الحجاز أرض الرسالة التي يحمل السفر في ذاكرتها مهد الدعوة وأساس الدين وأصل الرسالة، فيها من نسمات التاريخ ما يفتح أفقا للحقيقة والأصالة فيجعلها أرض الرحيق وشعبها حامل المسك الذي يشعل النار فينثر العطر في ثنايا التاريخ، عنه ننقل الحكاية التي تعيد رمضان الماضي إلى الرؤيا فتفتح الشهية لما بقي من رمضانه القديم في صراع الحضارة مع حضرة الصفاء والصدق والدين القويم.
مدن الحجاز الحجاز أحد أقاليم المملكة العربية السعودية الخمسة، ويقصد بالحجاز كل المنطقة الغربية من المملكة التي تتكون من أربع مدن رئيسية هي مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف، وبعض القرى التابعة لهذه المدن، وحين نتحدث عن رمضان في الحجاز فإننا نتحدث عن الأرض المباركة التي احتضنت الدعوة المحمدية، وكانت أرضا للرسالة العالمية الخاتمة، ففي مكة كانت بداية الإسلام، وفي المدينة المنورة فرض الله سبحانه وتعالى معظم الفرائض والعبادات التي إحداها فريضة صوم رمضان، لذا فإن الحديث عن رمضان في الحجاز هو حديث عن علاقة حميمية بين الأرض والسماء، فرضت حالة من الروحية الخاصة على سكان هذا الإقليم المبارك. ورغم بعض الخصائص التي تميز مدن الحجاز عن بعضها خاصة في نوع اللباس والمسكن والاطعمة وبعض العادات والسلوك والطباع بين أهالي المدن الأربع والبادية الحجازية أيضا، فإننا لاحظنا ان العادات الرمضانية تتشابه بينها الى حد كبير، ولذا آثرنا ألا نتحدث عن كل مدينة على حدة إلا في الضرورة، بل نتحدث عنها بشكل إجمالي. ملاحظة مهمة لا نتحدث هنا عن رمضان في الحجاز عبر العصور، بل نتحدث عن رمضان في السنوات المئة الماضية، فالحجاز وخاصة مكة المكرمة وربما المدينة المنورة أيضا أكثر مدينتين تغيرتا مجتمعا وعادات وسلوكا، لِم لا وهما تستقطبان في العام الواحد ملايين الزائرين حجاجا ومعتمرين وشادي الرحال إلى طيبة الرسول، ولأن معظم المعتمرين في السابق كانوا يجهزون أطعمتهم بأنفسهم فقد تأثر أهل مكة على الدوام ببعض أنواع الطعام التي أعجبتهم فقلدوها حتى دخلت في صميم تراثهم الخاص بأطعمة رمضان، وانتقلت الى مدن وقرى الإقليم الأخرى عبر التواصل والتأثر والتأثير. ولا يقتصر هذا النوع من التأثر على الأطعمة فقط، بل تأثر أهل الحجاز بأنواع من الألبسة والمقتنيات التي جلبها الحجاج والمعتمرون معهم من بلادهم، كما تأثروا ببعض السلوكيات الاجتماعية القادمة عبر البراري أو البحار سواء من الضفة الأخرى للبحر الأحمر من مصر والسودان وجنوبها أو من أعالي البحار والقادمين من إيران والهند وشرق آسيا وشرق إفريقيا وغيرها. وعبر متوالية الزيارات ومرور السنوات كانت مظاهر كثيرة من مظاهر الحياة الحجازية تختفي وتظهر بعض المظاهر الحياتية الجديدة، لذا فإن الحديث عن رمضان في الحجاز خلال السنوات المئة الماضية لا يعني أنه مطابق للسنوات التي سبقتها، كما لا يعني أنه ما زال باقيا إلى يومنا هذا، بل بقي ما بقي من تقاليد رمضانية واختفى ما اختفى منها. تقاليد موروثة تعوّد أهل مكة وبعض أهالي حواضر الحجاز على الالتزام ببعض التقاليد الموروثة التي تسبق الشهر الكريم، وقد تقتصر بعض هذه التقاليد على بعض المناطق دون بعضها أو قد تكون عامة يمارسها اهل الحجاز قاطبة او الغالبية المطلقة منهم، وتكون معظم هذه التقاليد في الغالب داخلة في التراحم والتواصل بين الأقارب والأرحام، حيث يغلب على الشهر الكريم السمات الإيجابية التي أوصى بها ديننا الحنيف البعيدة عن القطيعة والشحناء، ولعل تتبع كل السمات الإيجابية سيكون متعبا وشاقا ولكننا سنحاول سبر غور أهمها وأكثرها