نعيمة عاكف... التمر حنة (2) «من أجل حنفي»

نشر في 19-06-2015 | 00:01
آخر تحديث 19-06-2015 | 00:01
خرج الطبيب محمد أبو الفتوح بصحبة زوج نعيمة عاكف، وتركاها بمفردها كما طلبت منهما. ظلت جالسة فترة من الزمن، حتى إنها لم تشعر كم من الوقت مرَّ عليها، بعدها قامت واقتربت من المرآة التي بحجرتها، وقفت أمامها... نظرت فيها طويلا، تأملت وجهها، راحت تتحسسه بيديها، تتأكد أنها لا تزال موجودة، وأنها لا تزال في ريعان شبابها، متسائلة: إذًا ما الذي يحدث؟ ولماذا أنا هنا؟ وهل هذه هي النهاية؟ لم تجد نعيمة عاكف إجابات لأسئلتها، أطالت النظر في مرآتها، أرادت أن تخترقها وتتخطاها بعينيها، تمنت أن تكون «آلة للزمن» تحملها إلى طفولتها، وعالمها الذي ولدت ونشأت فيه، منذ أن كانت في الرابعة من عمرها... بل وربما أبعد من ذلك كثيراً، منذ أن حكى لها والدها عن طفولته، قبل أن ينتقل مع والده إلى مدينة طنطا، ليقيم فيها ثاني سيرك في مصر.

عالم ساحر مدهش، كان ذلك، ليس فقط الذي ولدت به نعيمة، بل أيضاً الذي ولد خلاله والدها، وتربت فيه هي وأسرتها.

مهرجون‏، ‏حواة‏، ‏بهلوانات، ‏ألعاب‏ ‏مثيرة‏ ‏تخطف‏ ‏القلوب‏، ‏وتسرق‏ ‏عيون‏ ‏مشاهديها‏، ‏قفز‏ ‏في‏ ‏قلب‏ ‏النيران‏، ‏مؤانسة‏ ‏الوحوش‏ المفترسة، ‏الجميع‏ ‏كباراً‏ ‏وصغاراً‏، ‏بشراً‏ ‏وحيوانات‏ ‏أعضاء‏ ‏لأغرب‏ ‏عائلة‏ ‏في‏ ‏تاريخ‏ ‏البشرية‏ ‏عائلة‏ ‏جمعت‏ ‏في‏ ‏عضويتها‏ ‏الإنسان‏ ‏والحيوان‏، ‏في‏ ‏ألفة‏ ‏وصداقة‏ ‏قلما‏ ‏نجدها‏ ‏في‏ ‏عالم‏ ‏مضطرب‏ ‏مليء ‏بالنزاعات‏ ‏وأحياناً الخصومات‏. إنه‏ ‏عالم‏ ‏السيرك‏ ‏الذي‏ ‏يضم بين جنباته‏ الفن والمتعة‏ ‏والإثارة‏، ‏ويستهدف‏ ‏زرع‏ ‏الفرحة‏ ‏في‏ ‏قلوب‏ ‏المشاهدين.

أولاد عاكف

رغم مولد عاكف إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ونشأته في إحدى قرى محافظة بني سويف جنوب مصر، فإنه لم يهو يوماً أعمال الزراعة، بل عشق التجارة التي تنقلت به من قرية إلى أخرى، ومن محافظة إلى أخرى، حتى استقرت به الحال في القاهرة، حيث حرص على أن يورث أبناءه الأربعة مهنة التجارة، محمود، وأمين، وعزوز، وإسماعيل. لكن ليس كل ما يخططه المرء لأولاده يسيرون عليه. فرغم سير أولاده الثلاثة، محمود وأمين وعزوز، خلفه في طريق التجارة، فإن أصغرهم إسماعيل، قوي البنية، رياضي المزاج، أخذ طريقاً مختلفاً عن الجميع، حيث التحق بالعمل في «البوليس» ولتفوقه الرياضي تم تعيينه في مدرسة البوليس لتدريب الطلبة الجدد على ألعاب «الجمباز»، وفي الوقت نفسه أصبح أشهر اللاعبين على جهاز «المتوازيين».

