تلك اللحظة التي تكون فيها السماوات صافية لفترة، حيث يأخذ الإنسان شبكته لصيد الطيور، ثم يجد نفسه فجأة في مكان لا يعرفه!}. هكذا بدا له «أبو الهول}، حين وجد نفسه أمامه وجهاً لوجه، للمرة الأولى، على بعد قليل من الأهرامات، يقول: «لقد نُحت في الصخر الأصفر، بحجمه الضخم الرهيب العجيب، يشمخ برأسه بعنف فوق الرمال، نحو الشرق، كما لو أنه يناضل من أجل أن يكون أول من يدرك كنه الشمس، لقد مات بالأمس، وانحدر إلى الظل، وهو اليوم يأمل أن يعود الى الحياة مرة أخرى كي ينهض بكل عظمته وقوته من الصحراء، ومن قلوب النباتات والبشر الدافئة}. يقول إن أبوالهول كان ينادي على الناس منذ آلاف السنين وكان الناس دائماً يحررونه ويطلقونه، لكن الرمال كانت تعود مجدداً وتغطيه، معتقداً أن الرمال التي تأتي بها الصحراء المحيطة، هي بسسب نظرة الرعب التي في عينيه: }لقد ظلت الصحراء تحاصره، وهي ستهزمه، ليس هناك أي خلاص، وهو يدرك ذلك، ولهذا السبب نرى الرعب في عينيه والصرخات تنطلق منه}. من هول المفاجأة، اعتقد الكاتب أن أبوالهول يسمو فوق الرمال، منتظراً إشراق الشمس كل صباح بألم شديد، راسماً خريطة حسيّة لهذا الكائن الخرافي، المثير للإعجاب: }شفتاه كبيرتان حسيّتان شهوانيتان، كشفتي الفلاح، هناك مناخ من القدرية والرعب في هذا الفضاء الواسع المحيط به، وتبدو عليه سيماء الهدوء والرزانة، عيناه مفتوحتان على وسعيهما، تحدّقان بانجذاب صوفيّ، وتنظران برعب إلى الصحراء}. وبدا أن الكاتب مأخوذ بالتمثال الكبير، فاعتقد أنه حين دفن في الرمل إلى رقبته، كان رأسه يوحي بالرعب، كنذير على قدر الإنسان السيئ، ولسوء الحظ، يقول: }فقد نظفوه الآن من الرمل، وحرروا جسده الذي يشبه جسد الأسد، وأقدامه الطويلة الممدودة، وبدأ لي أن هناك صيحة تجده واستغاثة سوف تنطلق من صدره! }النجدة، النجدة يا أبنائي، أنقذوني من هذه الرمال}. يتذكر أبياتاً شعرية لشاعر مصري معاصر أملاها على }أبو الهول}: - «يا من غربلت ذاكرة البشر بغربالك. تحدث ، وأضئ دواخلنا بتعاليم التاريخ ألست أنت الذي رأى مجد الإسكندر وخزي قيصر؟ أما الآن فلا ترى عيناك سوى قرية متواضعة}. مصر العليا حين وصلت قدما الروائي اليوناني، نيكوس كزانتزاكيس، إلى مصر العليا، {الصعيد}، عام 1927، كانت روحه بدأت تعاف كل هذا الموت الذي في مصر، وهي مسألة طبيعية، إذا ما علمنا أنه واحد من عشاق الحياة، وممن خلدت أعمالهم الروائية، قيمة الحياة الإنسانية، فوق كل قيمة أخرى، وربما كانت رحلته تلك المبكرة إلى مصر، واحدة من أكثر أسباب حبه للحياة، من كثرة ما شاهد فيها من تخليد لقيمة الموت، سواء في منطقة الأهرامات، أو في معابد الأقصر والكرنك، التي كانت مثيرة جداً لامتعاضه، من كثرة ما فيها من اهتمام بالحياة الأخرى، الأمر الذي جعله يلهث لاكتشاف الحياة الحقيقية التي يعيشها المصريون على ضفاف النهر. يروي الكاتب أنه دخل إلى مصر العليا بالقطار، حيث كانت الجبال تتراءى أمامه عارية، وردية اللون، مُقفرة، بالقرب من الشريط الأخضر