لما كانت الليلة الثانية والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود لما دخل القصر حيث تعيش "الورد في الأكمام”، انتبه حمام الأيك من ذهوله، وأكثر من التغريد والنواح، حتى كاد ينطق بالترنيمات، وأنشد عنه لسان الحال هذه الأبيات:

أيها العاشق قد أذكرتني

Ad

زمناً فيه شبابي قد فنــي

وحبيباً كنت أهوى شكله

ذا جمال فائق يفتننـــــي

كنت أرجو أنه ذو رأفة

إذ يراني عاشقا يرحمني

فرماني بالجفا بعد الوفا

وبناء الحب قد أحرقني

يا رعي الله محباً عاشقاً     

مارس الحب وقاسي شجني

ثم التفت أنس الوجود إلى الجارية الأصفهانية وقال لها: ما حكاية هذا القصر وما فيه؟ فقالت له: بناه وزير الملك الفلاني لابنته خوفاً عليها من أعراض الزمان وطوارق الحدثان، وأسكنها فيه هي وأتباعها، لا تفتحه إلا كل سنة مرة حينما تأتي المؤونة. فقال لنفسه: الآن بلغت المقصود. وكانت محبوبته الورد في الأكمام، لم يهنأ لها شراب ولا طعام، ولا قعود ولا منام. فقامت تتمشى في القصر وقد زاد بها الغرام والوجد والهيام وسكبت العبرات، وصعدت إلى سطح القصر، وأخذت أثواباً بعلبكية وربطت بها نفسها، ثم تدلت حتى وصلت إلى الأرض، وكانت لابسة أفخر ما عندها من الثياب، وفي عنقها عقد من الجواهر، ولم تزل سائرة في تلك البراري والقفار حتى وصلت إلى شاطئ البحر، فرأت صياداً في قارب رمته الريح إلى تلك الجزيرة، فلما رأها فزع منها، ومضي هارباً، فنادته وأكثرت إليه الإشارات، وأنشدت هذين البيتين:

أيها الصياد لا تخش الكـــــدر

إنني إنسية مـــــثل البشر

فارحم القلب الذي ذاقَ الهوى

مُذ رأى محبوبَه مــنه نفر

لما سمع الصياد كلامها، بكى واشتكى، وتذكر ما مضى له أيام صباه، حين غلب عليه هواه، ثم أرسى قاربه على البر، وقال لها: انزلي حتى أمضي بك إلى أي موضع تريدين. فنزلت في القارب ومضى بها في البحر وقد اشتدت الريح، حتى غاب البر عن أعينهما، وصار الصياد لا يعرف أين يذهب، ومكث اشتداد الريح مدة ثلاثة أيام، وصلا بعدها إلى مدينة على شاطئ البحر.

لما كانت الليلة الثالثة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن المدينة التي وصل إليها الصياد و”الورد في الأكمام”، كان لها ملك عظيم السطوة، يقال له درباس، وكان في ذلك الوقت جالساً هو وابنه يتفرّجان على البحر من شباك القصر، فوقعت عيناهما على "الورد في الأكمام”، وهي كأنها البدر في ليلة التمام، وفي أذنيها قُرط نفيس، وفي عنقها عقد من الجواهر، فعرفا أنها من بنات الأكابر، ونزل الملك من قصره وخرج من باب البحر إلى الشاطئ، فوجدها نائمة هناك والصياد مشغول يربط القارب، فأيقظها الملك وقال لها: من أين أنتِ؟ وما سبب مجيئك هنا؟ فقالت الورد في الأكمام: أنا ابنة وزير الملك شامخ، وسبب مجيئي هنا أمر عجيب وشأن غريب، وحكت له قصّتها من أولها إلى آخرها.

لما سمع الملك كلامها، أخذته الشفقة عليها وقال لها: لا خوف عليك وقد وصلت إلى هنا، فلا بد من أن أبلغك بما تريدينه. ثم دعا وزيره، وأعطاه هدايا كثيرة كي يذهب بها إلى الملك شامخ، ويأتي من مملكته بشخص اسمه أنس الوجود، كتب له رسالةً بذلك، وقال له: إن لم تأتني به تكن معزولاً من مرتبتك. فقال: سمعاً وطاعة. ثم توجّه بالهدية إلى الملك شامخ.