شهرة. {الشعبنة} تعود أهل مكة وقراها وباديتها على استغلال الأيام الأخيرة من شهر شعبان لعمل الزيارات والولائم الجماعية التي يحضرها أبناء الأسرة الكبيرة جميعا، والمقصود بالأسرة الكبيرة الأخوة المتفرقون وأبناء عمومتهم الأقربون وأسرة الأخوات، حيث توجه الدعوات إلى الجميع في الأيام الأخيرة من شعبان بالتناوب في ما بينهم، وقد تكون في المنازل أو في شعاب مكة اذا كان شعبان ربيعيا أو في أوائل الشتاء والجو معتدل، وتسمى هذه العادة الشعبنة. وتمارس هذه العادة بشكل جماعي، حيث تحضر كل أسرة بعض أنواع الأطعمة للمساهمة في إثراء مائدة صاحب الدعوة، وكانوا يستحيون من الحضور إلى الوليمة دون أن يحضروا معهم شيئا، وما يميز الشعبنة أجواء الفرح والسمر التي تصاحبها سواء في اجتماع الرجال أو النساء أو في لهو الصغار معاً، وتسمى الجماعة الكبيرة التي تحضر الوليمة أو الشعبنة في لهجة أهل مكة القدامى {البشكة}. الركب وهو أحد التقاليد المكية، حيث يتفق مجموعة من الأقارب او الأصدقاء على السفر الى المدينة المنورة في بداية شهر شعبان، فيخرج المتفقون ركبا واحدا على ظهور الجمال او الحمير، وقد استعدوا لسفرهم منذ أواخر شهر رجب، وتهيأوا لزيارة مدينة الرسول الأكرم والعودة قبل منتصف شعبان ليكونوا على أهبة الاستعداد لاستقبال شهر رمضان المبارك. والطريف في الأمر أن المسافر الذي ينوي شد الرحال إلى المدينة المنورة يهتم بجمله أو حماره أشد الاهتمام قبل فترة من السفر، فيعلفه جيدا ويأخذه الى أماكن {الدرمغة} كما كان المكيون يسمونها، وهي الأراضي ذات الرمل الناعم، كما يهتم بنظافته ويزينه بالحناء والأغطية المطرزة والقلائد بنفس الطريقة التي يجهز المكيون بها الركاب للأعراس، مما يدل على أن الحجازي كان يولي زيارة المدينة المنورة قبل رمضان أهمية قصوى كأنه مقبل على الزواج. وعادة ما يسير الركب المكي ليلتقي بالركب الطائفي عند حي الزاهر، حيث يجتمع الأهل والأقارب والأصدقاء لوداعهم، ثم يبدأ المكيون وأهل الطائف بالمسير الى المدينة المنورة مرورا بوادي فاطمة ثم سعفان ثم القضيمة، حيث يلتقون بالركب {الجداوي} المتجه الى المدينة أيضا، ومن المتعارف عليه ان القافلة تسير بعد صلاة العصر الى الفجر ثم يخلد القوم للنوم والغداء، ثم ينطلقون مرة أخرى بعد العصر، وعند وصولهم يقيمون في المدينة عدة أيام ثم يعودون الى مدنهم ثانية بذات الطريقة. {سيدي شاهين} هو نوع من الاحتقال الذي كان يقيمه أهل المدينة المنورة في منتصف شهر شعبان، ويكون مقدمة استعدادهم لاستقبال شهر رمضان، فتوزع الحلوى على الأطفال المحتفلين الذي يدورون على المحلات والمنازل مرددين {سيدي شاهين يا شربيت خرقة مرقة يا أهل البيت إما جواب والا تواب والا نكسر الباب} فيعطيهم الناس ما تيسر من الأطعمة. الاستعداد للشهر يبدأ الأهالي بالاستعداد لاستقبال شهر رمضان بشراء حاجاتهم للشهر الكريم من أطعمة وأوانٍ والعديد من الحاجات الأخرى، كما تقوم النسوة بتنظيف بيوتهن طلبا لبركة الشهر وابتهاجا به، ويشترين قطع الخام لخياطتها ثوبا رمضانيا، ولم تكن النساء الحجازيات يذهبن إلى السوق إلا نادرا، فكان الرجال هم الذين يأتون بالحاجات الرمضانية كالأطعمة من السوق، وأما الملابس فكن يشترينها من الباعة المتجولين الذين يطوفون بالأحياء والحواري، وهم يحملون {البكشة} على ظهورهم ويعرضون ما لديهم على النساء فيشترين حاجاتهن منهم. ويطلق الحجازيون على هؤلاء الباعة اسم {الفرّقنا} وهم في الغالب رجال من أهالي المنطقة، وبعض {الفرقنا} كانوا من النساء أيضا، ويأخذ هؤلاء الباعة بضائعهم من المحلات المشهورة في