الضيق، للأرض المأهولة على طول النهر، يقول إنه شاهد من القطار، الزنوج وهم يصرخون ويلوكون الذرة {المشوية} بنهم، رآهم وهم يرفعون الماء من النهر بالروافع، ولا يفوت فرصة لعكس بهجة الحياة في أرض مصر، فقد شاهد من نافذة القطار: {فتاة صغيرة ترفع ملاءتها، وتلفها حول خصرها بحركة راقصة}. من القطار، يرصد الكاتب الصورة التقليدية لبيوت الفلاحين المصريين، المتناثرة على طول الطريق، لابد أنها بيوت محافظات بني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، يقول إن سطوح هذه البيوت كانت مستوية، مُغطاة بطبقات من الذرة الصفراء، التي تُركت لتجف تحت الشمس، وأن الشالات السوداء والحمراء، كانت تتدلى من أبواب هذه البيوت، التي لا شبابيك لها، والمصنوعة من الطين والقش، والتي ينام فيها الناس والبهائم جنباً إلى جنب. يروي عن رحلته إلى الصعيد، كان طفلاً رضيعاً ترك ميتاً، في ذلك المكان القذر، لأن والداه كانا يعملان في أحد الحقول، الرجل يحرث الأرض، والمرأة تتبعه لتلقي البذار خلفه، يقول: {يوم عملهما لم ينته بعد، وهما ينتظران حلول الظلام كي يتمكنا من دفن ابنهما، كان جسد الطفلة الرضيعة النحيل الأسود، بذراعيه الممدودتين، ورأسه المنتفخ المتضخم الملقى في الخندق الصغير، يبدو لي، وكأنه يحفر الأرض، لأن به رغبة عارمة للعودة إليها}. يلتقط الكاتب مأساة صعيد مصر، منذ مطلع القرن العشرين، ببساطة من يشرح أفكاره الصباحية، فالشريط الأخضر المزروع، لايزال محافظاً على ضيقه ومحدوديته، وعلى بعد خطوات قليلة للأمام يمكن تبين حدوده، يقول: }من مكان الى آخر يمكن مشاهدة شجرة نخيل أو شجرة أكاسيا شوكية مزهرة، أو بعض أشجار الصبار ذات الأوراق الشوكية المسطحة الضخمة، وهي آخر الأشجار البطلة اليائسة التي بقيت من هذه الحياة الخضراء، إن قلب الإنسان يرتعش فخراً وإحباطاً، فكل شيء هنا يأخذ رمز القيم الإنسانية الجبارة، لأنه لا يوجد أي مكان في العالم، كهذا المكان في مصر، التي تستطيع فيه أن ترى الحياة أمامك بوضوح، حياة كأنها جزيرة صغيرة مشيدة في محيط الموت اللامحدود، جزيرة مصنوعة من الماء والتراب واللحم البشري، والدموع، حيث تعي بدقة، وأنت تنظر إلى الحدود، هنا في مصر، أنه لا جدوى من شجاعة الإنسان وكدحه وألمه}. قبر أمنحوتب الثاني وصل الموكب الذي يقل كاتبنا إلى طيبة، {الديوسبوليس} العظيم، والمدينة بدت به مطلع القرن العشرين، مدينة صغيرة تعيش على آلاف السياح، الذين ينتقلون إليها بالقوارب أو القطارات، السياح الذين رآى الكاتب أنهم يفعلون كل شيء كي يشاهدوا مصر، لكنهم لا يستطيعون رؤيتها لأنهم يرتدون نظارات سوداء، تجعل رؤيتهم لهذا البلد معتمة. التفت الكاتب إلى ضرورة تجنب السياح، ليتمكن من تأمل التاريخ، الذي تفوح روائحه من المكان، فقام بزيارة معبدي {الأقصر} و{الكرنك} في وقت مبكر من الصباح، قبل أن يستيقظ السياح عادة، وأخذ يدور حولهما، يقول: {مثل الحشرة الصغيرة،التي تفقد إحساسها تحت هذه المعابد الضخمة}، فقد بدت له {كل هذه