لما وصل وزير الملك درباس إلى الملك شامخ، أعطاه الرسالة والهدية، فقال له: إن أنس الوجود رحل من عندنا ولا نعلم مكانه، فآتني به وأنا أعطيك أضعاف ما جئت به من الهدية. ثم بكى وأنَّ واشتكى، وقال للوزير: ارجع إلى سيدك وأخبره بأن أنس الوجود، له عام وهو غائب ولا يدري أحد أين ذهب. فقال له الوزير: يا مولاي سيدي قال لي إن لم تأتني به تكن معزولاً عن الوزارة ولا تدخل مدينتي، فكيف أذهب إليه بغيره؟ فقال الملك شامخ لوزيره إبراهيم: اذهب معه للبحث عن أنس الوجود في سائر الأماكن. فقال له: سمعاً وطاعة. ثم أخذ جماعة من أتباعه واصطحب وزير الملك درباس، وساروا جميعاً في طلب أنس الوجود.

الملك درباس

عنوان فرعي

لما كانت الليلة الرابعة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم وزير الملك شامخ لم يزل سائراً ومعه أتباعه ووزير الملك درباس، وكلما مروا بقوم يسألونهم عن أنس الوجود، إلى أن وصلوا شاطئ البحر، فركبوا سفينة ساروا بها إلى جبل الثكلى. قال وزير الملك درباس لوزير الملك شامخ: لأي شيء سمي هذا الجبل بهذا الاسم؟ فأجاب: لأنه نزلت به جنية في قديم الزمان، وكانت من جن الصين، وقد أحبت إنساناً وخافت على نفسها وعليه من أهلها، فبحثت في الأرض عن مكان تخفيه فيه، ثم اختارت هذا الجبل المنقطع الذي لا يهتدي إلى طريقه أحد من الإنس ولا من الجن، ووضعت محبوبها فيه، وصارت تغافل أهلها وتأتيه خفية، ولم تزل على ذلك زمناً طويلاً حتى ولدت منه في ذلك الجبل أطفالاً كثيرين.

وكان من يمرّون على الجبل من التجار المسافرين يسمعون بكاء أولئك الأطفال، وهو كبكاء المرأة التي ثكلت أولادها أي فقدتهم، فتعجَّب وزير الملك درباس من ذلك الكلام، ثم ساروا حتى وصلوا إلى القصر وطرقوا الباب، ففتحته جارية عرفت سيدها إبراهيم وزير الملك شامخ، فقبلت يديه وأدخلته ومن معه إلى القصر، وهناك في ساحته وجد رجلاً فقيراً هو أنس الوجود، فقال للجارية: مَن هذا؟ فقالت: إنه رجل تاجر غرق ماله ونجا بنفسه. فتركه ثم مشى إلى داخل القصر، فلم يجد لابنته أثراً، فسأل الجواري عنها، فقلن له: ما عرفنا كيف راحت، ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة. فسكب العبرات، وأنشد هذه الأبيات:

أيها الدار التي أطيارهــــــا

قد تغنت وازدهت أعتابــــــها

فأتاها الصب ينعي شوقــه

ورأها فتحت أبوابـــــــــــــها

ليت شعري أين ضاعت مهجتي

عند دار قد نأت أربابـــــها

لما فرغ من شعره، بكى وأنَّ واشتكى، وقال: لا حيلة في قضاء الله، ولا مفر مما قدره وقضاه. ثم صعد إلى سطح القصر فوجد الثياب البعلبكية مربوطة في شراريف القصر واصلة إلى الأرض، فعرف أنها نزلت من ذلك المكان، والتفت فرأى هناك غراباً وبومة فتشاءم من ذلك، وأنشد هذه الأبيات:

أتيت إلى دار الأحبة راجياً   

بآثارهم إطفاء وجدي ولوعــــــــتي

فلم أجد الأحباب فيها ولم أجد

بها بعدهم غير الغراب وبومة

وقال لسان الحال: قد كنت ظالماً

وفرقت بين المغرمين الأحبة

فذق طعم ما ذاقوه من ألم الجوى

وعش كمدا ما بين دمع وحرقة

أما أنس الوجود، فإنه ما علم بأن "الورد في الأكمام” قد ذهبت حتى صاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه. ولما يئسوا من وجود أنس الوجود، واشتغل قلب الوزير إبراهيم بفقد ابنته الورد في الأكمام، أراد وزير الملك درباس أن يتوجه إلى بلاده، وإنْ لم يفز من سفره بمراده، وقال للوزير إبراهيم والد الورد في الأكمام: أريد أن آخذ هذا الفقير معي عسى الله أن يعطف على قلب الملك ببركته لأنه مجذوب. ثم أرسله إلى بلاد أصبهان لأنها قريبة من بلادنا، فقال له: افعل ما تريدن. ثم انصرف كل منهما متوجهاً إلى بلاده، وقد أخذ وزير الملك درباس انس الوجود معه.