قبل أن يزور مصر لأول مرة عام 1911، السيرك الإيطالي حديث العهد «بيللوتشي» لم يكن لإسماعيل عاكف، الصول بمدرسة البوليس، أدنى علاقة بألعاب السيرك والأكروبات، بل عرف عنه الجدية والالتزام، والجسم الرياضي السليم، فقد كان يدرِّب الطلبة الجدد بالمدرسة على «الجمباز»، باعتباره أشهر لاعب متوازيين في مصر.

كانت مشاهدة «الصول إسماعيل» لعروض السيرك الإيطالي نقطة التحول التي غيرت حياته. ذهب ليرى ألعاب السيرك الشهير، فتعلقت روحه بلاعب المتوازيين الإيطالي «روبرتو»، الذي كان يقدم أنجح ما في البرنامج، واعتاد إسماعيل زيارة السيرك يومياً، ولمدة اثنين وعشرين يوماً، حتى أصبح و{روبرتو» صديقين مقربين، حيث أدمن إسماعيل حياة السيرك، وعند مغادرة السيرك الإيطالي مصر، ظلَّ حزيناً مكتئباً، يعيش في عزلة تامة عن كل من حوله، ملازماً الفراش لما يقرب من الشهر، ليخرج بعدها، بأهم وأخطر قرار اتخذه في حياته.  قرر إسماعيل أن يترك حياة البوليس، ويقوم بإنشاء سيرك مصري على غرار سيرك «أولاد الحلو». ورغم معارضة كل من حوله لهذا القرار، فإن الجميع لم يقووا على معارضته، حتى زوجته لم تستطع أن تكبح مخاوفها:

= أنا ما قولتش حاجة... بس أنا خايفة.

- من إيه؟

= خايفة تضيع القرشين اللي معاك من غير ما تعمل حاجة. وماتنساش أننا محتاجين كل قرش أحمر علشان ابننا سيد.

= أنا مش ناسي... وعارف أنها مغامرة ومسؤولية كبيرة. بس دا حلم... وحاسس أني مش هأقدر أعيش لو ماتحققش... ما تخافيش يا أم سيد ربنا ها يكرمنا.  

في الوقت الذي راح فيه إسماعيل يعد نفسه ويرتب لإنشاء السيرك، والبحث عن لاعبين سيشاركون معه في تقديم ألعابه، ومن خلال طرح الفكرة على بعضهم هنا وهناك، علم من أحدهم أن ثمة سيدة تدعى «الأسطى مريم» كانت تستعد أيضاً لتنفيذ الفكرة نفسها، غير أن بعض المحيطين بها عمل على إقناعها بأنها لن تستطيع منافسة «سيرك أولاد الحلو» فأرجأت الفكرة. لكنها لم تتراجع عنها.

الأسطى مريم

وجد إسماعيل الأمور مواتية أكبر من ذي قبل، إذا ما وافقت «الأسطى مريم» الدخول معه في شراكة لإنشاء سيرك على مستوى أكبر وأكثر اتساعاً، ولم يتردد لحظة في مقابلتها وعرض الأمر عليها، إذ كانت واحدة من لاعبات «الترابيز» في سيرك «الحلو» وابتعدت عن العمل معهم خلال فترة حملها وإنجابها ابنتها «جميلة» وعندما قررت العودة لم تجد مكانا لها، فقررت بيع ما تملكه من مصاغ وإنشاء سيرك صغير تقدم فيه عروضها مع بعض اللاعبين الآخرين. غير أن زوجها، اللاعب في سيرك الحلو، عارضها وقرر عدم ترك «الحلو» فحملت ابنتها «جميلة» وقررت ترك السيرك والانفصال عن زوجها. وجد إسماعيل الفرصة سانحة لتحقيق حلمه مع «الأسطى مريم» والذهاب إليها وعرض الأمر عليها:

- هي الفكرة حلوة... وخيشت في دماغي... بس أنت...

= مافيش بس... أنا حاسس أنه حلم بالنسبة لك زي ماهو حلم بالنسبة لي.. نحط أيدينا في أيدين بعض ونتوكل على الله ونحقق الحلم ده.

- أيوا بس فكرة أنك مش عايز حيوانات في السيرك دي صعبة أوي... الحيوانات دي هي اللي بتخلي سيرك ولاد الحلو على بعضه... مش ملاحق على الجمهور.

= ودي هاتكون ميزة بالنسبة لنا... لأننا هانعتمد على البني آدمين اللي هايغلبوا الحيوانات... ها يتنططوا ويلعبوا أكروبات ويطيروا في الهوا أجدع من أي أسود ولا قرود، هانقدم جمباز وأكروبات وعقلة وترابيز وجونجلير.

- شوف يا أسطى إسماعيل... أنا موافقة بس بشرط واحد.

= اشرطي أنا تحت أمرك.

- أنا مش عايزة مشاكل... علشان كدا لازم نبعد عن سيرك ولاد الحلو... بلاد الله كتير... نشوف أي بلد تاني وننصب فيها سيركنا.

اختار إسماعيل عاكف أن يقيم سيركه بالمشاركة مع «الأسطى مريم» في مدينة «طنطا» إحدى مدن «دلتا النيل» والتي تبعد عن العاصمة بمسافة اثنين وتسعين كيلو متراً، وجنوب مدينة الإسكندرية بمسافة مئة وعشرين كيلو متراً، وتقع في وسط الدلتا بين فرعي رشيد ودمياط، حيث تعد ثالث أكبر مدن الدلتا بمساحتها وتعداد سكانها بعد مدينتي «المحلة الكبرى» و{المنصورة».

«طنطا» هو اسم قديم في التاريخ منذ آلاف السـنين، أطلق عليها الفراعنة اسم  «تناسو» وكانت إحدى بلاد المقاطعة الخامسة من مقاطعات الوجه البحري في مصر الفرعونية، وفي القرن الرابع قبل الميلاد أطلق عليها الإغريق اسم «تانيتاد» ولما آلت مصر إلى الرومان عرفت باسم «طنتثنا» وعين لها مجلـس للأعيان. وفي العصر البيزنطي قبل الفتح العربي أطلق عليها اسم «طو»، ثم كان الاسم القبطي القديم «طنيطاد»، حيث كانت أسقفية كبيرة ذات مركز عال يحكمها أسقف خارج عن سلطة البطريركية. وبعد الفتح الإسلامي في العام العشرين الهجري، الموافق ستمئة واحد وأربعين ميلادي، حرف الاسم إلى «طنتدا» وأصبحت حكمدارية بها دار الحاكم وعساكره، وجامع وحمام وسـوق وأسـقفية، ثم نطقها الفرنسيون «طنطه»، وهكذا ينطقها العامة، ثم نطقت بعد ذلك باسم «طنطا»، كما تعرف عند البعض باسم «مدينة شيخ العرب» أو «مدينة البدوي» بعدما زادت أهميتها كمدينة دينية، منذ أن نزلها واستقر بها القطب الكبير «السيد أحمد البدوي»، أو أحمد بن علي بن يحيى بن عيسى بن أبي بكر، الذي أجمع المؤرخون أن نسبه ينتهي من جهة أبيه، إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وولد بمدينة فاس بالمغرب، عام 596 هـ، الموافق 1199 م. ثم هاجر مع أسرته إلى مكة المكرمة في سن السابعة، حيث استغرقت الرحلة أربع سنوات، منها ثلاث سنوات في مصر. وعندما بلغ الثامنة والثلاثين من عمره، هاجر إلى العراق مع شقيقه حسن، وبعد عام عاد إلى مكة، وهناك قال إن هاتفاً جاءه في منامه وطلب منه الرحيل إلى مصر، والإقامة فيها، وتحديداً في «طنطا» لتكون موطن انتشار طريقته، وهناك أطلق عليه المصريون «السيد البدوي» احتراماً وتقديراً، ولأنه كان «ملثماً» دائماً يغطي وجهه مثل أهل البادية. وهو الإمام الصوفي، ثالث أقطاب الولاة الأربعة لدى المتصوفين، وتنسب إليه الطريقة البدوية ذات الراية الحمراء، وقد نسب إليه كثير من الكرامات، من بينها ما يتداوله العامة حول إنقاذه الأسرى المصريين من أسر «الحروب الصليبية»، لذلك انتشرت في التراث الشعبي المصري مقولة: الله الله يا بدوي جاب اليسرى»، أي أن البدوي جاء بالأسرى». وبعد رحيله في 12 ربيع الأول عام 675 هـ، الموافق 24 أغسطس عام 1276 م، أقام تلامذته مسجداً على شكل خلوة كبيرة بجوار القبر، ثم تحولت إلى «زاوية للمريدين». وفي عصر المماليك بنى له علي بك الكبير مسجداً بالقباب والمقصورة النحاسية حول الضريح، وجعل له وقفاً للإنفاق عليه، وأصبح يقام له احتفالان سنوياً، الأول يسمى «بالمولد الرجبي» ويكون في شهر أبريل من كل عام، والثاني في أكتوبر، والذي يعد من أكبر الاحتفالات الدينية في مصر، حيث يستمر لمدة أسبوع، يتوافد على المسجد خلاله أكثر من مليوني زائر خلال هذا الأسبوع.

السيرك

قبل الأسبوع بعدة أيام، يبدأ توافد الزوار إلى ساحة الاحتفال، حيث تأتي «الجمال» وفوقها «الكرار» وهو صندوق ضخم يوضع فيه «الزوادة» التي تكفي للبقاء أسبوعاً، ومكونة من «خبز فلاحي» و{قراقيش» و{بلابيع» وهي معجنات محمصة مصنوعة من الطحين والسمن واللبن، ومعها «الدقة» المصنوعة من طحن السمسم مع الذرة المحمصة والكمون والصعتر والملح. وفي مقابل «الكرار» فوق الجمل حمولة بشرية من الأطفال، أو أجزاء من الخيمة التي ستنصب في ساحة المولد، أو في الحواري والأزقة القريبة منها، حيث يسبق العامة في الحضور، أتباع الطرق الصوفية الذين ينصبون خيامهم في مواجهة المسجد، تزينها مصابيح الكيروسين و{الكلوبات».  

وفي مشهد احتفالي تراثي مصري يغلب عليه صدق التعبير، يغالب الفولكلور الفكرَ، وتغالب العادةُ العبادةَ، فتجد لقاءاتِ التواصل والنقاش الديني، وحلقاتِ الذكر، كما تجد دوائر الغناء وحلقات الغوازي، ومسارح الحواة وكل يسعى إلى مأربه.

ففي أحد أركان المولد ترى الشيخَ وتلامذته، وفي آخر ترى الفتوةَ وصبيانه، وعلى مد البصر ترى عمومَ الناس وبسطاءهم، من أتوا للتقرب إلى الله، وفي الوقت نفسه ليحتفلوا، لذا تجد كل مفردات الفولكلور الشعبي للمصريين متجسدة، وسط ازدحام شديد في الشوارع والأزقة، من يبيع الحلوى، ومن يبيع «وصفات عطارة»، وآخر يبيع لعباً مصنوعة يدوياً للأطفال، فيما تجد من يوزع الصدقات، أهالي يوزعون النذور، الأثرياء يوزعون اللحوم، والبسطاء يوزعون «الفول النابت» على من حضر، وأصحاب المحال التجارية يعقرون الذبائح على الأرواح الطاهرة من آل البيت، و{الدراويش» يجوبون حول الضريح، ويتوجه الصغار إلى «المراجيح» والكبار إلى عربات «النشان بالبنادق الرَّش».

كل ذلك يتم على مدار أسبوع كامل، حتى يأتي يوم الخميس (الليلة الكبيرة) حيث يتوافد كبار المشايخ الصوفيين من كل صوب وحدب، وتكون ذروة المولد عقب صلاة الجمعة، حينما يمتطي سليل «السيد» أو «الخليفة» الحصان ليقود الموكب الذي ينطلق من أحد المساجد القديمة المجاورة ماراً بالمدينة حتى يصل إلى المسجد الذي يضم الضريح. ويتضمن الموكب الخيول والجمال وعازفي الموسيقى من كل نوع وقارعي الدفوف، ثم ينشد المداحون:

- نوح الحمام على الغصون شجاني

- ورأى العذول صبابتي فبكاني

- إن الحمام ينوح من خوف النوى

- وأنا أنوح من خوف الرحمن

- فلإن بكيت آلاما على النوى

- ولطالما استغرقت في العصيان

- يا رب عبدك من عذابك مشفق

- بك مستجير من لظى النيران

- فارحم تضرعه إليك وحزنه

- وامنن عليه اليوم بالغفران

وسط هذه الأجواء الفلكلورية، وعلى بعد أمتار من الساحة الكبيرة للمسجد، اختار إسماعيل عاكف أن يقيم سيركه الجديد، حيث كان الافتتاح في مطلع أكتوبر من العام 1912، قبيل الاحتفال بمولد السيد البدوي. وعلى عكس ما توقعت «الأسطى مريم» فما إن بدأ الإعلان عن السيرك، حتى توافد عليه الجمهور بشكل منقطع النظير، ولفت إسماعيل الأنظار بشكل كبير جداً بلعبه على «المتوازيين». كذلك لفتت «الأسطى مريم» أنظار الجمهور بلعبة «الترابيز»، فضلاً عن الألعاب البهلوانية والأكروبات، إضافة إلى فقرة راقصة بين الألعاب لإحدى «غوازي» المولد، ليصبح هذا العالم الجديد مكاناً يصنع ويشع بالبهجة، يعيش كل من فيه، وليس إسماعيل والأسطى مريم فقط، إحساس الأسرة الواحدة الكبيرة، التي تضم مختلف أعمار ومهن السيرك.

السيرك المصري

كانت‏ ‏مصر‏ ‏أول‏ ‏بلد‏ ‏عربي‏ ‏يعرف «السيرك» بشكله‏ ‏المعاصر، ‏كذلك كانت أول دولة في التاريخ تعرف هذا الشكل من الألعاب الترفيهية في عهد المصريين القدامى،‏ وهذا‏ ‏ما‏ ‏أظهرته‏ ‏جدران‏ ‏المعابد‏ الفرعونية ‏مثل‏ ‏{معابد‏ ‏بني‏ ‏حسن»‏‏، ‏و{تل‏ ‏العمارنة‏» ‏و{وادي‏ ‏الملوك»، حيث كان‏ ‏يقدم في شكلين، الأول‏‏ ‏ألعاب‏ ‏احترافية‏، ‏وتقدمه‏ ‏الفرقة‏ ‏الملكية‏ ‏التي‏ ‏كانت‏ ‏تخدم‏ ‏الفرعون والأسرة الحاكمة. ‏وهي‏ ‏مجموعة‏ ‏ترفيهية‏ ‏خاصة‏ ‏تظهر‏ ‏في‏ ‏الحفلات‏ ‏الملكية‏ خلال الأعياد، ‏مثل‏ عيد ‏{شم‏ ‏النسيم‏» ‏وعيد «فيضان‏ النيل» ‏ومنها‏ ‏عروض‏ ‏الأقزام‏ ‏والمهرجين، أما النوع الثاني‏ ‏فكان‏ ‏الألعاب‏ ‏الشعبية‏ ‏والتي‏ كانت ‏تقدم‏ ‏للعامة والأطفال‏ ‏في‏ ‏الشوارع‏. ‏