الأشياء الضخمة، غير مفهومه وبغيضة إلى نفسه}، وفق تعبيره. يصف المعبد قائلاً: {هناك ممر، طوله كيلومتران، يصل بين معبد الأقصر ومعبد آمون (الكرنك) عرضه ثلاثة أمتار، مبلط بالحجارة اللوحية، وحيط به من اليمين ومن الشمال ألف مخلوق من مخلوقات (السفينكيس) الخرافية ذات الرؤوس الحيوانية، أما المذبح – مكان تقديم القرابين- في معبد (الكرنك)، وهو المكان الذي لا يسمح إلا للملك بدخوله، فيبلغ طوله مئة وثلاثة أمتار وعرضه اثنان وخمسون متراً، أما ارتفاعه فيبلغ خمسة وعشرين متراً، مزود بمئة وأربعة وثلاثين عموداً}. يقول إنه ركب على متن السفينة، التي نشرت شراعها، لينتقل بعد ذلك إلى البر الغربي، كان بصحبة اثنين من الزنوج، نقلاه إلى ضفة النيل الأخرى، كي يشارك في احتفالات {النيكروبوليس} مدينة الموتى، في وادي الملوك: {جبل رمادي قاحل وموحش، وهاد عميقة شديدة الانحدار ملتوية، تعبر شعابها، وقد تركت نفسي تغوص فيه لعدة ساعات، كنت أتذوق طعم الرماد يتسلل إلى أعماق حنجرتي، لا توجد أي نقطة من الماء في أي مكان، ولا توجد حتى أي ورقة خضراء، لم يكن هناك سوى طائر رمادي وحيد عبر المنطقة للحظة، أعتقد أنه صقر يحوم حول المكان بهدوء مرتين أو ثلاث مرات ثم تلاشى}. يدرك أن هذه الضفة الغربية كرست بكاملها لدفن الموتى، حيث حفر المصريون القدماء أعماق الصخور لدفن مومياءاتهم، يقول: {مثلما نقوم نحن بدفن بذور الحنطة كي تنمو، وتعود الى الحياة ثانية، والآن ونحن نحفر، نجدهم ملفوفين بأكفانهم وأيديهم متقاطعة منذ آلاف السنين وينتظرون، الملوك والعبيد، القديسون والقتلة، الكهنة والراقصات، كلهم ينتظرون أرواحهم}. يختتم الكاتب جولته بحثاً عن الحياة، في قبر أمنحوتب الثاني، الذي مات عام 1420 قبل الميلاد، حيث كانت الحرارة خانقة، والأضواء متواصلة، يقول إنه شاهد على الجدران، آلهة على شكل صقور، وقرابين الجنازات، وآلهة الخلود، التي نراها على كل الأعمدة تكشف عن صدرها وترضع الملك، أما السقف فهو عبارة عن سماء لازوردية بنجوم صفراء، وفي الأسفل في غرفة عميقة سرية، تستلقي مومياء الملك بسلام، وهي لاتزال مزينة بزهور الجنازة}. يقول إنه حاول التعمق في المكان، تسكَّع حول مقابر الملوك، إلى أن هبط الليل، حيث لم يكن يفكر في الموت، يقول: {في الواقع كنت أمتع نفسي بالحياة التي تتفجر أمامي من جدران المقابر، إنها تنبض كما لو أنها أحسَّت للتو بالضوء، وبالعينين الناريتين اللتين تشاهدانها، وتعيدان الحياة إليها من جديد في كل مكان حول الجسد الميت، رأيت الحياة تكشف عن نفسها، الرجال يحرثون، يرعون الماشية، يصطادون الحيوانات، يصطادون السمك، ويسافرون على طول النيل، رأيت النسوة يطحنّ الطحين ويعجن العجين، ويوقدن النار، وأخريات يقمن بتزيين أنفسهن، يرقصن، يعزفن على العود، ويشممن الزهور، أما الملوك النحيلون الشاحبون فهم يحملون مفاتيح الحياة على صدورهم، وسيدات القصر يجلسن في الصالة وعبيدهن العراة الطوال مثل الزنابق، ينحنون فوقهن ويقدمون لهن الأزهار والفواكه}.