الملك شامخ

عنوان فرعي

لما كانت الليلة الخامسة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود بقي ثلاثة أيام محمولاً على البغال وهو لا يدري، فلما أفاق من غشيته قال: في أي مكان أنا؟ فقالوا له: أنت في صحبة وزير الملك درباس. ثم ذهبوا إلى الوزير وأخبروه بأنه أفاق، فأرسل إليه ماء الورد والسكر فسقوه وأنعشوه. ولم يزالوا مسافرين حتى قربوا من مدينة الملك درباس فأرسل الملك إلى الوزير يقول له: إن لم يكن أنس الوجود معك فلا تأتني أبداً.

وكان الوزير لا يعلم أن "الورد في الأكمام” عند الملك، ولا يعلم أين أنس الوجود، ولا سبب إرسال الملك إياه لإحضاره كما كان أنس الوجود لا يعلم أين يذهبون به ولا يعلم أن الوزير مرسل في طلبه. لما تلقى الوزير رسالة الملك، وكان أنس الوجود قد أفاق قال له: إن الملك قد أرسلني في حاجة، فلم أستطع قضاءها، ولما علم بقدومي أرسل إلىّ يقول: إن لم تكن الحاجة قد قضيت فلا تدخل مدينتي. فقال له: وما حاجة الملك؟ فحكى له جميع ما جرى، فقال له أنس الوجود: لا تخف واذهب إلى الملك وخذني معك وأنا أضمن لك مجيء أنس الوجود.

فرح الوزير بذلك وأخذه معه إلى الملك. لما وصلا إليه وسأله: أين أنس الوجود؟ فأجابه: إن هذا المجذوب الذي جئت به يعرف مكانه. فالتفت الملك إلى أنس الوجود وقال له: في أي مكان هو؟ قال: في مكان قريب جداً، ولكن أخبرني ماذا تريد منه وأنا أحضره بين يديك. فقال له: حبا وكرامة، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى خلوة. ثم أمر الناس بالانصراف، ودخل معه خلوة حيث أخبره بالقصة من أولها إلى آخرها. فقال له أنس الوجود: آتني بثياب فاخرة وألبسني إياها وأنا آتيك بأنس الوجود.

جاء له ببدلة فاخرة فلبسها ثم قال: أنا أنس الوجود، فأين هي الورد في الأكمام يا ملك الزمان؟ فأجابه: هي عندي الآن. ثم أحضر الملك القاضي والشهود وعقد عقدها عليه، وأكرمه وأحسن إليه.

ثم أرسل الملك درباس إلى الملك شامخ وأخبره بجميع ما اتفق له من أمر أنس الوجود والورد في الأكمام، ففرح الملك شامخ بذلك غاية الفرح، وأرسل إليه يقول: قد تم عندك عقد القران، فينبغي أن يكون الزفاف عندي. ثم جهز الجمال، والخيل والرجال، وأرسل في طلبهما. لما وصلت الرسالة إلى الملك درباس، أمدهما بمال عظيم، وأرسلهما مع جملة من عسكره إلى مدينتهما حيث احتفل الملك شامخ بزفافهما، وجمع لذلك المطربات، وعمل الولائم.

ومكثوا على ذلك سبعة أيام، وفي كل يوم يخلع الملك شامخ على الناس الخلع السنية، ويحسن إليهم، ثم دخل أنس الوجود على الورد في الأكمام فعانقها وجلسا يبكيان من فرط الفرح والمسرات.

لما كانت الليلة السادسة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود، بعد أن بلغ غاية المقصود لم يزل مع الورد في الأكمام في منادمة وانسجام حتى غرقا في بحر الغرام، ومضت عليهما سبعة أيام، وهما لا يفرقان بين النور والظلام، لفرط ما هما فيه من لذة وسرور، وصفور وحبور. ولم يزالا في ألذ المسرات، إلى أن أتاهما هازم اللذات، ومفرق الجماعات فسبحان من لا يحول ولا يزول، وإليه كل الأمور تؤول.