الحواضر ويبيعونها في الأطراف والقرى البعيدة، وما باعوه يدفعون ثمنه، وما بقي معهم يعيدونه الى أصحابه، وكانوا يستخدمون خشبة طولها حوالي 80 سنتيمترا لقياس الخام الدري تسمى الهنداسة. والشراء قبل رمضان وفي أول أيامه لا يقتصر على الحاجات الرمضانية من الملابس بل كانت أغلبية الأسر رجالا ونساء يشترون ما بقي من ملابس العيد أيضا، ولم تكن الملابس المستوردة منتشرة في تلك الفترة، فكان معظم المتوفر منها في أسواق ومحلات المدن الحجازية صناعات محلية، وتقوم النسوة اللاتي يقطن أوقاف الرعاية أو ما يسمى بـ{الرباط} بتصنيع العديد من الأنواع المتداولة أو التي تعوّد الحجازيون على ارتدائها، ولمن لا يعرف {الأربطة} هي منازل أوقفها أصحابها لإيواء النسوة اللاتي مات أهاليهن ولم يبق لهن أحد. ويقوم صاحب الرباط بإيواء مجموعة من النسوة بما يسمح الرباط باستيعابه ويوفر لهن السكن والماء وبعض الأطعمة، في حين تقوم هؤلاء النسوة بصناعة بعض الملابس التي يمكن تسويقها في اسواق الحجاز، مثل السراويل الطويلة والكوافي والمدورة والمحرمة والبكشة والكمر وسائر الملابس والاكسسوارات التقليدية. {جابوه} و{القيلات} اشتهر أهل المدينة خاصة بـ«الجابوه} وهي قيام الأطفال بالمرور في الحواري والازقة مرددين انشودة شهيرة تسمى {جابوه ما جابوه}، حيث ينشدونها حينما يثبت هلال شهر رمضان لإبلاغ الأهالي بثبوت الرؤية، وتنطلق مسيرة الأطفال عادة بأعداد صغيرة من المسجد النبوي ثم يبدأ الأطفال بالالتحاق بهم كلما مروا بحارة أو سكة حتى ينتشر الخبر سريعا في ارجاء المدينة. وأما {القيلات} فتكون عادة إذا جاء رمضان في فصل الشتاء وموسم الامطار، حيث يخرج الأهالي الى البساتين المجاورة مشيا على الاقدام او الى منطقة المهاريس التي تقع جنوب جبل احد، حيث تتوفر بعض الحفر الطبيعية التي تتجمع فيها مياه الامطار، فيقوم الأهالي بإعداد طعام الفطور هناك بما يشبه الرحلة وأهم الأكلات التي يتم إعدادها في مثل هذه الرحلات المعدوس وهو الرز والعدس لسهولة إعداده ومناسبته مع الأجواء الجميلة، ويقوم الأهالي بعمل الشاي من ماء المطر، كما يشربون ماء المطر بكثرة لاعتقادهم أنه يطرد السحر والعين والنفوس الشريرة. التواصل وصلة الأرحام بساطة الحياة الحجازية وطيبة أهل الحجاز في الماضي تستحق أن تروى، فرغم انتشار الفقر والعوز لم يكن من أهل الحجاز جوعى، إذ كانت طرق التواصل والتكافل منتشرة بشكل كبير ويتداولها الناس طوال الشهر المبارك وبقية الشهور أيضا، لم تكن الخلافات والقطيعة تستمر بين الأهل والأقارب والجيران في رمضان، كان الحجازيون يستغلون الشهر الكريم في التواصل والتسامح، حيث يعتقدون ان استمرار القطيعة يضر بصيام العبد ويقلل من أجره، لذا فإنهم كانوا يتسابقون الى المبادرة بالاعتذار والتسامح من أول الشهر. كذلك كانوا يتبادلون الأطعمة فيما بينهم، إذ يؤمنون أنه من العيب أن تصل رائحة الطبخ الى أنف جارك دون أن يتذوق ذلك الطعام، وقد تعود الجار ألا يرد الاناء فارغا، فلا بد ان يملأه قبل ان يعيده، وأما اذا لم يكن عنده طعام او لم يطبخ في تلك الليلة فإنه يضع به حفنة من السكر ثم يعيده، جزء من الامر تواصل وجزء منه حياء. تعود الحجازيون عامة والمدنيون وأهل جدة خصوصا وضع طاولة امام محلات الخبازين، فحين يشتري الناس خبزهم يخرجون منه الرغيف والاثنين ويضعونه على تلك الطاولة، فيأتي الفقير ويأخذ حاجته منه دون الحاجة الى سؤال الناس، وحين يأخذ الخبز فإنه يأخذ حاجته فقط ولا يزيد ليبقي الزائد للمحتاجين الآخرين. قصة حقيقية يروي الباحث أحمد باديب، وهو من أهالي جدة، ان أحد باعة الفول كان يبيع عبوة الزبدية بريال وكان يقف امام محل عطارة والدي قبل الإفطار وقبل السحور، فكان الناس يشترون منه عبوة او اثنتين او أكثر حسب حجم العائلة وحاجتها، وكان يسأل القادم للشراء بكم تريد فيقول بريال أو بريالين، وبعض الزبائن حين يسألهم كانوا يقولون {بالصلاة على النبي}، فكان يملأ زبديتهم أكثر من أصحاب الريال والريالين، ولا يدفعون له شيئا، وحين كنت أسأل والدي بعفوية الصغير، كان يرد علي بأن الصلاة على النبي أكبر من كل الأموال يا ولدي. نفس بائع الفول هذا انتقل إلى المنطقة الشرقية في أواخر خمسينيات القرن الماضي فأصبح مليونيرا معروفا ومشهورا في المملكة العربية السعودية بعد ذلك ببركة الصدقات التي كان يعملها في الرمضانات الماضية عبر ملء زبديات الفقراء والمعوزين في تلك الأيام. خصوصية مكة تبقى مكة دون غيرها من حواضر الحجاز حية طوال الليل لا تنام أبدا، فهي مقصد المسلمين من كل أنحاء الدنيا، خاصة في رمضان، حيث يؤدي الناس العمرة الرمضانية وصلاة التراويح في المسجد الحرام، ولا تهدأ مكة طوال اليوم حيث الحركة الدائمة والدؤوبة، وتنتشر البسطات والباعة الجائلون قبل المغرب حول المسجد الحرام والاحياء القريبة منه، وتباع في البسطات الأطعمة السريعة التي عادة ما يكون الطلب عليها من الزوار والمعتمرين القادمين من خارج مكة، ومن هذه الأطعمة الفول والبليلة والترمس والكبدة، وتهدأ مكة تماماً في وقت الإفطار، ثم تعود الحركة من جديد قبل صلاة العشاء والتراويح فتستمر حتى السحور دون توقف. *كاتب وباحث كويتي المسحراتي ارتبطت عادة المسحراتي بكل الحواضر والمدن والأقاليم العربية. وفي الحجاز كان لكل حي من أحياء المدن مسحراتي خاص به يحمل طبلة تسمى البازة يمسكها بيد ويضربها بالأخرى، وينادي على الناس لإيقاظهم وقت السحر لتناول وجبة السحور، وينتقل من حارة إلى أخرى، وهو يردد الجمل التراثية المتداولة في الحجاز مثل: قم يا نايم وحد الدايم، والسحور يا عباد الله. ولم يكن للمسحراتي أجر ثابت، بل كان يعتمد على المستوى المعيشي لأهل الحي، فمنهم من يعطيه بعض القروش يوميا، وبعضهم يعطيه بعض الأطعمة أو الغلال، في حين كانت أجرته الكبيرة في يوم العيد، حيث كان الناس يعطونه بعض النقود كنوع من الشكر له أو كعيدية. أشهر الأكلات عُرف عن أهل الحجاز شراؤهم لحاجاتهم من الأطعمة الرمضانية بما يكفي الشهر الكريم منذ شهر شعبان، فكانوا يخزنون {المونة}، كما يسمونها، مبكرا كما تعودوا أن يشتروا البهارات والنكهات التي يزينون بها أكلاتهم بكثرة، وكانت هذه البهارات متوافرة في محلات العطارة ويسمونها (الابازير). وللحجازيين أطعمة وأكلات خاصة بهم أو مشتركة مع مناطق أخرى، ولعل أشهر الأكلات في الإفطار كانت أكلة الفول، الذي كان يطبخ في المنازل أو يتم شراؤه من الفوالين المتنقلين المنتشرين في الأحياء والحواري، وكانت المائدة، بالإضافة إلى الفول، تحتوي عادة على بعض الأكلات المتعارف عليها في رمضان كاللحوم باستخداماتها المختلفة والسمبوسة والصيادية التي اشتهر بها أهل جدة دون بقية الحواضر الحجازية، وهي أكلة يعتبر السمك مكونها الرئيسي، وتؤكل غالبا في السحور. أما أشهر المشروبات الرمضانية الحجازية فكانت السوبيا التي تصنع في المنازل، في حين كانت أهم الحلويات الرمضانية الحجازية الدبياجة او الدبيازة، كما يسميها أهل المدينة المنورة، وهي خليط من الزبيب والبندق وعين الجمل والقمردين وتؤكل في رمضان وأيام العيد، وكانت النسوة يبدعن في صناعة المعمول الذي كانت لا تخلو منه مائدة الإفطار.
توابل
رمضان في الحجاز
19-06-2015