ثم‏ ‏ظهرت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏عروض‏ ‏الهواة‏ ‏في‏ ‏الشوارع‏. ‏ومع‏ ‏مرور‏ ‏الوقت،‏ ‏بدأت‏ ‏أعداد‏ ‏هذه‏ ‏الفرق‏ ‏في‏ ‏التراجع‏ ‏واقتصرت‏ ‏العروض‏ ‏التي‏ ‏يقدمونها،‏ ‏على‏ ‏المواسم‏ ‏والأعياد‏ ‏والموالد‏. ‏وظلَّ‏ ‏الوضع‏ ‏هكذا‏ ‏حتى‏ ‏أواخر‏ ‏القرن‏ ‏الثامن‏ ‏عشر، تقدم هذه العروض في مصر، غير أنها لم تعرف باسمها الحالي {السيرك} قبل أن يقدمها الإنكليزي فيليب‏ ‏آستلي‏ ‏في العام‏ 1768، الذي ‏كان‏ ‏يقيم‏ ‏استعراضا‏ ‏للخيول‏ ‏في‏ ‏{الأسطبل‏} ‏الخاص‏ ‏به‏، ويعزف الموسيقى لمصاحبة العرض، ‏فكان العامة يتوافدون‏ ‏‏لمشاهدة الاستعراض، ‏ما‏ ‏جعله‏ ‏يقوم‏ ‏في ما بعد بإنشاء‏ ‏دائرة‏، التي تسمى في اللغة الإنكليزية circle {سيركل} ‏لإقامة‏ ‏تلك‏ ‏العروض، ‏ثم‏ ‏حورت‏ ‏الكلمة‏ ‏إلى‏ circus ‏والتي‏ ‏جاءت‏ ‏منها‏ ‏كلمة‏ {‏السيرك}. لاحقاً، أشرك {آستلي} الفيلة في عروضه إلى جانب الخيول، ومن جاء بعده ليقدم هذا النوع من العروض، أدخل عليها فقرات أخرى، ‏مثل‏‏ ‏شخصية‏ {‏المهرج‏} الذي يصنع ألعاباً فكاهية ضاحكة، ‏كذلك تمت استعارة فقرة‏ ‏ترويض‏ ‏عدد‏ ‏من‏ ‏الأسود، من‏ فكرة تقديم عروض كانت تقام بين السجناء والحيوانات المفترسة في {الكولوسيوم} ‏وهو المسرح المدرج الروماني الذي أقيم عام 72 ميلادية لهذا الغرض وقد عرفت هذه الفقرة‏ في السيرك ‏باسم‏ ‏{فقرة‏ ‏ملوك‏ ‏وملكات‏ ‏الأسود‏} ‏وكان‏ ‏المدرب {هاجن‏ ‏بانكس‏} ‏أول‏ ‏من‏ ‏قدمها. غير أن عروض السيرك تعود مرة أخرى إلى مصر في شكلها الحديث واسمها المعروف في عصر الخديو إسماعيل، عندما‏ ‏أنشأ‏‏ ‏سيركا‏ ‏في‏ ‏منطقة‏ ‏الأزبكية‏ ‏ ‏في‏ ‏العام‏ 1869، ‏حيث أضاف‏ سيرك مصر بين‏ ‏فقراته‏ ‏عروضاً‏ ‏للتمثيل‏ ‏الصامت‏ (‏البانتومايم‏) ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏الفرق‏ ‏واضحاً‏ ‏في‏ ‏عروض‏ ‏السيرك‏، ‏بين‏ ‏الألعاب‏ ‏وبين‏ ‏فنون‏ ‏التمثيل‏ ‏والموسيقى، ‏لتظل‏ ‏الحال‏ ‏هكذا،‏ ‏حتى‏ ‏ظهور‏ ‏أول‏ ‏وأشهر‏ ‏سيرك‏ عربي عائلي‏‏ ‏{سيرك‏ ‏الحلو}‏ ‏عام‏ 1889، الذي‏ ‏لا‏ ‏يزال‏ ‏يقدم‏ ‏فنه‏ ‏وعروضه‏ ‏إلى‏ ‏الآن‏. حاول‏ مؤسسه ‏محمد‏ ‏علي‏ ‏الحلو‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏العروض‏ ‏الأجنبية‏ ‏التي‏ ‏كانت‏ ‏تقدم‏ ‏في‏ ‏عهد‏ ‏الخديو‏ ‏إسماعيل‏، ‏فاشترى فيلاً ‏صغيراً‏ ‏من‏ ‏الفنان‏ ‏الإيطالي‏ ‏{هيجيم‏} ‏والذي‏ ‏جاء‏ ‏لمصر‏ ‏ليعرض‏ ‏فقرات‏ ‏مع‏ ‏الأفيال‏ ‏والخيول، ‏وبدأ‏ ‏الحلو‏ ‏في‏ ‏تدريب‏ ‏الفيل‏ ‏داخل‏ ‏سيركه‏ ‏محاكاة‏ ‏بالغرب‏، ‏وفي‏ ‏بداية‏ ‏القرن‏ ‏العشرين‏ ‏أدخل الحلو‏ على عروضه {‏أسدين} تم ترويضهما،‏ ‏وهو‏ ‏ما أسهم‏ ‏في‏ ‏الإقبال‏ ‏الجماهيري‏ ‏العريض، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏تميز‏ ‏به‏ {‏سيرك‏ ‏الحلو}‏ ‏عن‏ ‏{سيرك‏ ‏عاكف}، الذي جاء بعده بما يقرب من عشرين عاما، وكان اعتماده الأساسي على الأكروبات والألعاب البهلوانية.

البقية في الحلقة التالية

نعيمة عاكف... التمر حنة (1) .. «حب لا يموت»

back to top