لما سمع الملك شهريار هذه الحكاية، اهتز عجباً ومال طرباً، فسألته شهرزاد: هل سمعت يا مولاي بحكاية مدينة النحاس، التي لم ير مثلها أحد من الناس؟ فأجابها: لم أسمع بها يا نور عيني، فبالله قصّيها عليّ.

مدينة النحاس
قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك من ملوك الأمة الإسلامية، في عهد الدولة الأموية، يسمى عبد الملك بن مروان. كان محباً للعلماء والحكماء، يتباحث معهم كل صباح ومساء. اتفق أن كانوا في مجلسه يوماً من الأيام، فتذاكروا أخبار سيدنا سليمان بن داود عليه السلام، وفيما أعطاه الله تعالى من ملك لم يكن لأحد غيره من الأنام، فدان لحكمه الثقلان، من الإنس والجان، وامتد ماله من جاه وسلطان، حتى شمل الطير والوحوش والحيتان. قال بعض الحاضرين: إن الله سبحانه وتعالى لم يعط أحداً مثل ما أعطى سيدنا سليمان، وقد وصل إلى شيء لم يصل إليه أحد. حتى أنه كان يسجن الجن والمردة والشياطين في قماقم من النحاس، ويختم عليهم بالرصاص.

لما كانت الليلة السابعة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة عبدالملك بن مروان، لما سمع كلام العلماء عن حكم سيدنا سليمان للمردة والشياطين، التفت إلى طالب بن سهل وسأله: ما عندك في هذا الأمر؟ فأجاب: سمعت يا أمير المؤمنين أن رجلاً ركب سفينة مع جماعة قاصدين إلى بلاد الهند، ولم يزالوا سائرين حتى هبت عليهم ريح فوّجهتهم إلى أرض مجهولة من أراضي الله تعالى.

وكان ذلك في سواد الليل. لما أشرق النهار، خرج إليهم من مغارات تلك الأرض أقوامٌ سود عراة الأجسام كأنهم وحوش، لا يفقهون خطاباً، ولهم ملك من جنسهم لكنه يعرف اللغة العربية، فسلم بها على ركاب السفينة، ورحّب بهم وسألهم عن دين الإسلام وعن بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نحن لا نعرف شيئاً من هذا. فقال لهم الملك: إنه لم يصل إلينا أحد من بني آدم قبلكم. ثم أنزلهم في ضيافته، وصار يقدم لهم لحم الطير والوحوش والسمك، وهو طعام أهل مملكته.

بينما هم يتفرجون يوماً على شاطئ البحر، وجدوا أحد الصيادين وقد رمى شبكة في البحر ليصطاد سمكاً، فلما رفعها إذا فيها قمقم من نحاس، مختوم عليه بخاتم سليمان بن داود عليه السلام، وما إن فتحه الصياد حتى خرج منه دخان أزرق صعد إلى عنان السماء، وسمعوا صوتاً منكراً يقول: التوبة التوبة يا نبي الله.

ثم انعقد ذلك الدخان وتكشَّف عن مارد مهول الخلقة، انطلق يعدو حتى اختفى وراء الجبل، ولما رآه أهل السفينة كادت تنخلع قلوبهم. أما أهل المدينة فلم يكونوا أقل دهشة. ثم ذهبوا إلى الملك وسألوه في ذلك، فقال لهم: هذا مارد من الجن الذين كان سليمان يحكمهم، وإذا غضب عليهم سجنهم في هذه القماقم وختم عليها ثم رماها في البحر، فلما كسر الصياد ذلك القمقم، خرج منه المارد الذي كان مسجوناً فيه، وظن أن سليمان ما زال حياً فصاح: التوبة يا نبي الله، فتعجب القوم من ذلك.

لما سمع الخليفة عبد الملك بن مروان هذا الكلام، قال: سبحان الله، لقد أوتي سليمان ملكاً عظيماً. وكان أحد الشعراء حاضراً ذلك المجلس، فقال: صدق طالب فيما أخبر به، والدليل على صدقه قول النابغة الذبياني:

وفي سليمان إذ قال الإله له.. قم بالخلافة واحكم حكم مُجتــهِدِ

فمن أطاعك فأكرمه بطاعته... ومن أبى عنك فاحبسه إلى الأبد

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد